الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                          وحدثني عن مالك عن هشام بن عروة عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إن الحمى من فيح جهنم فابردوها بالماء

                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                          1761 1712 - ( مالك عن هشام بن عروة عن أبيه ) مرسلا عند الجميع إلا معن بن عيسى ، فرواه في الموطأ عن مالك عن هشام عن أبيه عن عائشة ، وليست روايته بشاذة ; لأنه تابعه ابن وهب وهو معلوم الاتصال عند أصحاب هشام .

                                                                                                          رواه البخاري من طريق يحيى القطان ، ومسلم من طريق عبد الله بن نمير ، وخالد بن الحارث ، وعبدة بن سليمان الأربعة عن هشام عن أبيه عن عائشة : ( أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : إن الحمى من فيح ) ، بفتح الفاء وسكون التحتية ، وحاء مهملة .

                                                                                                          وفي حديث رافع بن خديج في البخاري : من فوح ، بالواو بدل الياء ، وفي رواية الشيخين عنه : من فور ، بالراء بدل الحاء ، والثلاثة بمعنى ( جهنم ) ، أي سطوع حرها وفورانه حقيقة ، أرسلت إلى الدنيا نذيرا للجاحدين ، وبشيرا للمقربين ، لأنها كفارة لذنوبهم ، فاللهب الحاصل في جسم المحموم قطعة من نار جهنم قدر الله ظهورها بأسباب يقضيها ، ليعتبر العباد بذلك ، كما أن أنواع الفرح واللذة من نعيم الجنة ، أظهرها في هذه الدار عبرة ودلالة ، وقيل : هو من باب التشبيه ، شبه اشتعال حرارة الطبيعة في كونها مذيبة للبدن ومعذبة له بنار جهنم ، ففيه تنبيه للنفوس على شدة حر النار ، والأول أولى .

                                                                                                          قال الطيبي : " من " ليست بيانية حتى تكون تشبيها كقوله : ( حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ) ( سورة البقرة : الآية 187 ) ، فهي إما ابتدائية ، أي الحمى نشأت وحصلت من فيح جهنم ، أو تبعيضية ، أي بعض منها ، قال : ويدل على هذا التأويل ما في الصحيح : " اشتكت النار إلى ربها فقالت : يا رب أكل بعضي بعضا ، فأذن لها بنفسين : نفس في الشتاء ، ونفس في الصيف " ، فكما أن حرارة الصيف أثر من فيحها ، كذلك الحمى ، وهي حرارة غريبة تشتعل في القلب ، وتنتشر منه بتوسط الروح والدم في العروق إلى جميع البدن .

                                                                                                          ( فابردوها ) ، بهمزة وصل وضم الراء على المشهور في الرواية من : بردت الحمى أبردها بردا بوزن قتلتها أقتلها قتلا ، أي [ ص: 524 ] أسكنت حرارتها ، وحكي كسر الراء مع وصل الهمزة ، وحكى عياض رواية بهمزة قطع مفتوحة ، وكسر الراء من : أبرد الشيء إذا عاجله فصيره باردا ، وقال الجوهري : إنها لغة رديئة ، وقول أبي البقاء : الصواب وصل الهمزة وضم الراء ، زاد القرطبي : وأخطأ من زعم قطعها ، فيه نظر بعد ثبوتها رواية ( بالماء ) البارد ، كما في حديث أبي هريرة عند ابن ماجه " شربا ، وغسل أطراف " ; لأن الماء البارد رطب ينساغ لسهولته فيصل للطافته إلى أماكن العلة من غير حاجة إلى معاونة الطبيعة .

                                                                                                          قال الخطابي وغيره : اعترض بعض سخفاء الأطباء الحديث بأن اغتسال المحموم بالماء خطر يقربه من الهلاك ; لأنه يجمع المسام ، ويحقن البخار المتحلل ، ويعكس الحرارة إلى داخل الجسم ، فيكون سببا للتلف ، وغلط بعض من ينسب إلى العلم فانغمس بالماء ، أصابه الحمى فاحتقنت الحرارة في باطن بدنه ، فأصابته علة صعبة كادت تهلكه ، فلما خرج من علته قال قولا سيئا لا يحسن ذكره ، وأوقعه في ذلك جهله بمعنى الحديث ، وارتيابه في صدقه ، فيقال له أولا : من أين حملت الأمر على الاغتسال ، وليس في الحديث بيان الكيفية فضلا عن اختصاصها بالغسل ، وإنما أرشد إلى تبريدها بالماء ، فإن أظهر الوجود أو اقتضت صناعة الطب أن إغماس كل محموم في الماء أو صبه إياه على جميع بدنه فليس هو المراد ، وإنما قصد - صلى الله عليه وسلم - استعماله على وجه ينفع فيبحث عن ذلك الوجه ليحصل الانتفاع به ، وهو كما أمر العائن بالاغتسال وأطلق ، وقد ظهر من الحديث الآخر أنه أراد الاغتسال على صفة مخصوصة ، لا مطلق الاغتسال ، فكذلك هنا يحمل على ما بينته أسماء ، لأنها من جملة من رواه ، فهي أعلم بالمراد من غيرها .

                                                                                                          وقال المازري : لا شك أن علم الطب من أكثر العلوم احتياجا إلى التفصيل ، حتى إن المريض يكون الشيء دواءه في ساعة ، ثم يصير داء له في الساعة التي تليها لعارض يعرض له كغضب يحمي مزاجه مثلا فيتغير علاجه ، ومثل ذلك كثير ، فإذا فرض وجود الشفاء لشخص بشيء في حالة لم يلزم وجود الشفاء به له أو لغيره في سائر الأحوال ، وأجمع الأطباء على أن الواحد يختلف علاجه باختلاف السن والزمان والعادة والغذاء المتقدم والتأثير المألوف وقوة الطباع ، ثم ذكر نحو ما مر ، ثم قال : وعلى تقدير أن يراد الاغتسال فيحتمل أنه في وقت مخصوص بعدد مخصوص ، فيكون من الخواص التي اطلع عليها - صلى الله عليه وسلم - بالوحي ، ويضمحل عند ذلك كلام الأطباء ، ويحتمل أن يكون ذاك لبعض الحميات دون بعض وهذا أوجه .

                                                                                                          وقال عياض : لم يبين - صلى الله عليه وسلم - الصفة والحالة ، فمن أين أنه أراد الانغماس ، والأطباء يسلمون أن الحمى الصفراوية يبرد صاحبها بسقي الماء البارد الشديد البرد ، نعم ، ويسقونه الثلج ، ويغسلون أطرافه بالماء البارد ، فلا يبعد أنه - صلى الله عليه وسلم - أراد هذا النوع من الحمى والغسل على مثل ما قالوه ، أو قريب منه ، وقد [ ص: 525 ] تأولت أسماء الحديث على نحو ما قلناه ، وقد شاهدته - صلى الله عليه وسلم - وهي في القرب منه على ما علم ، انتهى .

                                                                                                          والحاصل أن الحمى أنواع : منها ما يصلح له الإبراد بالماء ، ومنها ما لا يصلح ، والذي يصلح إبراده بالماء يختلف أيضا ، فمنه ما يصلح أن يرش بين بدن المحموم وجيبه ، أو يقطر على صدره من السقاء فلا يجاوز ذلك منه ما يحتاج إلى صب الماء على رأسه وسائر بدنه ، أو إلى انغماسه في النهر الجاري مرة فأكثر ، وذلك باختلاف نوع المرض ، وكما يختلف بذلك يختلف أيضا بحسب اختلاف الفصل ، والقطر ، والمزاج ، فلا يسوى بين الشتاء والصيف ، ولا بين الشام ومصر ، ولا بين مصر والحجاز ، ولا بين من مزاجه بارد رطب ، وبين من مزاجه حار يابس ، ولا بين من به نزلات وتحدرات ، وبين غيره ، هذا هو المقرر من قواعد الطب .

                                                                                                          وأخرج الترمذي عن ثوبان مرفوعا : " إذا أصاب أحدكم الحمى ، وهي قطعة من النار فليطفئها عنه بالماء ، يستنقع في نهر جار ، ويستقبل جريته ، وليقل : بسم الله اللهم اشف عبدك ، وصدق رسولك ، بعد صلاة الصبح قبل طلوع الشمس ولينغمس فيه ثلاث غمسات ثلاثة أيام ، فإن لم يبرأ فخمس ، وإلا فسبع ، وإلا فتسع ، فإنها لا تكاد تجاوز تسعا بإذن الله " ، قال الترمذي : غريب ، وفي سنده سعيد بن زرعة مختلف فيه ، وهذا ينزل على من ينفعه ذلك ، ونزل أيضا بأنه خارج عن قواعد الطب دخل في قسم المعجزات ، ألا ترى أنه قال فيه " صدق رسولك " ، و " بإذن الله " ؟ قال الزين العراقي : عملت بهذا الحديث ، فانغمست في بحر النيل فبرئت منها ، قال ولده : ولم يحم بعدها ، ولا في مرض موته .




                                                                                                          الخدمات العلمية