الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      معلومات الكتاب

                                                                                                                                                                                                                                      فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية

                                                                                                                                                                                                                                      الشوكاني - محمد بن علي بن محمد الشوكاني

                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      قد جاءكم بصائر من ربكم فمن أبصر فلنفسه ومن عمي فعليها وما أنا عليكم بحفيظ وكذلك نصرف الآيات وليقولوا درست ولنبينه لقوم يعلمون اتبع ما أوحي إليك من ربك لا إله إلا هو وأعرض عن المشركين ولو شاء الله ما أشركوا وما جعلناك عليهم حفيظا وما أنت عليهم بوكيل ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم كذلك زينا لكل أمة عملهم ثم إلى ربهم مرجعهم فينبئهم بما كانوا يعملون [ ص: 440 ] البصائر : جمع بصيرة ، وهي في الأصل : نور القلب ، والمراد بها هنا الحجة البينة والبرهان الواضح ، وهذا الكلام وارد على لسان رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - ، ولهذا قال في آخره : وما أنا عليكم بحفيظ ووصف البصائر بالمجيء تفخيما لشأنها وجعلها بمنزلة الغائب المتوقع مجيئه كما يقال : جاءت العافية ، وانصرف المرض ، وأقبلت السعود ، وأدبرت النحوس فمن أبصر فلنفسه أي فمن تعقل الحجة وعرفها وأذعن لها فنفع ذلك لنفسه لأنه ينجو بهذا الإبصار من عذاب النار ومن عمي عن الحجة ولم يتعقلها ولا أذعن لها ، فضرر ذلك على نفسه لأنه يتعرض لغضب الله في الدنيا ويكون مصيره النار وما أنا عليكم بحفيظ برقيب أحصي عليكم أعمالكم ، وإنما أنا رسول أبلغكم رسالات ربي وهو الحفيظ عليكم .

                                                                                                                                                                                                                                      قال الزجاج : نزل هذا قبل فرض القتال ثم أمر أن يمنعهم بالسيف من عبادة الأوثان .

                                                                                                                                                                                                                                      105 - وكذلك نصرف الآيات أي مثل ذلك التصريف البديع نصرفها في الوعد والوعيد والوعظ والتنبيه .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله : وليقولوا درست العطف على محذوف : أي نصرف الآيات لتقوم الحجة وليقولوا درست ، أو علة لفعل محذوف يقدر متأخرا : أي وليقولوا درست صرفناها ، وعلى هذا تكون اللام للعاقبة أو للصيرورة .

                                                                                                                                                                                                                                      والمعنى : ومثل ذلك التصريف نصرف الآيات وليقولوا درست ، فإنه لا احتفال بقولهم : ولا اعتداد بهم فيكون معناه الوعيد والتهديد لهم وعدم الاكتراث بقولهم .

                                                                                                                                                                                                                                      وقد أشار إلى مثل هذا الزجاج .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال النحاس : وفي المعنى قول آخر حسن ، وهو أن يكون معنى نصرف الآيات نأتي بها آية بعد آية ليقولوا درست علينا فيذكرون الأول بالآخر ، فهذا حقيقته ، والذي قاله أبو إسحاق : يعني الزجاج مجاز ، وفي " درست " قراءات ، قرأ أبو عمرو وابن كثير دارست بألف بين الدال والراء كفاعلت ، وهي قراءة علي وابن عباس ، وسعيد بن جبير ، ومجاهد وعكرمة وأهل مكة .

                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ ابن عامر " درست " بفتح السين وإسكان التاء من غير ألف كخرجت ، وبه قراءة الحسن .

                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ الباقون " درست " كضربت ، فعلى القراءة الأولى المعنى : دارست أهل الكتاب ودارسوك : أي ذاكرتهم وذاكروك ، ويدل على هذا ما وقع في الكتاب العزيز من إخبار الله عنهم بقوله : وأعانه عليه قوم آخرون [ الفرقان : 4 ] أي أعان اليهود النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - على القرآن ، ومثله قولهم : أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلا [ الفرقان : 5 ] ، وقولهم : إنما يعلمه بشر .

                                                                                                                                                                                                                                      والمعنى على القراءة الثانية قدمت هذه الآيات وعفت وانقطعت وهو كقولهم أساطير الأولين [ الأنعام : 25 ] والمعنى على القراءة الثالثة مثل المعنى على القراءة الأولى .

                                                                                                                                                                                                                                      قال الأخفش : هي بمعنى دارست إلا أنه أبلغ .

                                                                                                                                                                                                                                      وحكي عن المبرد أنه قرأ " وليقولوا " بإسكان اللام فيكون فيه معنى التهديد : أي وليقولوا ما شاءوا فإن الحق بين ، وفي هذا اللفظ أصله درس يدرس دراسة فهو من الدرس وهو القراءة ، وقيل : من درسته : أي ذللته بكثرة القراءة ، وأصله درس الطعام : أي داسه .

                                                                                                                                                                                                                                      والدياس : الدراس بلغة أهل الشام ، وقيل : أصله من درست الثوب أدرسه درسا : أي أخلقته ، ودرست المرأة درسا : أي حاضت ، ويقال : إن فرج المرأة يكنى أبا دراس وهو من الحيض ، والدرس أيضا : الطريق الخفي .

                                                                                                                                                                                                                                      وحكى الأصمعي : بعير لم يدرس : أي لم يركب .

                                                                                                                                                                                                                                      وروي عن ابن عباس ، وأصحابه وأبي وابن مسعود والأعمش أنهم قرأوا درس أي درس محمد الآيات ، وقرئ " درست " وبه قرأ زيد بن ثابت : أي الآيات على البناء للمفعول ، ودارست أي دارست اليهود محمدا ، واللام في لنبينه لام كي : أي نصرف الآيات لكي نبينه لقوم يعلمون ، والضمير راجع إلى الآيات لأنها في معنى القرآن ، أو إلى القرآن وإن لم يجر له ذكر ، لأنه معلوم من السياق أو إلى التبيين المدلول عليه بالفعل .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله : 106 - اتبع ما أوحي إليك من ربك أمره الله باتباع ما أوحي إليه وأن لا يشغل خاطره بهم ، بل يشتغل باتباع ما أمره الله ، وجملة لا إله إلا هو معترضة بين المعطوف والمعطوف عليه لقصد تأكيد إيجاب الاتباع وأعرض معطوف على اتبع أمره الله بالإعراض عن المشركين بعدما أمره باتباع ما أوحي إليه ، وهذا قبل نزول آية السيف .

                                                                                                                                                                                                                                      107 - ولو شاء الله ما أشركوا أي لو شاء الله عدم إشراكهم ما أشركوا ، وفيه أن الشرك بمشيئة الله سبحانه ، والكلام في تقرير هذا على الوجه الذي يتعارف به أهل علم الكلام والميزان معروف فلا نطيل بإيراده وما جعلناك عليهم حفيظا أي رقيبا وما أنت عليهم بوكيل أي قيم بما فيه نفعهم فتجلبه إليهم ، ليس عليك إلا إبلاغ الرسالة .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله : 108 - ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم الموصول عبارة عن الآلهة التي كانت تعبدها الكفار .

                                                                                                                                                                                                                                      والمعنى : لا تسب يا محمد آلهة هؤلاء الكفار التي يدعونها من دون الله ، فيتسبب عن ذلك سبهم لله عدوانا وتجاوزا عن الحق وجهلا منهم .

                                                                                                                                                                                                                                      وفي هذه الآية دليل على أن الداعي إلى الحق والناهي عن الباطل إذا خشي أن يتسبب عن ذلك ما هو أشد منه من انتهاك حرم ، ومخالفة حق ، ووقوع في باطل أشد ، كان الترك أولى به ، بل كان واجبا عليه ، وما أنفع هذه الآية وأجل فائدتها لمن كان من الحاملين لحجج الله المتصدين لبيانها للناس إذا كان بين قوم من الصم البكم الذين إذا أمرهم بمعروف تركوه وتركوا غيره من المعروف ، وإذا نهاهم عن منكر فعلوه وفعلوا غيره من المنكرات عنادا للحق وبغضا لاتباع المحقين وجراءة على الله سبحانه سبحانه ، فإن هؤلاء لا يؤثر فيهم إلا السيف ، وهو الحكم العدل لمن عاند الشريعة المطهرة وجعل المخالفة لها والتجرؤ على أهلها [ ص: 441 ] ديدنه وهجيراه ، كما يشاهد ذلك في أهل البدع الذين إذا دعوا إلى حق وقعوا في كثير من الباطل ، وإذا أرشدوا إلى السنة قابلوها بما لديهم من البدعة ، فهؤلاء هم المتلاعبون بالدين المتهاونون بالشرائع ، وهم شر من الزنادقة ، لأنهم يحتجون بالباطل وينتمون إلى البدع ويتظاهرون بذلك غير خائفين ولا وجلين ، والزنادقة قد ألجمتهم سيوف الإسلام وتحاماهم أهله ، وقد ينفق كيدهم ويتم باطلهم وكفرهم نادرا على ضعيف من ضعفاء المسلمين مع تكتم وتحرز وخيفة ووجل ، وقد ذهب جمهور أهل العلم إلى أن هذه الآية محكمة ثابتة غير منسوخة ، وهي أصل أصيل في سد الذرائع وقطع التطرق إلى الشبه .

                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ أهل مكة ( عدوا ) بضم العين والدال وتشديد الواو ، وهي قراءة الحسن وأبي رجاء وقتادة ، .

                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ من عداهم بفتح العين وإسكان الدال وتخفيف الواو ، ومعنى القراءتين واحد : أي ظلما وعدوانا ، وهو منتصب على الحال ، أو على المصدر أو على أنه مفعول له .

                                                                                                                                                                                                                                      كذلك زينا لكل أمة عملهم أي مثل ذلك التزيين زينا لكل أمة من أمم الكفار عملهم من الخير والشر يضل من يشاء ويهدي من يشاء [ النحل : 93 ، فاطر : 8 ] ثم إلى ربهم مرجعهم فينبئهم بما كانوا يعملون في الدنيا من المعاصي التي لم ينتهوا عنها ولا قبلوا من المرسلين ما أرسلهم الله به إليهم وما تضمنته كتبه المنزلة عليهم .

                                                                                                                                                                                                                                      وقد أخرج عبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن قتادة ، في قوله : قد جاءكم بصائر أي بينة فمن أبصر فلنفسه أي فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن عمي أي من ضل فعليها .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج سعيد بن منصور ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن مردويه ، والضياء في المختارة عن ابن عباس ، أنه كان يقرأ ( دارست ) وقال : قرأت .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، وابن مردويه ، عنه درست قال : قرأت وتعلمت .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج عبد الرزاق ، وسعيد بن منصور ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والطبراني وأبو الشيخ ، وابن مردويه ، عنه أيضا قال دارست خاصمت جادلت تلوت .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج أبو الشيخ ، عن السدي ، وأعرض عن المشركين قال : كف عنهم ، وهذا منسوخ نسخه القتال فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن أبي حاتم ، والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عباس ، في قوله : ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله قال : قالوا : يا محمد لتنتهين عن سبك آلهتنا أو لنهجون ربك ، فنهاهم الله أن يسبوا أوثانهم فيسبوا الله عدوا بغير علم .

                                                                                                                                                                                                                                      وقد ثبت في الصحيح أن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - قال : ملعون من سب والديه ، قالوا يا رسول الله : وكيف يسب الرجل والديه ؟ قال : يسب أبا الرجل فيسب أباه ، ويسب أمه فيسب أمه .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية