الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      معلومات الكتاب

                                                                                                                                                                                                                                      فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية

                                                                                                                                                                                                                                      الشوكاني - محمد بن علي بن محمد الشوكاني

                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله حتى إذا جاءتهم الساعة بغتة قالوا يا حسرتنا على ما فرطنا فيها وهم يحملون أوزارهم على ظهورهم ألا ساء ما يزرون وما الحياة الدنيا إلا لعب ولهو وللدار الآخرة خير للذين يتقون أفلا تعقلون قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا ولا مبدل لكلمات الله ولقد جاءك من نبإ المرسلين وإن كان كبر عليك إعراضهم فإن استطعت أن تبتغي نفقا في الأرض أو سلما في السماء فتأتيهم بآية ولو شاء الله لجمعهم على الهدى فلا تكونن من الجاهلين إنما يستجيب الذين يسمعون والموتى يبعثهم الله ثم إليه يرجعون قوله : قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله هم الذين تقدم ذكرهم .

                                                                                                                                                                                                                                      والمراد من تكذيبهم بلقاء الله تكذيبهم بالبعث ، وقيل : تكذيبهم بالجزاء .

                                                                                                                                                                                                                                      والأول أولى ، لأنهم الذين قالوا قريبا إن هي إلا حياتنا الدنيا وما نحن بمبعوثين [ الأنعام : 29 ] حتى إذا جاءتهم الساعة بغتة أي القيامة ، وسميت ساعة لسرعة الحساب فيها .

                                                                                                                                                                                                                                      ومعنى بغتة : فجأة ، يقال : بغتهم الأمر يبغتهم بغتا وبغتة .

                                                                                                                                                                                                                                      قال سيبويه : وهي مصدر في موضع الحال ، قال : ولا يجوز أن يقاس عليه ، فلا يقال : جاء فلان سرعة ، و " حتى " غاية للتكذيب لا للخسران ، فإنه لا [ ص: 416 ] غاية له قالوا ياحسرتنا هذا جواب " إذا جاءتهم " أوقعوا النداء على الحسرة ، وليست بمنادى في الحقيقة ليدل ذلك على كثرة تحسرهم .

                                                                                                                                                                                                                                      والمعنى : يا حسرتنا احضري فهذا أوانك ، كذا قال سيبويه في هذا النداء وأمثاله كقولهم : يا للعجب ويا للرجل ، وقيل : هو تنبيه للناس على عظم ما يحل بهم من الحسرة ، كأنهم قالوا : يا أيها الناس تنبهوا على عظيم ما بنا من الحسرة ، والحسرة : الندم الشديد على ما فرطنا فيها أي على تفريطنا في الساعة : أي في الاعتداد لها ، والاحتفال بشأنها ، والتصديق بها .

                                                                                                                                                                                                                                      ومعنى فرطنا ضيعنا ، وأصله التقدم ، يقال فرط فلان : أي تقدم وسبق إلى الماء ، ومنه قوله صلى الله عليه وآله وسلم : وأنا فرطكم على الحوض ، ومنه الفارط : أي : المتقدم فكأنهم أرادوا بقولهم : على ما فرطنا أي : على ما قدمنا من عجزنا عن التصديق بالساعة والاعتداد لها .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال ابن جرير الطبري : إن الضمير في فرطنا فيها يرجع إلى الصفقة ، وذلك أنهم لما تبين لهم خسران صفقتهم ببيعهم الإيمان بالكفر ، والدنيا بالآخرة قالوا ياحسرتنا على ما فرطنا في صفقتنا ، وإن لم تذكر في الكلام فهو دال عليها ، لأن الخسران لا يكون إلا في صفقة ، وقيل : الضمير راجع إلى الحياة : أي : على ما فرطنا في حياتنا .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله : وهم يحملون أوزارهم على ظهورهم هذه الجملة حالية : أي يقولون تلك المقالة ، والحال أنهم يحملون أوزارهم على ظهورهم أي ذنوبهم ، جمع وزر : يقال وزر يزر ، فهو وازر وموزور ، وأصله من الوزر .

                                                                                                                                                                                                                                      قال أبو عبيدة : يقال للرجل إذا بسط ثوبه فجعل فيه المتاع : احمل وزرك : أي : ثقلك ، ومنه الوزير ، لأنه يحمل أثقال ما يسند إليه من تدبير الولاية .

                                                                                                                                                                                                                                      والمعنى : أنها لزمتهم الآثام فصاروا مثقلين بها ، وجعلها محمولة على الظهور تمثيل ألا ساء ما يزرون أي بئس ما يحملون .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله : وما الحياة الدنيا إلا لعب ولهو أي : وما متاع الدنيا إلا لعب ولهو على تقدير حذف مضاف ، أو ما الدنيا من حيث هي إلا لعب ولهو .

                                                                                                                                                                                                                                      والقصد بالآية تكذيب الكفار في قولهم : ما هي إلا حياتنا الدنيا واللعب معروف ، وكذلك اللهو ، وكل ما يشغلك فقد ألهاك ، وقيل : أصله الصرف عن الشيء .

                                                                                                                                                                                                                                      ورد بأن اللهو بمعنى الصرف لامه ياء ، يقال : لهيت عنه ، ولام اللهو واو ، يقال : لهوت بكذا وللدار الآخرة خير للذين يتقون أفلا تعقلون سميت آخرة لتأخرها عن الدنيا : أي هي خير للذين يتقون الشرك والمعاصي ، أفلا تعقلون ذلك .

                                                                                                                                                                                                                                      قرأ ابن عامر : ( ولدار الآخرة ) بلام واحدة وبالإضافة وقرأ الجمهور باللام التي للتعريف معها ، وجعل الآخرة نعتا لها والخبر " خير " ، وقرئ " تعقلون " بالفوقية والتحتية .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله : قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون هذه اللام مبتدأ مسوق لتسلية رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - عما ناله من الغم والحزن بتكذيب الكفار له ، ودخول قد للتكثير فإنها قد تأتي لإفادته كما تأتي رب والضمير في " إنه " للشأن ، وقرئ بفتح الياء من " يحزنك " وضمها ، وقرئ " يكذبونك " مشددا ومخففا ، واختار أبو عبيد قراءة التخفيف .

                                                                                                                                                                                                                                      قال النحاس : وقد خولف أبو عبيد في هذا .

                                                                                                                                                                                                                                      ومعنى " يكذبونك " على التشديد : ينسبونك إلى الكذب ويردون عليك ما قلته .

                                                                                                                                                                                                                                      ومعنى المخفف : أنهم لا يجدونك كذابا .

                                                                                                                                                                                                                                      يقال أكذبته : وجدته كذابا ، وأبخلته : وجدته بخيلا .

                                                                                                                                                                                                                                      وحكى الكسائي عن العرب : أكذبت الرجل : أخبرت أنه جاء بالكذب ، وكذبته : أخبرت أنه كاذب .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال الزجاج : كذبته إذا قلت له كذبت ، وأكذبته : إذا أردت أن ما أتى به كذب .

                                                                                                                                                                                                                                      والمعنى : أن تكذيبهم ليس يرجع إليك فإنهم يعترفون لك بالصدق ، ولكن تكذيبهم راجع إلى ما جئت به ، ولهذا قال : ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون ووضع الظاهر موضع المضمر لزيادة التوبيخ لهم والإزراء عليهم ، ووصفهم بالظلم لبيان أن هذا الذي وقع منهم ظلم بين .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله : ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا هذا من جملة التسلية لرسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - : أي أن هذا الذي وقع من هؤلاء إليك ليس هو بأول ما صنعه الكفار مع من أرسله الله إليهم ، بل قد وقع التكذيب لكثير من الرسل المرسلين من قبلك فاقتد بهم ولا تحزن واصبر كما صبروا على ما كذبوا به وأوذوا حتى يأتيك نصرنا كما أتاهم فإنا لا نخلف الميعاد و لكل أجل كتاب [ الرعد : 38 ] إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا [ غافر : 51 ] ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين إنهم لهم المنصورون وإن جندنا لهم الغالبون [ الصافات : 171 - 173 ] كتب الله لأغلبن أنا ورسلي [ المجادلة : 21 ] .

                                                                                                                                                                                                                                      ولا مبدل لكلمات الله بل وعده كائن وأنت منصور على المكذبين ، ظاهر عليهم .

                                                                                                                                                                                                                                      وقد كان ذلك ولله الحمد ولقد جاءك من نبإ المرسلين ما جاءك من تجري قومهم عليهم في الابتداء وتكذيبهم لهم ثم نصرهم عليهم في الانتهاء ، وأنت ستكون عاقبة هؤلاء المكذبين لك كعاقبة المكذبين للرسل فيرجعون إليك ويدخلون في الدين الذي تدعوهم إليه طوعا أو كرها .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله : وإن كان كبر عليك إعراضهم كان النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - يكبر عليه إعراض قومه ويتعاظمه ويحزن له فبين له الله سبحانه أن هذا الذي وقع منهم من توليهم عن الإجابة له ، والإعراض عما دعا إليه هو كائن لا محالة لما سبق في علم الله عز وجل ، وليس في استطاعته وقدرته إصلاحهم وإجابتهم قبل أن يأذن الله بذلك ، ثم علق ذلك بما هو محال ، فقال : فإن استطعت أن تبتغي نفقا في الأرض فتأتيهم بآية منه أو سلما في السماء فتأتيهم بآية منها فافعل ، ولكنك لا تستطيع ذلك فدع الحزن و فلا تذهب نفسك عليهم حسرات [ فاطر : 8 ] .

                                                                                                                                                                                                                                      و لست عليهم بمسيطر [ الغاشية : 22 ] والنفق : السرب والمنفذ ، ومنه النافقاء لجحر اليربوع ، ومنه المنافق .

                                                                                                                                                                                                                                      وقد تقدم في البقرة ما يغني عن الإعادة .

                                                                                                                                                                                                                                      والسلم : الدرج الذي يرتقى عليه ، وهو مذكر لا يؤنث ، وقال الفراء : إنه يؤنث .

                                                                                                                                                                                                                                      قال الزجاج : وهو مشتق من السلامة ، لأنه يسلك به إلى موضع الأمن ، وقيل : إن الخطاب وإن كان لرسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - فالمراد به أمته ، [ ص: 417 ] لأنها كانت تضيق صدورهم بتمرد الكفرة وتصميمهم على كفرهم ولا يشعرون أن لله سبحانه في ذلك حكمة لا تبلغها العقول ولا تدركها الأفهام ، فإن الله سبحانه لو جاء لرسوله - صلى الله عليه وآله وسلم - بآية تضطرهم إلى الإيمان لم يبق للتكليف الذي هو الابتلاء والامتحان معنى ، ولهذا قال : ولو شاء الله لجمعهم على الهدى جمع إلجاء وقسر ، ولكنه لم يشأ ذلك ولله الحكمة البالغة فلا تكونن من الجاهلين فإن شدة الحرص والحزن لإعراض الكفار عن الإجابة قبل أن يأذن الله بذلك هو صنيع أهل الجهل ولست منهم ، فدع الأمور مفوضة إلى عالم الغيب والشهادة فهو أعلم بما فيه المصلحة ، ولا تحزن لعدم حصول ما يطلبونه من الآيات التي لو بدا لهم بعضها لكان إيمانهم بها اضطرارا .

                                                                                                                                                                                                                                      إنما يستجيب الذين يسمعون أي إنما يستجيب لك إلى ما تدعو إليه الذين يسمعون سماع تفهم بما تقتضيه العقول وتوجبه الأفهام وهؤلاء ليسوا كذلك ، بل هم بمنزلة الموتى الذين لا يسمعون ولا يعقلون لما جعلنا على قلوبهم من الأكنة وفي آذانهم من الوقر ، ولهذا قال : والموتى يبعثهم الله شبههم بالأموات بجامع أنهم جميعا لا يفهمون الصواب ولا يعقلون الحق : أي أن هؤلاء لا يلجئهم الله إلى الإيمان وإن كان قادرا على ذلك كما يقدر على بعثة الموتى للحساب ثم إليه يرجعون إلى الجزاء فيجازي كلا بما يليق به كما تقتضيه حكمته البالغة .

                                                                                                                                                                                                                                      وقد أخرج ابن أبي حاتم ، عن ابن عباس ، في قوله : قالوا ياحسرتنا قال : الحسرة الندامة .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، والطبراني وأبو الشيخ ، وابن مردويه ، والخطيب بسند صحيح عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - في قوله : ياحسرتنا قال : الحسرة أن يرى أهل النار منازلهم من الجنة ، فتلك الحسرة .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج عبد الرزاق ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن قتادة ، في قوله : ألا ساء ما يزرون قال : ما يعملون .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن أبي حاتم ، عن مجاهد في قوله : لعب ولهو قال : كل لعب : لهو .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج الترمذي ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، وابن مردويه ، والحاكم وصححه ، والضياء في المختارة عن علي بن أبي طالب قال : قال أبو جهل للنبي - صلى الله عليه وآله وسلم - : إنا لا نكذبك ولكن نكذب بما جئت به ، فأنزل الله فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن أبي يزيد المدني أن أبا جهل قال : والله إني لأعلم أنه صادق ، ولكن متى كنا تبعا لبني عبد مناف ؟ .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج عبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن مردويه ، عن أبي ميسرة نحو رواية علي بن أبي طالب .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج عبد الرزاق ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن قتادة ، في قوله : ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون قال : يعلمون أنك رسول الله ويجحدون .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن جرير ، عن الضحاك ، في قوله : ولقد كذبت رسل من قبلك قال : يعزي نبيه صلى الله عليه وآله وسلم .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، عن ابن جريج مثله .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عباس ، قال : فإن استطعت أن تبتغي نفقا في الأرض والنفق : السرب ، فتذهب فيه فتأتيهم بآية أو تجعل لهم سلما في السماء فتصعد عليه فتأتيهم بآية أفضل مما أتيناهم به فافعل ولو شاء الله لجمعهم على الهدى يقول سبحانه : لو شئت لجمعتهم على الهدى أجمعين .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج عبد الرزاق ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن قتادة ، في قوله : نفقا في الأرض قال : سربا أو سلما في السماء قال : يعني الدرج .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن أبي شيبة ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن الحسن في قوله : إنما يستجيب الذين يسمعون قال : المؤمنون والموتى قال : الكفار .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج هؤلاء عن مجاهد مثله .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية