الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          ( شمول النصوص للأحكام وتفاوت الأفهام فيها ) .

                          وقد صدر الفصل الأول بمقدمة نفيسة في نوعي الدلالة وتفاوت الأفهام في النصوص فقال :

                          ( الفصل الأول ) في شمول النصوص وإغنائها عن القياس ، وهذا يتوقف على بيان مقدمة ، وهي : أن دلالة النصوص نوعان : حقيقية وإضافية . فالحقيقة تابعة لقصد المتكلم وإرادته ، وهذه الدلالة لا تختلف ، والإضافية تابعة لفهم السامع وإدراكه وجودة فكره وقريحته وصفاء ذهنه ومعرفته الألفاظ ومراتبها ، وهذه الدلالة تختلف اختلافا متباينا بحسب تباني السامعين في ذلك ، وقد كان أبو هريرة وعبد الله بن عمرو أحفظ الصحابة للحديث وأكثرهم رواية له ، وكان الصديق وعمر وعلي وابن مسعود وزيد بن ثابت أفقه منهما ، بل عبد الله بن عباس أيضا أفقه منهما ومن عبد الله بن عمر . [ ص: 144 ] " وقد أنكر النبي صلى الله عليه وسلم على عمر فهمه إتيان البيت الحرام عام الحديبية من إطلاق قوله : " إنك ستأتيه وتطوف به " فإنه لا دلالة في هذا اللفظ على تعيين العام الذي يأتونه فيه .

                          وأنكر على عدي بن حاتم في فهمه من الخيط الأبيض والخيط الأسود نفس العقالين : " وأنكر على من فهم من قوله : " لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال حبة خردلة من كبر " شمول لفظه لحسن الثوب وحسن الفعل ، وأخبرهم أنه بطر الحق وغمط الناس .

                          " وأنكر على من فهم من قوله : " من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه ، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه " أنه كراهة الموت ، وأخبرهم أن هذا للكافر إذا احتضر وبشر بالعذاب ؛ فإنه حينئذ يكره لقاء الله والله يكره لقاءه ، وأن المؤمن إذا احتضر وبشر بكرامة الله أحب لقاء الله وأحب الله لقاءه .

                          " وأنكر على عائشة إذ فهمت من قوله تعالى : ( فسوف يحاسب حسابا يسيرا ) ( 84 : 8 ) معارضته لقوله صلى الله عليه وسلم : " من نوقش الحساب عذب " وبين لها أن الحساب اليسير هو العرض ، أي حساب العرض لا حساب المناقشة .

                          " وأنكر على من فهم من قوله تعالى : ( من يعمل سوءا يجز به ) ( 4 : 123 ) أن هذا الجزاء إنما هو في الآخرة وأنه لا يسلم أحد من عمل السوء ، وبين أن هذا الجزاء قد يكون في الدنيا بالهم والحزن والمرض والنصب وغير ذلك من مصائبها ، وليس في اللفظ تقييد الجزاء بيوم القيامة .

                          " وأنكر على من فهم من قوله تعالى : ( الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون ) ( 6 : 82 ) أنه ظلم النفس بالمعاصي وبين أنه الشرك ، وذكر قول لقمان لابنه : ( إن الشرك لظلم عظيم ) ( 31 : 13 ) مع أن سياق اللفظ عند إعطائه حقه من التأمل يبين ذلك ، فإن الله سبحانه لم يقل ولم يظلموا أنفسهم بل قال : ( ولم يلبسوا إيمانهم بظلم ) ولبس الشيء بالشيء : تغطيته به وإحاطته به من جميع جهاته ، ولا يغطي الإيمان ويحيط به ويلبسه إلا الكفر ، ومن هذا قوله تعالى : ( بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ) ( 2 : 82 ) فإن الخطيئة لا تحيط بالمؤمن أبدا ، فإن [ ص: 145 ] إيمانه يمنعه من إحاطة الخطيئة به ، ومع أن سياق قوله : ( وكيف أخاف ما أشركتم ولا تخافون أنكم أشركتم بالله ما لم ينزل به عليكم سلطانا فأي الفريقين أحق بالأمن إن كنتم تعلمون ) ( 6 : 81 ) ثم حكم الله أعدل حكم وأصدقه أن من آمن ولم يلبس إيمانه بظلم فهو أحق بالأمن والهدى ، فدل على أن الظلم الشرك .

                          " وسأله عمر بن الخطاب عن الكلالة وراجعه فيها مرارا فقال : " يكفيك آية الصيف " واعترف عمر بأنه خفي عليه فهمها ، وفهمها الصديق .

                          " وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن لحوم الحمر الأهلية ففهم بعض الصحابة من نهيه أنه لكونها لم تخمس ، وفهم بعضهم أن النهي لكونها كانت حمولة القوم وظهورهم ، وفهم بعضهم أنه لكونها كانت حول القرية .

                          " وفهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه في الجنة وكبار الصحابة ما قصده رسول الله صلى الله عليه وسلم بالنهي وصرح بعلته من كونها رجسا .

                          وفهمت المرأة من قوله تعالى : ( وآتيتم إحداهن قنطارا ) ( 4 : 20 ) جواز المغالاة في الصداق فذكرته لعمر فاعترف به .

                          وفهم ابن عباس من قوله تعالى : ( وحمله وفصاله ثلاثون شهرا ) ( 46 : 15 ) مع قوله تعالى : ( والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين ) ( 2 : 233 ) أن المرأة قد تلد لستة أشهر ، ولم يفهمه عثمان فهم برجم امرأة ولدت حتى ذكره ابن عباس فأقر به .

                          ولم يفهم عمر من قوله : " أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله ، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها " قتال مانعي الزكاة حتى بين له الصديق ( ذلك ) فأقر به : وفهم قدامة بن مظعون من قوله تعالى : ( ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما اتقوا وآمنوا ) ( 5 : 93 ) رفع الجناح عن الخمر حتى بين له عمر أنه لا يتناول الخمر ، ولو تأمل سياق الآية لفهم المراد منها ، فإنه إنما رفع الجناح عنهم فيما طعموه متقين له فيه ، وذلك إنما يكون باجتناب ما حرمه من المطاعم ، فالآية لا تتناول المحرم بوجه ما .

                          وقد فهم من فهم من قوله تعالى : ( ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة ) ( 2 : 195 ) انغماس [ ص: 146 ] الرجل في العدو حتى بين له أبو أيوب الأنصاري أن هذا ليس من الإلقاء بيده إلى التهلكة ، بل هو من بيع الرجل نفسه ابتغاء مرضاة الله ، وأن الإلقاء بيده إلى التهلكة هو ترك الجهاد والإقبال على الدنيا وعمارتها .

                          وقال الصديق رضي الله عنه : " أيها الناس ، إنكم تقرءون هذه الآية وتضعونها على غير مواضعها : ( يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم ) ( 5 : 105 ) وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه أوشك أن يعمهم الله بعقاب من عنده " فأخبرهم أنهم يضعونها على غير مواضعها في فهمهم منها خلاف ما أريد بها .

                          وأشكل على ابن عباس أمر الفرقة الساكتة التي لم ترتكب ما نهيت عنه من اليهود هل عذبوا أو نجوا حتى بين له مولاه عكرمة دخولهم في الناجين دون المعذبين ، وهذا هو الحق لأنه سبحانه قال عن الساكتين : ( وإذ قالت أمة منهم لم تعظون قوما الله مهلكهم أو معذبهم عذابا شديدا ) ( 7 : 164 ) فأخبر أنهم أنكروا فعلهم وغضبوا عليهم ، وإن لم يواجهوهم بالنهي فقد واجههم به من أدى الواجب عنهم ، فإن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض كفاية ، فلما قام به أولئك سقط عن الباقين فلم يكونوا ظالمين بسكوتهم . وأيضا فإنه سبحانه إنما عذب الذين نسوا ما ذكروا به وعتوا عما نهوا عنه ، وهذا لا يتناول الساكتين قطعا ، فلما بين عكرمة لابن عباس أنهم لم يدخلوا في الظالمين المعذبين كساه بردة وفرح به .

                          وقد قال عمر بن الخطاب للصحابة : " ما تقولون في ( إذا جاء نصر الله والفتح ) ( 110 : 1 ) السورة قالوا : أمر الله نبيه إذا فتح عليه أن يستغفره فقال لابن عباس : ما تقول أنت قال : هو أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلمه إياه ، فقال : ما أعلم منها غير ما تعلم ، وهذا من أدق الفهم وألطفه ولا يدركه كل أحد ، فإنه سبحانه لم يعلق الاستغفار بعلمه ، بل علقه بما يحدثه هو سبحانه من نعمة فتحه على رسوله ودخول الناس في دينه ، وهذا ليس بسبب للاستغفار ، فعلم أن سبب الاستغفار غيره ، وهو حضور الأجل الذي من تمام نعمة الله على عبده توفيقه للتوبة النصوح والاستغفار بين يديه ليلقى ربه طاهرا مطهرا من كل ذنب ، فيقدم عليه مسرورا راضيا مرضيا عنه . ويدل عليه ( أيضا ) ( فسبح بحمد ربك واستغفره ) وهو صلى الله عليه وسلم كان يسبح بحمده دائما فعلم أن المأمور به من ذلك التسبيح بعد الفتح ودخول الناس في الدين أمر أكثر من ذلك المتقدم ، وذلك مقدمة بين يدي انتقاله إلى الرفيق الأعلى ، وأنه قد بقيت عليه من عبودية التسبيح والاستغفار التي [ ص: 147 ] ترقيه إلى ذلك المقام بقية فأمره بتوفيتها . ويدل عليه أيضا أنه سبحانه شرع التوبة والاستغفار في خواتيم الأعمال فشرعها في خاتمة الحج وقيام الليل ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا سلم من الصلاة استغفر ثلاثا ، وشرع للمتوضئ بعد كمال وضوئه أن يقول : " اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين " فعلم أن التوبة مشروعة عقيب الأعمال الصالحة ، فأمر رسوله بالاستغفار عقيب توفيته ما عليه من تبليغ الرسالة والجهاد في سبيله حين دخل الناس في دينه أفواجا ، فكأن التبليغ عبادة قد أكملها وأداها فشرع له الاستغفار عقيبها .

                          والمقصود تفاوت الناس في مراتب الفهم في النصوص ، وأن منهم من يفهم من الآية حكما أو حكمين ، ومنهم من يفهم منها عشرة أحكام أو أكثر من ذلك ، ومنهم من يقتصر في الفهم على مجرد اللفظ دون سياقه ودون إيمائه وإشارته وتنبيهه واعتباره ، وأخص من هذا وألطف ضمه إلى نص آخر متعلق به فيفهم من اقترانه به قدرا زائدا على ذلك اللفظ بمفرده . وهذا باب عجيب من فهم القرآن لا يتنبه له إلا النادر من أهل العلم ، فإن الذهن قد لا يشعر بارتباط هذا بهذا وتعلقه به ، وهذا كما فهم ابن عباس من قوله : ( وحمله وفصاله ثلاثون شهرا ) مع قوله : ( والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين ) أن المرأة قد تلد لستة أشهر ، وكما فهم الصديق من آية الفرائض في أول السورة وآخرها أن الكلالة من لا ولد له ولا والد ، وأسقط الإخوة بالجد ، وقد أرشد النبي صلى الله عليه وسلم عمر إلى هذا الفهم حيث سأله عن الكلالة وراجعه السؤال فيها مرارا فقال : " يكفيك آية الصيف " وإنما أشكل على عمر قوله : ( قل الله يفتيكم في الكلالة إن امرؤ هلك ليس له ولد ) ( 4 : 176 ) الآية فدله النبي صلى الله عليه وسلم على ما بين له المراد منها ، وهي الآية الأولى التي نزلت في الصيف ، فإنه ورث فيها ولد الأم في الكلالة السدس ، ولا ريب أن الكلالة فيها من لا ولد له ولا والد وإن علا " انتهت المقدمة .

                          أقول : ثم إنه أورد بعد هذه المقدمة عدة مسائل مما اختلف فيه السلف ومن بعدهم بينتها النصوص ، وهي ست مسائل في أحكام المواريث وقد وضح فيها إغناء النص عن القياس أتم الإيضاح .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية