الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ذكر أقسامه :

ينقسم التشبيه باعتبارات : الأول : باعتبار طرفيه إلى أربعة أقسام ; لأنهما إما حسيان أو عقليان ، أو المشبه به حسي والمشبه عقلي ، أو عكسه .

مثال الأول : والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم [ يس : 39 ] ، كأنهم أعجاز نخل منقعر [ القمر : 20 ] ومثال الثاني : ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوة [ البقرة : 74 ] .

[ ص: 47 ] كذا مثل به في البرهان ، وكأنه ظن أن التشبيه واقع في القسوة وهو غير ظاهر ؛ بل هو واقع بين القلوب والحجارة ، فهو من الأول .

ومثال الثالث : مثل الذين كفروا بربهم أعمالهم كرماد اشتدت به الريح [ إبراهيم : 18 ] .

ومثال الرابع : لم يقع في القرآن ، بل منعه الإمام أصلا ؛ لأن العقل مستفاد من الحس ، فالمحسوس أصل للمعقول ، وتشبيهه به يستلزم جعل الأصل فرعا والفرع أصلا وهو غير جائز وقد اختلف في قوله تعالى : هن لباس لكم وأنتم لباس لهن [ البقرة : 187 ] .

الثاني : ينقسم باعتبار وجهه إلى مفرد ومركب ، والمركب أن ينتزع وجه الشبه من أمور مجموع بعضها إلى بعض كقوله : كمثل الحمار يحمل أسفارا [ الجمعة : 5 ] ، فالتشبيه مركب من أحوال الحمار وهو حرمان الانتفاع بأبلغ نافع مع تحمل التعب في استصحابه .

وقوله إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء إلى قوله : كأن لم تغن بالأمس [ يونس : 24 ] ، فإن فيه عشر جمل وقع التركيب من مجموعها بحيث لو سقط منها شيء اختل التشبيه إذ المقصود تشبيه حال الدنيا - في سرعة تقضيها وانقراض نعيمها واغترار الناس بها - بحال ماء نزل من السماء وأنبت أنواع العشب وزين بزخرفها وجه الأرض كالعروس إذا أخذت الثياب الفاخرة حتى إذا طمع أهلها فيها وظنوا أنها مسلمة من الجوائح أتاها بأس الله فجأة فكأنها لم تكن بالأمس . وقال بعضهم : وجه تشبيه الدنيا بالماء أمران .

أحدهما : أن الماء إذا أخذت منه فوق حاجتك تضررت ، وإن أخذت قدر الحاجة انتفعت به ، فكذلك الدنيا .

[ ص: 48 ] والثاني : أن الماء إذا طبقت عليه كفك لتحفظه لم يحصل فيه شيء فكذلك الدنيا .

وقوله مثل نوره كمشكاة فيها مصباح [ النور : 35 ] الآية ، فشبه نوره الذي يلقيه في قلب المؤمن بمصباح اجتمعت فيه أسباب الإضاءة ؛ إما بوضعه في مشكاة وهي الطاقة التي لا تنفذ ، وكونها لا تنفذ لتكون أجمع للبصر .

وقد جعل فيها مصباح في داخل زجاجة تشبه الكوكب الدري في صفائها ، ودهن المصباح من أصفى الأدهان وأقواها وقودا ; لأنه من زيت شجرة في أوسط الزجاج ، ( لا شرقية ولا غربية ) فلا تصيبها الشمس في أحد طرفي النهار ، بل تصيبها الشمس أعدل إصابة .

وهذا مثل ضربه للمؤمن .

ثم ضرب للكافر مثلين : أحدهما كسراب بقيعة والآخر كظلمات في بحر لجي إلى آخره ، وهو أيضا تشبيه تركيب .

الثالث : ينقسم باعتبار آخر إلى أقسام .

أحدها : تشبيه ما تقع عليه الحاسة بما لا تقع اعتمادا على معرفة النقيض والضد ، فإن إدراكهما أبلغ من إدراك الحاسة كقوله : طلعها كأنه رءوس الشياطين [ الصافات : 65 ] ، شبه بما لا يشك أنه منكر قبيح لما حصل في نفوس الناس من بشاعة صورة الشياطين ، وإن لم ترها عيانا .

الثاني : عكسه ، وهو تشبيه ما لا تقع عليه الحاسة بما تقع عليه كقوله : والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة [ النور : 39 ] ، أخرج ما لا يحس وهو الإيمان إلى ما يحس وهو السراب ، والمعنى الجامع بطلان التوهم مع شدة الحاجة وعظم الفاقة .

الثالث : إخراج ما لم تجر العادة به إلى ما جرت ، كقوله تعالى : وإذ نتقنا الجبل فوقهم كأنه ظلة [ الأعراف : 171 ] ، والجامع بينهما الارتفاع في الصورة .

الرابع : إخراج ما لا يعلم بالبديهة إلى ما يعلم بها كقوله : وجنة عرضها كعرض السماء والأرض [ الحديد : 21 ] ، والجامع العظم ، وفائدته التشويق إلى الجنة بحسن الصفة وإفراط السعة .

الخامس : إخراج ما لا قوة له في الصفة إلى ما له قوة فيها كقوله تعالى : [ ص: 49 ] وله الجواري المنشآت في البحر كالأعلام [ الرحمن : 24 ] ، والجامع فيهما العظم ، والفائدة إبانة القدرة على تسخير الأجسام العظام في ألطف ما يكون من الماء وما في ذلك من انتفاع الخلق بحمل الأثقال وقطعها الأقطار البعيدة في المسافة القريبة ، وما يلازم ذلك من تسخير الرياح للإنسان ، فتضمن الكلام بناء عظيما من الفخر وتعداد النعم على هذه الأوجه الخمسة تجري تشبيهات القرآن .

السادس : ينقسم باعتبار آخر إلى : مؤكد : وهو ما حذفت فيه الأداة ، نحو : وهي تمر مر السحاب [ النمل : 88 ] ؛ أي : مثل مر السحاب وأزواجه أمهاتهم [ الأحزاب : 6 ] ، وجنة عرضها السماوات والأرض [ آل عمران : 133 ] ، ومرسل : وهو ما لم تحذف كالآيات السابقة ، والمحذوفة الأداة أبلغ لأنه نزل فيه الثاني منزلة الأول تجوزا .

قاعدة : الأصل دخول أداة التشبيه على المشبه به ، وقد تدخل على المشبه ، إما لقصد المبالغة فتقلب التشبيه وتجعل المشبه هو الأصل ، نحو : قالوا إنما البيع مثل الربا [ البقرة : 275 ] ، كأن الأصل أن يقولوا : إنما الربا مثل البيع ؛ لأن الكلام في الربا لا في البيع ، فعدلوا عن ذلك وجعلوا الربا أصلا ملحقا به البيع في الجواز وأنه الخليق بالحل ، ومنه قوله تعالى : أفمن يخلق كمن لا يخلق [ النحل : 17 ] ، فإن الظاهر العكس ؛ لأن الخطاب لعبدة الأوثان الذين سموها آلهة ، تشبيها بالله سبحانه وتعالى فجعلوا غير الخالق مثل الخالق ، فخولف في خطابهم لأنهم بالغوا في عبادتهم ، وغلوا حتى صارت عندهم أصلا في العبادة ، فجاء الرد على وفق ذلك .

وإما لوضوح الحال ، نحو : وليس الذكر كالأنثى [ آل عمران : 36 ] ، فإن الأصل وليس الأنثى كالذكر ؛ وإنما عدل عن الأصل لأن المعنى : وليس الذكر الذي طلبت كالأنثى التي وهبت . وقيل : لمراعاة الفواصل لأن قبله إني وضعتها أنثى [ آل عمران : 36 ] .

[ ص: 50 ] وقد تدخل على غيرهما اعتمادا على فهم المخاطب ، نحو : كونوا أنصار الله كما قال عيسى ابن مريم [ الصف : 14 ] الآية ، المراد : ( كونوا أنصار الله خالصين في الانقياد كشأن مخاطبي عيسى إذ قالوا . . )

قاعدة : القاعدة في المدح تشبيه الأدنى بالأعلى ، وفي الذم تشبيه الأعلى بالأدنى ; لأن الذم مقام الأدنى ، والأعلى طارئ عليه ، فيقال في المدح : الحصى كالياقوت ، وفي الذم : ياقوت كالزجاج . وكذا في السلب ، ومنه : يانساء النبي لستن كأحد من النساء [ الأحزاب : 32 ] ؛ أي : في النزول لا في العلو أم نجعل المتقين كالفجار [ ص : 28 ] ؛ أي : في سوء الحال ؛ أي : لا نجعلهم كذلك .

نعم ، أورد على ذلك مثل نوره كمشكاة [ النور : 35 ] ، فإنه شبه فيه الأعلى بالأدنى ، لا في مقام السلب ، وأجيب بأنه للتقريب إلى أذهان المخاطبين ؛ إذ لا أعلى من نوره فيشبه به .

فائدة : قال ابن أبي الإصبع : لم يقع في القرآن تشبيه شيئين بشيئين ولا أكثر من ذلك ، إنما وقع فيه تشبيه واحد بواحد .

التالي السابق


الخدمات العلمية