الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      معلومات الكتاب

                                                                                                                                                                                                                                      فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية

                                                                                                                                                                                                                                      الشوكاني - محمد بن علي بن محمد الشوكاني

                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      مثلهم كمثل الذي استوقد نارا فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون صم بكم عمي فهم لا يرجعون

                                                                                                                                                                                                                                      ( مثلهم ) مرتفع بالابتداء ، وخبره إما الكاف في قوله : ( كمثل ) لأنها اسم : أي مثل مثل كما في قول الأعشى : أتنتهون ولن تنهى ذوي شطط كالطعن يذهب فيه الزيت والفتل وقول امرئ القيس :     ورحنا بكابن الماء يجنب وسطنا
                                                                                                                                                                                                                                      تصوب فيه العين طورا وترتقي أراد مثل الطعن وبمثل ابن الماء ، ويجوز أن يكون الخبر محذوفا : أي مثلهم مستنير كمثل ، فالكاف على هذا حرف .

                                                                                                                                                                                                                                      والمثل : الشبه ، والمثلان : المتشابهان و " الذي " موضوع موضع الذين : أي كمثل الذين استوقدوا ، وذلك موجود في كلام العرب كقول الشاعر :     وإن الذي حانت بفلج دماؤهم
                                                                                                                                                                                                                                      هم القوم كل القوم يا أم خالد ومنه وخضتم كالذي خاضوا [ التوبة : 69 ] ومنه والذي جاء بالصدق وصدق به أولئك هم المتقون [ الزمر : 33 ] .

                                                                                                                                                                                                                                      ووقود النار : سطوعها وارتفاع لهبها ، استوقد بمعنى أوقد مثل استجاب بمعنى أجاب ، فالسين والتاء زائدتان ، قاله الأخفش .

                                                                                                                                                                                                                                      ومنه قول الشاعر :     وداع دعا يا من يجيب إلى الندا
                                                                                                                                                                                                                                      فلم يستجبه عند ذاك مجيب أي يجبه .

                                                                                                                                                                                                                                      والإضاءة فرط الإنارة ، وفعلها يكون لازما ومتعديا .

                                                                                                                                                                                                                                      و ما حوله قيل : ما زائدة .

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل : هي موصولة في محل نصب على أنها مفعول ( أضاءت ) وحوله منصوب على الظرفية ، وذهب من الذهاب ، وهو زوال الشيء .

                                                                                                                                                                                                                                      ( وتركهم ) أي أبقاهم ( في ظلمات ) جمع ظلمة .

                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ الأعمش بإسكان اللام على الأصل .

                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ أشهب العقيلي بفتح اللام ، وهي عدم النور .

                                                                                                                                                                                                                                      و ( صم ) وما بعده خبر مبتدأ محذوف : أي هم .

                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ ابن مسعود " صما بكما عميا " بالنصب على الذم ، ويجوز أن ينتصب بقوله ( تركهم ) .

                                                                                                                                                                                                                                      والصمم : الانسداد ، يقال قناة صماء : إذا لم تكن مجوفة ، وصممت القارورة : إذا سددتها ، وفلان أصم : إذا انسدت خروق [ ص: 34 ] مسامعه .

                                                                                                                                                                                                                                      والأبكم : الذي لا ينطق ولا يفهم ، فإذا فهم فهو الأخرس .

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل : الأخرس والأبكم واحد .

                                                                                                                                                                                                                                      والعمى : ذهاب البصر .

                                                                                                                                                                                                                                      والمراد بقوله : فهم لا يرجعون أي إلى الحق ، وجواب لما في قوله فلما أضاءت ، قيل هو : ذهب الله بنورهم وقيل : محذوف تقديره : طفئت فبقوا حائرين .

                                                                                                                                                                                                                                      وعلى الثاني فيكون قوله : ذهب الله بنورهم كلاما مستأنفا أو بدلا من المقدر .

                                                                                                                                                                                                                                      ضرب الله هذا المثل للمنافقين لبيان أن ما يظهرونه من الإيمان مع ما يبطنونه من النفاق لا يثبت لهم به أحكام الإسلام ، كمثل المستوقد الذي أضاءت ناره ثم طفئت ، فإنه يعود إلى الظلمة ولا تنفعه تلك الإضاءة اليسيرة ، فكان بقاء المستوقد في ظلمات لا يبصر كبقاء المنافق في حيرته وتردده .

                                                                                                                                                                                                                                      وإنما وصفت هذه النار بالإضاءة مع كونها نار باطل لأن الباطل كذلك تسطع ذوائب لهب ناره لحظة ثم تخفت .

                                                                                                                                                                                                                                      ومنه قولهم : للباطل صولة ثم يضمحل وقد تقرر عند علماء البلاغة أن لضرب الأمثال شأنا عظيما في إبراز خفيات المعاني ورفع أستار محجبات الدقائق ولهذا استكثر من ذلك في كتابه العزيز ، وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يكثر من ذلك في مخاطباته ومواعظه .

                                                                                                                                                                                                                                      قال ابن جرير : إن هؤلاء المضروب لهم المثل هاهنا لم يؤمنوا في وقت من الأوقات ، واحتج بقوله تعالى : ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين [ البقرة : 8 ] .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال ابن كثير : إن الصواب أن هذا إخبار عنهم في حال نفاقهم وكفرهم ، وهذا لا ينفي أنه كان حصل لهم إيمان قبل ذلك ، ثم سلبوه وطبع على قلوبهم كما يفيده قوله تعالى : ذلك بأنهم آمنوا ثم كفروا فطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون [ المنافقون : 3 ] .

                                                                                                                                                                                                                                      قال ابن جرير : وصح ضرب مثل الجماعة بالواحد كما قال : رأيتهم ينظرون إليك تدور أعينهم كالذي يغشى عليه من الموت [ الأحزاب : 19 ] أي كدوران عيني الذي يغشى عليه من الموت ، وقال تعالى : مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفارا [ الجمعة : 5 ] أه .

                                                                                                                                                                                                                                      وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله تعالى : مثلهم كمثل الذي استوقد نارا قال : هذا مثل ضربه الله للمنافقين كانوا يعتزون بالإسلام فيناكحهم المسلمون ويوارثونهم ويقاسمونهم الفيء ، فلما ماتوا سلبهم الله العز كما سلب صاحب النار ضوءه وتركهم في ظلمات لا يبصرون يقول : في عذاب ( صم بكم عمي ) فهم لا يسمعون الهدى ولا يبصرونه ولا يعقلونه .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن جرير عن ابن مسعود وناس من الصحابة في قوله : مثلهم كمثل الذي استوقد نارا قالوا : إن ناسا دخلوا في الإسلام عند مقدم النبي صلى الله عليه وآله وسلم المدينة ثم نافقوا ، فكان مثلهم كمثل رجل كان في ظلمة فأوقد نارا فأضاءت ما حوله من قذى وأذى فأبصره حتى عرف ما يتقي ، فبينما هو كذلك إذ طفئت ناره فأقبل لا يدري ما يتقي من أذى .

                                                                                                                                                                                                                                      فكذلك المنافق كان في ظلمة الشرك فأسلم فعرف الحلال من الحرام والخير من الشر ، فبينما هو كذلك إذ كفر فصار لا يعرف الحلال من الحرام ولا الخير من الشر ، فهم صم بكم هم الخرس ، فهم لا يرجعون إلى الإسلام .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله : كمثل الذي استوقد نارا قال : ضربه الله مثلا للمنافق ، وقوله : ذهب الله بنورهم قال : أما النور فهو إيمانهم الذي يتكلمون به ، وأما الظلمة فهو ضلالهم .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس مثله .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن مجاهد نحوه .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرجا أيضا عن قتادة نحوه .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن أبي حاتم عن عكرمة والحسن والسدي والربيع بن أنس نحو ما تقدم .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية