الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          فصل في حكم شهادة غير المسلمين على المسلمين .

                          هذا بحث شرعي يجب أن نعطيه حقه من الاستقلال في الاستدلال فنقول : اعلم أن آيات القرآن في الإشهاد والاستشهاد منها المطلق ومنها المقيد . قال تعالى في اللاتي يأتين [ ص: 192 ] الفاحشة من المسلمات : ( فاستشهدوا عليهن أربعة منكم ) ( 4 : 15 ) الآية . وقال تعالى في شأن المطلقات المعتدات : ( فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف وأشهدوا ذوي عدل منكم وأقيموا الشهادة لله ذلكم يوعظ به من كان يؤمن بالله واليوم الآخر ) ( 65 : 2 ) وقال تعالى في آية التداين : ( واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء ) ثم قال فيها : ( وأشهدوا إذا تبايعتم ) ( 2 : 282 ) ولم يقل هنا : " ذوي عدل منكم " ومثله في الإطلاق قوله تعالى في اليتامى : ( فإذا دفعتم إليهم أموالهم فأشهدوا عليهم ) ( 4 : 6 ) .

                          فإذا تأملنا في هذه الآيات مع آيتي المائدة اللتين نحن في صدد تفسيرهما وبحثنا عن حكمة الإطلاق والتقييد فيهن كلهن ، نرى أنه جل وعز اشترط في الاستشهاد أو الإشهاد في الوقائع المتعلقة بأمور المؤمنات الشخصية أن يكون الإشهاد من المؤمنين ، ولم يذكر هذا القيد في الإشهاد على دفع أموال اليتامى إليهم ، ولا في الإشهاد على البيع ، والفرق بين الأحكام المالية المحضة وأحكام النساء المؤمنات جلي واضح ، وأما قوله في آية الدين وهي في الأحكام المالية : ( واستشهدوا شهيدين من رجالكم ) فظاهر اللفظ أن المراد به الرجال المؤمنون لأنهم المخاطبون ، وهو الذي عليه الجماهير ، ويحتمل أن يكون هذا الوصف لأجل بيان تقديم صنف الرجال في الشهادة على ما يقابله من شهادة الصنفين ، وأن الإضافة فيه روعي فيها الواقع أو الغالب بقرينة وصف المقابل بقوله : ( ممن ترضون من الشهداء ) إذ لم يقل : " من شهدائكم " أو " من رجالكم ونسائكم " تم بقرينة إطلاق الأمر بالإشهاد على الدين في الآية نفسها .

                          فلقائل أن يقول : لو أراد الله تعالى أن يبين لنا أنه لا يجوز لنا أن نشهد في الأعمال المالية غير المؤمنين لجاء في كل نص من تلك النصوص بما يدل على ذلك وإن تقاربت على حد قوله في الأمور العامة : ( ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم ) ( 4 : 83 ) وإنما يدل مجموع الآيات على أن الأصل أو الكمال في الإشهاد أن يكون الشهود من عدول المؤمنين للثقة بشهادتهم ، والاحتراز من الكذب والزور والخيانة التي يكثر وقوعها ممن لا ثقة بأيمانهم وعدالتهم ، وأن يلتزم هذا الأصل في الإشهاد على الأمور الخاصة بنساء المسلمين وبيوتهم إذ لا يحتاج فيها إلى غيرهم ، وليس من شأن سواهم أن يعرفها ، ولوجوب الاحتياط فيها; ولذلك قال في آية الطلاق : ( ذلكم يوعظ به من كان يؤمن بالله واليوم الآخر ) وورود نص القرآن فيمن يقذف امرأة بأن يجلد ثمانين جلدة وألا تقبل له شهادة أبدا .

                          [ ص: 193 ] وبناء على هذا يقال في آية المائدة : إن الله تعالى قدم إشهاد عدول المؤمنين على الوصية ؛ لأنه الأصل الذي يحصل به المقصود على الوجه الكامل ، وأجاز إشهاد غيرهم في الحال التي لا يتيسر فيها ذلك ، وإن الشرط في قوله : ( إن أنتم ضربتم في الأرض ) جاء لبيان هذا الحال فمفهومه غير مراد كقوله تعالى : ( ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصنا ) ( 24 : 33 ) ومن يرى رأي الحنفية في عدم الاحتجاج بمفهوم الشرط ومفهوم اللقب يمكنه أن يرجح هذا القول أي ترجيح ، والكلام فيما تدل عليه آيات القرآن ، دون ما يدعى فيه غير ذلك من قياس أو إجماع فقهاء .

                          ودونك ما ورد في ذلك عن علماء السلف وأئمة الفقه كما لخصه الحافظ ابن حجر في شرح البخاري ونقله الشوكاني عنه في ( نيل الأوطار ) في شرح حديث ابن عباس في قصة السهمي المتقدمة الذي رواه البخاري وأبو داود قال :

                          " واستدل بهذا الحديث على جواز شهادة الكفار بناء على أن المراد بالغير في الآية الكريمة الكفار ، والمعنى ( منكم ) أي من أهل دينكم ( أو آخران من غيركم ) أي من غير أهل دينكم ، وبذلك قال أبو حنيفة ومن تبعه ، وتعقب بأنه لا يقول بظاهرها ، فلا يجيز شهادة الكفار على المسلمين . وإنما يجيز شهادة بعض الكفار على بعض . وأجيب بأن الآية دلت بمنطوقها على قبول شهادة الكفار على المسلم ، وبإيمائها على قبول شهادة الكافر على الكافر بطريق الأولى ، ثم دل الدليل على أن شهادة الكافر على المسلم غير مقبولة فبقيت شهادة الكافر على الكافر على حالها ، وهذا الجواب على التعقب في غير محله ؛ لأن التعقب هو باعتبار ما يقوله أبو حنيفة لا باعتبار استدلاله .

                          " وخص جماعة القبول بأهل الكتاب وبالوصية وبفقد المسلم حينئذ ، ومنهم ابن عباس وأبو موسى الأشعري وسعيد بن المسيب وشريح وابن سيرين والأوزاعي والثوري وأبو عبيدة وأحمد ، وأخذوا بظاهر الآية وحديث الباب ، فإن سياقه مطابق لظاهر الآية .

                          " وقيل : المراد بالغير غير العشيرة ، والمعنى منكم أي من عشيرتكم ، أو آخران من [ ص: 194 ] غيركم أي من غير عشيرتكم ، وهو قول الحسن البصري ، واستدل له النحاس بأن لفظ " آخر " لا بد أن يشارك الذي قبله في الصفة حتى لا يسوغ أن يقول : مررت برجل كريم ولئيم آخر ، فعلى هذا فقد وصف الاثنان بالعدالة ، فتعين أن يكون الآخران كذلك وتعقب بأن هذا وإن ساغ في الآية لكن الحديث دل على خلاف ذلك ، والصحابي إذا حكى سبب النزول كان ذلك في حكم الحديث المرفوع اتفاقا وأيضا ففيما قال رد المختلف فيه بالمختلف فيه; لأن اتصاف الكافر بالعدالة مختلف فيه وهو فرع قبول شهادته ، فمن قبلها وصفه بها ومن لا فلا .

                          واعترض أبو حيان على المثال الذي ذكره النحاس بأنه غير مطابق ، فلو قلت جاءني رجل مسلم وآخر كافر صح ، بخلاف ما لو قلت جاءني رجل مسلم وكافر آخر والآية من قبيل الأول لا الثاني; لأن قوله آخران من جنس قوله اثنان لأن كلا منهما صفة رجلان ، فكأنه قال فرجلان اثنان ورجلان آخران .

                          " وذهب جماعة من الأئمة إلى أن هذه الآية منسوخة بقوله تعالى : ( ممن ترضون من الشهداء ) واحتجوا بالإجماع على رد شهادة الفاسق ، والكافر شر من الفاسق . وأجاب الأولون أن النسخ لا يثبت بالاحتمال ، وأن الجمع بين الدليلين أولى من إلغاء أحدهما ، وبأن سورة المائدة من آخر ما نزل من القرآن ، حتى صح عن ابن عباس وعائشة وعمرو بن شرحبيل وجمع من السلف أن سورة المائدة محكمة .

                          وعن ابن عباس أن الآية نزلت فيمن مات مسافرا وليس عنده أحد من المسلمين فإن اتهما استحلفا . أخرجه الطبري بإسناد رجاله ثقات ، وأنكر أحمد على من قال إن هذه الآية منسوخة ، وقد صح عن أبي موسى الأشعري أنه عمل بذلك بعد النبي صلى الله عليه وسلم وساق الحافظ الحديث وقال : إن حكمه لم ينكره أحد من الصحابة فكان حجة ، وذكر رد الطبري والرازي لقول من قال : إنها في الأقارب والأجانب ، وقد تقدم ذلك كله ثم قال :

                          " وذهب الكرابيسي والطبري وآخرون إلى أن المراد بالشهادة في الآية اليمين قالوا : وقد سمى الله اليمين شهادة في آية اللعان ، وأيدوا ذلك بالإجماع على أن الشاهد لا يلزمه أن يقول أشهد بالله ، وأن الشاهد لا يمين عليه إن شهد بالحق ، قالوا : فالمراد بالشهادة اليمين لقوله : ( فيقسمان بالله ) أي يحلفان ، فإن عرف أنهما حلفا على الإثم رجعت اليمين على الأولياء ، وتعقب بأن اليمين لا يشترط فيه عدد ولا عدالة بخلاف الشهادة وقد اشترطا في هذه القصة فقوي حملها على أنها شهادة .

                          " وأما اعتلال من اعتل في ردها بأن الآية تخالف القياس والأصول لما فيها من قبول [ ص: 195 ] شهادة الكافر وحبس الشاهد وتحليفه ، وشهادة المدعي لنفسه ، واستحقاقه بمجرد اليمين فقد أجاب من قال به بأنه حكم بنفسه مستغن عن نظيره ، وقد قبلت شهادة الكافر في بعض المواضع كما في الطب ، وليس المراد بالحبس السجن وإنما المراد الإمساك لليمين ليحلف بعد الصلاة ، وأما تحليف الشاهد فهو مخصوص بهذه الصورة عند قيام الريبة ، وأما شهادة المدعي لنفسه واستحقاقه بمجرد اليمين فإن الآية تضمنت نقل الأيمان إليهم عند ظهور اللوث بخيانة الوصيين ، فيشرع لهما أن يحلفا ويستحقا ، كما يشرع لمدعي القسامة أن يحلف ويستحق . فليس هو من شهادة المدعي لنفسه بل من باب الحكم له بيمينه القائمة مقام الشهادة لقوة جانبه . وأي فرق بين ظهور اللوث في صحة الدعوى بالدم وظهوره في صحة الدعوى بالمال ؟ وحكى الطبري أن بعضهم قال : المراد بقوله : ( اثنان ذوا عدل منكم ) الوصيان : قال : والمراد بقوله : ( شهادة بينكم ) معنى الحضور لما يوصيهما به الوصي ثم زيف ذلك " اهـ .

                          قال الشوكاني بعد نقل ما تقدم عن الفتح . وهذا الحكم يختص بالكافر الذمي ، وأما الكافر الذي ليس بذمي فقد حكى في البحر الإجماع على عدم قبول شهادته على المسلم مطلقا انتهى . وأقول : ما أورده الشوكاني من دعوى صاحب البحر من أئمة الزيدية الإجماع على عدم قبول شهادة الكافر غير الذمي مطلقا مردود بما نقله ابن جرير واختار أن " غيركم " يدخل فيه المجوس وعبدة الأوثان وأهل كل دين .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية