الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
صفحة جزء
[ ص: 500 ] شروطه :

وهذا الفن معرفته تحتاج إلى علوم كثيرة ، قال أبو بكر بن مجاهد : " لا يقوم بالتمام إلا نحوي عالم بالقراءات ، عالم بالتفسير والقصص ، وتلخيص بعضها من بعض ، عالم باللغة التي نزل بها القرآن " وقال غيره : وكذا علم الفقه ، ولهذا : من لم يقبل شهادة القاذف وإن تاب وقف عند قوله : ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا ( النور : 4 ) .

فأما احتياجه إلى معرفة النحو وتقديراته ، فلأن من قال في قوله تعالى : ملة أبيكم إبراهيم ( الحج : 78 ) إنه منصوب بمعنى " كملة " ، أو أعمل فيها ما قبلها لم يقف على ما قبلها ومن نصبها على الإغراء وقف على ما قبلها .

وكذا الوقف على قوله : ولم يجعل له عوجا ( الكهف : 1 ) ثم يبتدئ ( قيما ) ; لئلا يتخيل كونه صفة له ; إذ العوج لا يكون قيما ، وقد حكاه ابن النحاس عن قتادة .

وهكذا الوقف على ما في آخره هاء ; فإنك في غير القرآن تثبت الهاء إذا وقفت ، وتحذفها إذا وصلت ، فتقول : قه وعه ، وتقول : ق زيدا ، وع كلامي ، فأما في القرآن من قوله تعالى : ( كتابيه ) ( الحاقة : 19 ) ، و ( حسابيه ) ( الحاقة : 20 ) ، و ( سلطانيه ) ( الحاقة : 29 ) ، و ( ماهيه ) ( القارعة : 10 ) ، و ( لم يتسنه ) ( البقرة : 259 ) ، و ( اقتده ) ( الأنعام : 90 ) ، وغير ذلك ، فالواجب أن يوقف عليه بالهاء ; لأنه مكتوب في المصحف بالهاء ولا يوصل ; لأنه يلزم في حكم العربية إسقاط الهاء في الوصل ; فإن أثبتها خالف العربية ، وإن حذفها خالف مراد المصحف ، ووافق كلام العرب ، وإذا هو وقف عليه خرج من الخلافين ، واتبع المصحف وكلام العرب .

فإن قيل : فقد وقف وجوزوا الوصل في ذلك .

قلنا : أتوا به على نية الوقف ، غير أنهم قصروا زمن الفصل بين النطقين ، فظن من لا خبرة له أنهم وصلوا وصلا محضا ، وليس كذلك .

[ ص: 501 ] ومثله قراءة ابن عامر : لكنا هو الله ربي ( الكهف : 38 ) ، بإثبات الألف في حال الوصل ، اتبعوا في إثباتها خط المصحف ; لأنهم أثبتوها فيه على نية الوقف ، فلهذا أثبتوها في حال الوصل ، وهم على نية الوقف .

وأما احتياجه إلى معرفة التفسير ; فلأنه إذا وقف على : ( فإنها محرمة عليهم أربعين سنة ) ( المائدة : 26 ) كان المعنى أنها محرمة عليهم هذه المدة ، وإذا وقف على ( فإنها محرمة عليهم ) كان المعنى محرمة عليهم أبدا ، وأن التيه أربعين سنة ، فرجع في هذا إلى التفسير ، فيكون بحسب ذلك .

وكذا يستحب الوقف على قوله : ( من بعثنا من مرقدنا ) ( يس : 52 ) ثم يبتدئ فيقول : ( هذا ما وعد الرحمن ) لأنه قيل : إنه من كلام الملائكة .

وأما احتياجه إلى المعنى فكقوله : ( قال الله على ما نقول وكيل ) ( يوسف : 66 ) فيقف على ( قال ) وقفة لطيفة ; لئلا يتوهم كون الاسم الكريم فاعلا : قال ، وإنما الفاعل يعقوب - عليه السلام - .

وكذا يجب الوقف على قوله : ( ولا يحزنك قولهم ) ( يونس : 65 ) ثم يبتدئ : ( إن العزة لله جميعا ) .

وقوله : ( فلا يصلون إليكما بآياتنا ) ( القصص : 35 ) قال الشيخ عز الدين : " الأحسن الوقف على ( إليكما ) ; لأن إضافة الغلبة إلى الآيات أولى من إضافة عدم الوصول إليها ; لأن المراد بالآيات العصا وصفاتها ، وقد غلبوا بها السحرة ، ولم تمنع عنهم فرعون .

وكذا يستحب الوقف على قوله : ( أولم يتفكروا ) ( الأعراف : 184 ) ، والابتداء [ ص: 502 ] بقوله : ( ما بصاحبهم من جنة ) ; فإن ذلك يبين أنه رد لقول الكفار : ياأيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون ( الحجر : 6 ) ، وقال الداني : إنه وقف تام .

وكذا الوقف على قوله : ( ولذلك خلقهم ) ( هود : 119 ) ، والابتداء بما بعده ، أي : لأن يرحمهم ، فإن ابن عباس قال في تفسير الآية : ( ولا يزالون مختلفين ) ( هود : 119 ) : يعني اليهود والنصارى ، ( إلا من رحم ربك ) ( هود : 119 ) يعني أهل الإسلام ، ( ولذلك خلقهم ) ( هود : 119 ) ، أي : لرحمته خلقهم .

وكذلك الوقف على قوله : يوسف أعرض عن هذا ( يوسف : 29 ) ، والابتداء بقوله : واستغفري لذنبك فإن بذلك يتبين الفصل بين الأمرين ; لأن يوسف - عليه السلام - أمر بالإعراض وهو الصفح عن جهل من جهل قدره ، وأراد ضره ، والمرأة أمرت بالاستغفار لذنبها ; لأنها همت بما يجب الاستغفار منه ، ولذلك أمرت به ، ولم يهم بذلك يوسف - عليه السلام - ولذلك لم يؤمر بالاستغفار منه ، وإنما هم بدفعها عن نفسه لأنه صلى الله عليه وسلم لعصمته ، ولذلك أكد أيضا بعض العلماء الوقف على قوله تعالى : ولقد همت به ( يوسف : 24 ) ، والابتداء بقوله : ( وهم بها ) ، وذلك للفصل بين الخبرين ، وقد قال الداني : إنه كاف ، وقيل : تام ، وذكر بعضهم أنه على حذف مضاف ; أي : هم بدفعها ، وعلى هذا فالوقف على : ( همت به ) كالوقف على قوله تعالى : ( لنبين لكم ) ( الحج : 5 ) ، والابتداء بقوله : ( وهم بها ) كالابتداء بقوله : ونقر في الأرحام .

ومثله الوقف مراعاة للتنزيه على قوله : ( وهو الله ) ( الأنعام : 3 ) ، وقد ذكر صاحب " المكتفي " أنه تام ، وذلك ظاهر على قول ابن عباس أنه على التقديم والتأخير ، والمعنى : وهو الله يعلم سركم وجهركم في السماوات والأرض .

[ ص: 503 ] وكذلك حكى الزمخشري في " كشافه القديم " عن أبي حاتم السجستاني في قوله : مستهزئون الله يستهزئ بهم ( البقرة : 14 و 15 ) قال : ليس مستهزئون بوقف صالح ، لا أحب استئناف ( الله يستهزئ بهم ) ، ولا استئناف ، ومكر الله والله خير الماكرين ( آل عمران : 54 ) حتى أصله بما قبله ، قال : وإنما لم يستحب ذلك لأنه إنما جاز إسناد الاستهزاء والمكر إلى الله تعالى على معنى الجزاء عليهما ، وذلك على سبيل المجاز ، فإذا استأنفت وقطعت الثاني من الأول أوهم أنك تسنده إلى الله تعالى مطلقا ، والحكم في صفاته سبحانه أن تصان عن الوهم .

وكذلك قوله تعالى : وما يعلم تأويله إلا الله ( آل عمران : 7 ) قال صاحب " المكتفى " : إنه تام على قول من زعم أن الراسخين لم يعلموا تأويله ، وقول الأكثرين ويصدقه قراءة عبد الله : " ويقول الراسخون في العلم آمنا به " .

وكذلك الوقف على وقالوا اتخذ الله ولدا ( البقرة : 116 ) ، والابتداء بقوله : ( سبحانه ) ، وقد ذكر ابن نافع أنه تام في كتابه الذي تعقب فيه على صاحب " المكتفي " ، واستدرك عليه فيه مواقف كثيرة ، وذلك أن الله أخبر عنهم بقولهم : ( اتخذ الله ولدا ) ، ثم رد قولهم ونزه نفسه بقوله : ( سبحانه ) فينبغي أن يفصل بين القولين .

ومثله الوقف على قوله تعالى : الشيطان سول لهم ( محمد : 25 ) ، والابتداء بقوله : وأملي لهم قال صاحب " المكتفي " : سول لهم كاف ، سواء قرئ [ ص: 504 ] ( وأملي لهم ) على ما يسم فاعله ، أو ( وأملي لهم ) على الإخبار ; لأن الإملاء في كلتا القراءتين مسند إلى الله تعالى ; لقوله : ( فأمليت للكافرين ) ( الحج : 44 ) فيحسن قطعه ، من التسويل الذي هو مسند إلى الشيطان ، وهو كما قال ، وإنما يحسن قطعه بالوقف ليفصل بين الحرفين ، ولقد نبه بعض من وصله على حسن هذا الوقف ، فاعتذر بأن الوصل هو الأصل .

ومثله الوقف على قوله : رأفة ورحمة ورهبانية ابتدعوها ( الحديد : 27 ) ، والابتداء بقوله : ما كتبناها عليهم ، وذلك للإعلام بأن الله تعالى جعل الرهبانية في قلوبهم ، أي : خلق ، كما جعل الرأفة والرحمة في قلوبهم ، وإن كانوا قد ابتدعوها فالله تعالى خلقها ; بدليل قوله سبحانه : والله خلقكم وما تعملون ( الصافات : 96 ) هذا مذهب أهل السنة ، وقد نسب أبو علي الفارسي إلى مذهب الاعتزال بقوله في " الإيضاح " حين تكلم على هذه الآية فقال : " ألا ترى أن الرهبانية لا يستقيم حملها على جعلنا مع وصفها بقوله : ( ابتدعوها ) ; لأن ما يجعله الله لا يبتدعونه " فكذلك ينبغي أن يفصل بالوقف بين المذهبين .

ومثله الوقف على قوله تعالى : فإن الله هو مولاه ( التحريم : 4 ) ، والابتداء بقوله : وجبريل وصالح المؤمنين والملائكة بعد ذلك ظهير أي : معينون له - صلى الله عليه وسلم - فتكون هذه الجملة مستأنفة .

وأما احتياجه إلى المعرفة بالقراءات فلأنه إذا قرأ : ويقولون حجرا محجورا ( الفرقان : 22 ) بفتح الحاء ، كان هذا التمام عنده ، وإن ضم الحاء وهي قراءة الحسن ، فالوقف عند ( حجرا ) لأن العرب كان إذا نزل بالواحد منهم شدة قال : " حجرا " فقيل [ ص: 505 ] لهم : " محجورا " ; أي : لا تعاذون كما كنتم تعاذون في الدنيا ، حجر الله ذلك عليهم يوم القيامة .

وإذا قرأ : ( وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين ) ( المائدة : 45 ) إلى قوله : ( قصاص ) فهو التام إذا نصب ( والعين بالعين ) ، ومن رفع فالوقف عند : ( أن النفس بالنفس ) ، وتكون ( والعين بالعين ) ابتداء حكم في المسلمين ، وما قبله في التوراة .

الوقف عند رءوس الآي :

واعلم أن أكثر القراء يبتغون في الوقف المعنى وإن لم يكن رأس آية ، ونازعهم فيه بعض المتأخرين في ذلك ، قال : هذا خلاف السنة ; فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقف عند كل آية ، فيقول : ( الحمد لله رب العالمين ) ( الفاتحة : 2 ) ، ويقف ثم يقول : ( الرحمن الرحيم ) ( الفاتحة : 3 ) ، وهكذا روت أم سلمة : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقطع قراءته آية آية ، ومعنى هذا الوقف على رءوس الآي ، وأكثر أواخر الآي في القرآن تام أو كاف ، وأكثر ذلك في السور القصار الآي ، نحو الواقعة ، قال : وهذا هو الأفضل ; أعني الوقف على رءوس الآي ، وإن تعلقت بما بعدها ، وذهب بعض القراء إلى تتبع الأغراض [ ص: 506 ] والمقاصد ، والوقف عند رءوس انتهائها ، واتباع السنة أولى . وممن ذكر ذلك الحافظ أبو بكر البيهقي في كتاب " شعب الإيمان " وغيره ، ورجح الوقف على رءوس الآي ، وإن تعلقت بما بعدها .

قلت : وحكى النحاس عن الأخفش علي بن سليمان أنه يستحب الوقوف على قوله : ( هدى للمتقين ) ( البقرة : 2 ) ; لأنه رأس آية ، وإن كان متعلقا بما بعده .

التالي السابق


الخدمات العلمية