الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          ( الربا : موضوعه وعلته وحكمته ) .

                          ( 1 ) قال : " الربا نوعان : جلي ، وخفي . فالجلي حرم لما فيه من الضرر العظيم ، والخفي حرم لأنه ذريعة إلى الجلي ، فتحريم الأول قصدا وتحريم الثاني وسيلة . .

                          " فأما الجلي فربا النسيئة وهو الذي كانوا يفعلونه في الجاهلية ، مثل أن يؤخر دينه ويزيده في المال ، وكلما أخره زاد في المال حتى تصير المائة عنده آلافا مؤلفة ، وفي الغالب لا يفعل ذلك إلا معدم محتاج ، فإذا رأى المستحق يؤخر مطالبته ويصبر عليه بزيادة يبذلها له ، تكلف بذلها ليفتدي من أسر المطالبة والحبس ، ويدافع من وقت إلى وقت ، فيشتد ضرره وتعظم مصيبته ، ويعلوه الدين حتى يستغرق جميع موجوده " إلخ .

                          ( أقول ) : وهذا الربا الجاهلي هو الذي نزل فيه التشديد والوعيد . وقال الإمام أحمد : إنه هو الربا الذي لا شك فيه كما نقله المصنف عنه في هذا السياق وغيره عنه وعن [ ص: 151 ] غيره من السلف وهو الذي روى فيه ابن عباس وأسامة بن زيد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " لا ربا إلا في النسيئة أو إنما الربا في النسيئة " كما رواه الشيخان في الصحيحين . وقد روي أن ابن عباس وابن عمر لم يكونا يحرمان ربا الفضل ، وقيل : رجعا عن ذلك ، وجزم الحافظ في الفتح برجوع الثاني والاختلاف في رجوع الأول . ويحتمل أن يكون مرادهما بالربا ما نزل فيه وعيد القرآن كما تقدم في تفسير آياته في سورتي البقرة وآل عمران . وذهب ابن القيم في هذا السياق إلى ما اعتمده الجمهور من أن المراد به حصر الكمال ، أي أن الربا التام الكامل لا يكون إلا في النسيئة ( قال ) : فإن ربا الفضل إنما سمي ربا تجوزا من باب إطلاق اسم المقصد على الوسيلة ، وهو نحو من إطلاق اسم المسبب على السبب ويدل على ذلك حديث أبي سعيد الخدري الآتي .

                          وأقول : هو من قبيل إطلاق اسم الزنا على النظر إلى المرأة الأجنبية بشهوة . وإنما حرم هذا النظر والخلوة بالأجنبية لسد الذريعة كربا الفضل .

                          ( قال ) : وأما ربا الفضل فتحريمه من باب سد الذرائع كما صرح به في حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم : ( لا تبيعوا الدرهم بالدرهمين فإني أخاف عليكم الرماء " والرماء هو الربا ، فمنعهم من ربا الفضل لما يخاف عليهم من ربا النسيئة ، إلى آخر ما قاله في إيضاح ذلك وهو واضح .

                          ( 2 ) بين أن الحديث نص على تحريم الربا في ستة أعيان وهي الذهب والفضة والبر والشعير والتمر والملح ، ثم قال : فاتفق الناس على تحريم التفاضل فيها مع اتحاد الجنس أي كبيع الذهب بالذهب والقمح بالقمح ، بخلاف بيع الذهب بالفضة ، والقمح بالشعير مثلا ، فإنهم جوزوه وتنازعوا فيما عداها ، فطائفة قصرت التحريم عليها ، وأقدم من يروي هذا عن قتادة ، وهو مذهب أهل الظاهر ، واختيار ابن عقيل ( هو من أئمة الحنابلة ) في آخر مصنفاته مع قوله بالقياس ، قال : لأن علل القياسين في مسألة الربا ضعيفة ، وإذا لم تظهر فيه علة امتنع القياس .

                          ( 3 ) بين أن أهل القياس اختلفوا في علة تحريم الربا في تلك الأعيان الستة التي ورد بها الحديث . فأما البر والشعير والتمر والملح فذهب بعضهم كأبي حنيفة وظاهر الرواية عن أحمد أن علته كونه مكيلا وموزونا فيجري الربا في كل مكيل وموزون ، وذهب بعض آخر إلى أن علته كونه طعاما ، وهو مذهب سعيد بن المسيب والشافعي ورواية عن أحمد فيجري على كل ما يطعم ، وذهب غيرهم إلى أن علة ذلك كونها قوت الناس ، وعبارة [ ص: 152 ] ابن القيم : وطائفة خصته بالقوت وما يصلحه ، وهذا قول مالك وهو أرجح هذه الأقوال كما ستراه . أقول : واعتبر بعض المالكية في القوت ما يدخر . وأما الذهب والفضة فالعلة فيهما عند أبي حنيفة وأحمد في إحدى الروايتين عنه الوزن ، فيجري الربا على هذا في كل موزون وكل مكيل من المعادن كغيرها ، وهذا أوسع الأقوال وأشدها في الربا ، والجمهور على أن العلة فيها الثمنية ؛ أي كونها معيار الأثمان في المعاملات كلها . قال ابن القيم : وهذا قول الشافعي ومالك وأحمد في الرواية الأخرى ، وهذا هو الصحيح بل الصواب ، ثم أورد الأدلة على ذلك ، وأولها : الإجماع على إسلامهما في الموزونات من النحاس والحديد وغيرهما ، فلو كان النحاس والحديد ربويين لم يجز بيعهما إلى أجل بدراهم نقدا ، فإن ما يجري فيه الربا إذا اختلف جنسه جاز التفاضل فيه دون النساء ، والعلة إذا انتقضت من دون فرق مؤثر دل على بطلانها إلى آخر ما قاله .

                          ( 4 ) بنى ابن القيم بيان حكمة تحريم الربا على الراجح المختار من تعليل حصره في الأجناس الستة ، ولا تظهر حكمة ذلك على قول من قال : إن الربا يجري في كل ما يكال ويوزن ، بل هذا التضييق على العباد لا يعقل له حكمة ، ولا هو عبادة بالنص ، وقد بينا حكمة تحريم الربا في تفسير آياته من سورتي البقرة وآل عمران فيراجع هناك وفي إعلام الموقعين .

                          ( 5 ) بين أيضا أن ما حرم لذاته لا يباح شرعا إلا للضرورة إن كان مما يضطر إليه ، وما حرم لسد الذريعة يباح للحاجة والمصلحة ، وبنى على ذلك جواز بيع الحلية من الذهب والفضة بنقود منهما تزيد على وزنها في مقابلة ما فيها من الصنعة ، واستدل على هذا الجواز بأدلة منقولة ومعقولة أيضا ، واستشهد على جواز ربا الفضل للمصلحة الراجحة بإباحة النبي صلى الله عليه وسلم بيع العرايا ، وذكر من نظائره إباحة نظر الخاطب والطبيب والشاهد إلى المرأة الأجنبية حتى إن الطبيب ينظر كل عضو تتوقف معالجته على النظر إليه ، وكذا لمسه وإباحة لبس الحرير لمنع الحكة أو القمل ، والأمثلة والشواهد كثيرة .

                          والغرض مما لخصناه هنا بيان فضيلة المذهب الوسط بين مذهبي نفي القياس ألبتة والتوسع فيه باستنباط العلل البعيدة . فمقتضى مذهب ابن حزم أنه إذا وجد أهل قطر لا قوت لهم [ ص: 153 ] إلا الرز ولا نقد لهم من النحاس فإنه يباح لهم الربا في نقدهم وقوتهم ، وهذا ينافي حكمة الشارع في تحريم ذلك وهو غلو في الإباحة . ويقابله الغلو في الحظر وهو مذهب القائلين بجريان الربا في كل مكيل وموزون . والمذهب الوسط : أن الأجناس الستة المذكورة في الحديث كانت ولا تزال معيار الأثمان وأصول الأقوات لأكثر البشر ، فكان ربا النسيئة فيها وهو الذي يتضاعف أضعافا كثيرة مضرا بهم ضررا بليغا ، فكان من الرحمة والمصلحة تحريمه أشد التحريم وجعله من الكبائر ، وتحريم ما كان ذريعة له تحريم الصغائر . فإذا وجدت هذه العلة في نقد آخر غير الذهب والفضة ، وقوت آخر غير البر والشعير والتمر والبلح صح قياسهما على الأجناس الستة لحلولهما محلها ، وانطباق حكمة التشريع على ذلك .

                          ( فإن قيل ) : إن المعتدلين في القياس من أهل الأثر لا يعتدون إلا بالعلة الثابتة عن الشارع بالنص ، كقوله تعالى في تحريم الميتة والدم ولحم الخنزير : ( فإنه رجس ) ( 6 : 145 ) أي خبيث مستقذر فهو داخل في عموم ( ويحرم عليهم الخبائث ) ( 7 : 157 ) ولا نص على علة الربا ( قلنا ) : إنهم يريدون بالنص هنا ما ثبت بالمنطوق أو المفهوم أو القرينة الواضحة ، كفحوى الخطاب ولحنه وما يقوم مقامه ، فمنه ما يكون معلوما من مقاصد الشرع بالضرورة أو البداهة ، أو بضرب من ضروب الدلائل اللفظية كترتيب الحكم على المشتق كالزاني والسارق . والأجناس الستة التي ورد الحديث بجريان الربا فيها من هذا القبيل ، فإن تخصيصها بالذكر لا بد أن يكون لمعنى فيها اقتضاه ، وإلا كان لغوا أو عبثا يتنزه عنه العقلاء ، فكيف يصدر عن الأنبياء ؟ ! وليس فيها معنى تمتاز به على غيرها من المعادن والأطعمة إلا كونها تقود الناس التي هي معيار معاملاتهم ومبادلاتهم ، وأغذيتهم الرئيسية وأصول أقواتهم ، وأما كونها توزن أو تكال فهو من صفاتها العامة ، ككونها تنقل وتحمل وتنظر وتلمس وتباع وتشترى ، ولو كانت هذه الصفات مقصودة للنبي صلى الله عليه وسلم لما عبر عن الكثير الذي لا يحصر ببعض أفراده من غير بيان لعلته ، بل كان البيان الصحيح يتوقف على ما يفهم به المراد من التعبير ، كأن يقول : كل ما يكال أو يوزن فحكمه كذا ، وما قررناه واضح جدا وإن خفي على بعض أئمة الفقهاء . فقد رأيت أن أكابر علماء الصحابة الذين كانوا أوسع علما وفهما للنصوص من أولئك الفقهاء بشهادة علماء الأمة كلهم قد خفي على بعضهم ما هو مثل هذه المسألة في الوضوح أو أشد . والبشر عرضة للغفلة والذهول ، وإن من أنهض الحجج على بطلان التزام تقليد فرد معين من العلماء ما ظهر كالشمس من خطأ أكابر المجتهدين في بعض الأحكام ، إما بمخالفة النص الصريح ، وإما بتنكب القياس الصحيح .

                          ولم أر مثلا لجعل الكيل والوزن علة للربا أظهر من جعل " الدخول في جوف " علة [ ص: 154 ] لتحريم الأكل والشرب على الصائم في كون كل من العلتين لا يدل عليهما الشرع ولا اللغة ولا العقل المدرك للحكم والمصالح; ولذلك قاسوا على الأكل والشرب إدخال المسبار في جرح البطن أو الرأس . حتى قال بعضهم : إذا خرجت مقعدته عند الغائط فأدخلها بيده أي بعد الاستنجاء فإنه يفطر ! .

                          وبأمثال هذه الأقيسة زادت أحكام العبادات وأنواع المحرمات على ما كان معروفا في زمن إكمال الدين أضعافا كثيرة ، ولم يبق لنا شيء ينطبق عليه ما امتن به علينا الشارع من سكوته عن أشياء عفا عنها رحمة بنا من غير نسيان تحقيقا لقوله تعالى : إنه يريد بنا اليسر ولا يريد بنا العسر ، وإنه ما جعل علينا في الدين من حرج وإنه لا يريد أن يعنتنا .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية