الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
صفحة جزء
[ ص: 241 ] تنبيهان التنبيه الأول يستثنى من هذه القاعدة ثلاثة أمور : أحدها : ما إذا كان مفعول المشيئة عظيما أو غريبا فإنه لا يحذف ; كقوله تعالى : لو أراد الله أن يتخذ ولدا لاصطفى مما يخلق ما يشاء سبحانه الآية ، أراد رد قول الكفار : " اتخذ الله ولدا " بما يطابقه في اللفظ ; ليكون أبلغ في الرد ; لأنه لو حذفه فقال : " لو أراد الله لاصطفى " لم يظهر المعنى المراد ; لأن الاصطفاء قد لا يكون بمعنى التبني ، ولو قال : " لو أراد الله لاتخذ ولدا " لم يكن فيه ما في إظهاره من تعظيم جرم قائله .

ومثله الإمام أبو العباس الحلبي صاحب كتاب " القول الوجيز في استنباط علم البيان من الكتاب العزيز " بقوله تعالى : لو نشاء لقلنا مثل هذا ( الأنفال : 31 ) ، وقوله : فإن يشأ الله يختم على قلبك ( الشورى : 24 ) و من يشأ الله يضلله ومن يشأ يجعله على صراط مستقيم ( الأنعام : 39 ) وفيما ذكره نظر .

قلت : يجيء الذكر في مفعول الإرادة أيضا ; إذا كان كقوله تعالى : لو أردنا أن نتخذ لهوا ( الأنبياء : 17 ) .

الثاني : إذا احتيج لعود الضمير عليه فإنه يذكر كقوله : لو أردنا أن نتخذ لهوا لاتخذناه فإنه لو حذف لم يبق للضمير ما يرجع عليه .

[ ص: 242 ] وقد يقال : الضمير لم يرجع عليه ، وإنما عاد على معمول معموله .

الثالث : أن يكون السامع منكرا لذلك أو كالمنكر ، فيقصد إلى إثباته عنده ، فإن لم يكن منكرا فالحذف .

والحاصل أن حذف مفعول أراد وشاء لا يذكر إلا لأحد هذه الثلاثة .

التنبيه الثاني أنكر الشيخ أبو حيان في باب عوامل الجزم من شرح " التسهيل " هذه القاعدة وقال : غلط البيانيون في دعواهم لزوم حذف مفعول المشيئة ; إلا فيما إذا كان مستغربا ، وفي القرآن : لمن شاء منكم أن يستقيم ( التكوير : 28 ) ، لمن شاء منكم أن يتقدم أو يتأخر ( المدثر : 37 ) ، ولهم أن يقولوا : إن المفعول هاهنا عظيم ; فلهذا صرح به فلا غلط على القوم .

وأما قوله تعالى : فيقولون ماذا أراد الله بهذا مثلا ( البقرة : 26 ) فإذا جعلت " ماذا " بمعنى " الذي " فمفعول " أراد " متقدم عليه ، وإن جعلت " ذا " وحده بمعنى " الذي " فيكون مفعول " أراد " محذوفا ; وهو ضمير " ذا " ، ولا يجوز أن يكون " مثلا " مفعول " أراد " ; لأنه أحد معموليه ولكنه حال .

فصل : وقد كثر حذف مفعول أشياء غير ما سبق ; منها الصبر ، نحو : فاصبروا أو لا تصبروا ( الطور : 16 ) ، اصبروا وصابروا ( آل عمران : 200 ) .

وقد يذكر نحو : واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم ( الكهف : 38 ) قال الزمخشري في تفسير سورة الحجرات : قولهم : " صبر عن كذا " محذوف منه المفعول ; وهو النفس .

[ ص: 243 ] ومنها مفعول " رأى " ، كقوله : أعنده علم الغيب فهو يرى ( النجم : 35 ) .

قال الفارسي : الوجه أن " يرى " هنا للتعدية لمفعولين ; لأن رؤية الغائب لا تكون إلا علما ، والمعنى عليه قوله : عالم الغيب ( الجن : 26 ) ، وذكره العلم قال : والمفعولان محذوفان ، فكأنه قال : " فهو يرى الغائب حاضرا " أو حذف كما حذف في قوله : أين شركاؤكم الذين كنتم تزعمون ( الأنعام : 22 ) أي : تزعمونهم إياهم .

وقال ابن خروف : هو من باب الحذف لدليل ; لأن المعنى دال على المفعولين ; أي : فهو يعلم ما يفعله ويعتقده حقا وصوابا ، ولا فائدة في الآية مع الاقتصار ; لأنه لا يعلم منه المراد ، وقد ذهب إليه بعض المحققين وعدل عن الصواب .

ومنها " وعد " يتعدى إلى مفعولين ، ويجوز الاقتصار على أحدهما كأعطيت ، قال تعالى : وواعدناكم جانب الطور الأيمن ( طه : 80 ) فـ " جانب " مفعول ثان ، ولا يكون ظرفا لاختصاصه ، والتقدير : واعدناكم إتيانه أو مكثا فيه .

وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة ( المائدة : 9 ) .

وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم ( الأنفال : 7 ) فإحدى الطائفتين في موضع نصب بأنه المفعول الثاني ; و " أنها لكم " بدل منه ، والتقدير : وإذ يعدكم الله ثبات إحدى الطائفتين أو ملكها .

وقال تعالى : وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض ( النور : 55 ) فلم يتعد الفعل فيها إلا إلى واحد ، ليستخلفنهم تفسير [ ص: 244 ] للوعد ومبين له ; كقوله تعالى : يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين ( النساء : 11 ) فالجملة الثانية تبيين للوصية لا مفعول ثان .

وأما قوله : ألم يعدكم ربكم وعدا حسنا ( طه : 86 ) ، إن الله وعدكم وعد الحق ( إبراهيم : 22 ) ، فإن هذا ونحوه يحتمل أمرين : انتصاب الوعد بالمصدر ، وبأنه المفعول الثاني على تسمية الموعود به وعدا .

وأما قوله تعالى : وإذ واعدنا موسى أربعين ليلة ( البقرة : 51 ) فمما تعدى فيه " وعد " إلى اثنين ; لأن الأربعين لو كان ظرفا لكان الوعد في جميعه ، يعني من حيث إنه معدود ; فيلزم وقوع المظروف في كل فرد من أفراده ، وليس الوعد واقعا في " الأربعين " بل ولا في بعضها .

ثم قدر الواحدي وغيره محذوفا مضافا إلى " الأربعين " وجعلوه المفعول الثاني ، فقالوا : التقدير : " وإذ واعدنا موسى انقضاء أربعين ليلة ، أو تمام أربعين " ثم حذف ، وأقيم المضاف إليه مقامه .

قال بعضهم : ولم يظهر لي وجه عدولهم عن كون " أربعين " هو نفس المفعول إلى تقدير هذا المحذوف ; إلا أن يقال : نفس الأربعين ليلة لا توعد ; لأنها واجبة الوقوع ، وإنما المعنى على تعليق الوعد بابتدائها وتمامها ; ليترتب على ذلك الانتهاء شيء .

قلت : وقال أبو البقاء : ليس أربعين ظرفا ; إذ ليس المعنى وعده في أربعين .

وقال غيره : لا يجوز أن يكون ظرفا ; لأنه لم يقع الوعد في كل من أجزائه ولا في بعضه .

[ ص: 245 ] ومنها " اتخذ " تتعدى لواحد أو لاثنين ، فمن الأول قوله تعالى : لو أردنا أن نتخذ لهوا لاتخذناه من لدنا ( الأنبياء : 17 ) ، واتخذوا من دونه آلهة ( الفرقان : 3 ) ، أم اتخذ مما يخلق بنات ( الزخرف : 16 ) ، ياليتني اتخذت مع الرسول سبيلا ( الفرقان : 27 ) .

ومن الثاني : اتخذوا أيمانهم جنة ( المنافقون : 2 ) ، لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء ( الممتحنة : 1 ) ، فاتخذتموهم سخريا ( المؤمنون : 110 ) ، والثاني من المفعولين هو الأول في المعنى .

قال الواحدي : فأما قوله تعالى : ثم اتخذتم العجل من بعده ( البقرة : 51 ) ، وقوله : باتخاذكم العجل ( البقرة : 54 ) ، اتخذوه وكانوا ظالمين ( الأعراف : 148 ) ، إن الذين اتخذوا العجل ( الأعراف : 152 ) ، فالتقدير في هذا كله : اتخذوه إلها ، فحذف المفعول الثاني .

والدليل على ذلك أنه لو كان على ظاهره لكان من صاغ عجلا أو نحوه ، أو عمله بضرب من الأعمال استحق الغضب من الله ; لقوله : سينالهم غضب من ربهم ( الأعراف : 152 ) .

وفيما قاله نظر ; لأن الواقع أن أولئك عبدوه ، فالتقدير على هذا في المتعدي لواحد : أن الذين اتخذوا العجل وعبدوه ; ولهذا جوز الشيخ أثير الدين في هذه الآيات كلها أن تكون " اتخذ " فيها متعدية إلى واحد ، قال : ويكون ثم جملة محذوفة تدل على المعنى ، وتقديره : " وعبدتموه إلها " ورجحه على القول الآخر بأنها لو كانت متعدية في هذه القصة لاثنين لصرح بالثاني ولو في موضع واحد .

[ ص: 246 ] الضرب الثاني ألا يكون المفعول مقصودا أصلا ; وينزل الفعل المتعدي منزلة القاصر ; وذلك عند إرادة وقوع نفس الفعل فقط ; وجعل المحذوف نسيا منسيا كما ينسى الفاعل عند بناء الفعل ، فلا يذكر المفعول ولا يقدر ، غير أنه لازم الثبوت عقلا لموضوع كل فعل متعد ; لأن الفعل لا يدرى تعيينه .

وبهذا يعلم أنه ليس كل ما هو لازم من موضوع الكلام مقدرا فيه ; كقوله تعالى : فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا ( البقرة : 24 ) .

وقوله : كلوا واشربوا ( البقرة : 60 ) ; لأنه لم يرد الأكل من معين ، وإنما أراد وقوع هذين الفعلين .

وقوله : هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون ( الزمر : 9 ) ، ويسمى المفعول حينئذ مماتا .

ولما كان التحقيق أنه لا يعد هذا من المحذوف ، فإنه لا حذف فيه بالكلية ، ولكن تبعناهم في العبارة ; نحو : فلان يعطي ; قاصدا أنه يفعل الإعطاء .

وتوجد هذه الحقيقة إيهاما للمبالغة ، بخلاف ما يقصد فيه تعميم الفعل ; نحو : هو يعطي ويمنع ، فإنه أعم تناولا من قولك : يعطي الدرهم ويمنعه ; والغالب أن هذا يستعمل في النفي ، كقوله : وتركهم في ظلمات لا يبصرون ( البقرة : 17 ) ، والآخر في الإثبات كقوله : إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون ( الروم : 24 ) .

[ ص: 247 ] ومن أمثلة هذا الضرب قوله تعالى : يحيي ويميت ( البقرة : 258 ) .

وقوله : لم تعبد ما لا يسمع ( مريم : 42 ) .

وقوله : ولما ورد ماء مدين وجد عليه أمة من الناس ( القصص : 23 ) إلخ . . . الآية ، حذف منها المفعول خمس مرات ; لأنه غير مراد ; وهو قوله : يسقون ، وقوله : تذودان ، وقوله : لا نسقي حتى يصدر ( القصص : 23 ) ، فيمن قرأ بكسر الدال ، وقوله : فسقى لهما والتقدير : " يسقون مواشيهم وتذودان عنهما ولا نسقي عنها حتى يصدر الرعاء مواشيهم فسقى لهما غنمهما .

وقوله : لنخرجنك ياشعيب ( الأعراف : 88 ) ، قيل : لو ذكر المفعول فيها نقص المعنى والمراد : أن الله تعالى له الإحياء والإماتة ; وأن إلههم ليس له سمع ولا بصر ، وأن موسى عليه السلام وجد قوما يعانون السقي ، وامرأتين تعانيان الذود ، وأخبرتاه أنا لا نستطيع السقي ; فوجدا من موسى عليه السلام لهما السقي ، ووجد من أبيهما مكافأة على السقي ، وهذا مما حذف لظهور المراد ، وأن القصد الإعلام بأنه كان من الناس في تلك الحالة سقي ومن المرأتين ذود ، وأنهما قالتا : لا يكون منا سقي حتى يصدر الرعاء ، وأن موسى سقى بعد ذلك ; فأما أن المسقي غنم أو إبل أو غيره فخارج عن المقصود ; لأنه لو قيل : يذودان غنمهما لجاز أن يكون الإنكار لم يتوجه من موسى عليه السلام على الذود من حيث هو ذود ، بل من حيث هو ذود غنم ; حتى لو كان ذود إبل لم ينكره .

واعلم أنا جعلنا هذا من الضرب الثاني موافقة للزمخشري ; فإنه قال : ترك المفعول لأن الغرض هو الفعل لا المفعول ، ألا ترى أنه إنما رحمهما لأنهما كانتا على الذياد وهم على السقي ، ولم يرحمهما ; لأن مذودهما غنم ومسقيهم إبل ، وكذلك قولهما : لا نسقي حتى يصدر الرعاء ( القصص : 23 ) المقصود منه السقي لا المسقي .

[ ص: 248 ] وجعله السكاكي من الضرب الأول ; أعني مما حذف فيه للاختصار مع الإرادة .

والأقرب قول الزمخشري ، ورجح الحريري قول السكاكي أنه للاختصار ، فإن الغنم ليست ساقطة عن الاعتبار بالأصالة ; فإن فيها ضعفا عن المزاحمة ، والمرأتان فيهما ضعف ، فإذا انضم إلى ضعف المسقي ضعف الساقي كان ذلك أدعى للرحمة والإعانة .

وكقوله تعالى : فأما من أعطى واتقى ( الليل : 5 ) .

وقوله : وأنه هو أغنى وأقنى ( النجم : 48 ) .

وقوله : وأنه هو أضحك وأبكى وأنه هو أمات وأحيا ( النجم : 43 - 44 ) .

وإنما ذكر المفعول في قوله : وأنه خلق الزوجين الذكر والأنثى ( النجم : 45 ) ; لأن المراد جنس الزوجين ; فكأنه قال : يخلق كل ذكر وكل أنثى ، وكان ذكره هنا أبلغ ; ليدل على عموم ثبوت الخلق له بالتصريح .

وليس منه قوله تعالى : وأصلح لي في ذريتي ( الأحقاف : 15 ) ; لوجود العوض من المفعول به لفظا ، أو هو المفعول به ، وهو قوله : في ذريتي ( الأحقاف : 15 ) ، ومعنى الدعاء به قصر الإصلاح له على الذرية ; إشعارا بعنايته بهم .

وقوله : كلا سوف تعلمون ثم كلا سوف تعلمون ( التكاثر : 3 - 4 ) ، أي : عاقبة أمركم ; لأن سياق القول في التهديد والوعيد .

[ ص: 249 ] واعلم أن الغرض حينئذ بالحذف في هذا الضرب أشياء : منها البيان بعد الإبهام كما في فعل المشيئة على ما سبق ; نحو : أمرته فقام ; أي : بالقيام ، وعليه قوله تعالى : أمرنا مترفيها ففسقوا فيها ( الإسراء : 16 ) ، أي : أمرناهم بالفسق ، وهو مجاز عن تمكينهم وإقدارهم .

ومنها المبالغة بترك التقييد نحو : هو يحيي ويميت ( يونس : 56 ) ، وقوله : فهم لا يبصرون ( يس : 9 ) ، ونفي الفعل غير متعلق أبلغ من نفيه متعلقا به ; لأن المنفي في الأول نفس الفعل ، وفي الثاني متعلقه .

تنبيه قد يلحظ الأمران فيجوز الاعتباران ; كقوله تعالى : ياأيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله ( الحجرات : 1 ) ، أجاز الزمخشري في حذف المفعول منه الوجهين .

وكذلك في قوله في آخر سورة الحج : وجاهدوا في الله ( الحج : 78 ) .

التالي السابق


الخدمات العلمية