الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                          كتاب الطهارة باب العمل في الوضوء

                                                                                                          حدثني يحيى عن مالك عن عمرو بن يحيى المازني عن أبيه أنه قال لعبد الله بن زيد بن عاصم وهو جد عمرو بن يحيى المازني وكان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم هل تستطيع أن تريني كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ فقال عبد الله بن زيد بن عاصم نعم فدعا بوضوء فأفرغ على يده فغسل يديه مرتين مرتين ثم تمضمض واستنثر ثلاثا ثم غسل وجهه ثلاثا ثم غسل يديه مرتين مرتين إلى المرفقين ثم مسح رأسه بيديه فأقبل بهما وأدبر بدأ بمقدم رأسه ثم ذهب بهما إلى قفاه ثم ردهما حتى رجع إلى المكان الذي بدأ منه ثم غسل رجليه [ ص: 116 ]

                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                          [ ص: 116 ] بسم الله الرحمن الرحيم

                                                                                                          2 - كتاب الطهارة .

                                                                                                          1 - باب العمل في الوضوء

                                                                                                          بالضم الفعل والفتح الماء الذي يتوضأ به على المشهور فيهما ، وحكي في كل منهما الأمران مشتق من الوضاءة الحسن والنظافة لأن المصلي يتنظف به فيصير وضيئا ، واختلف السلف في معنى الآية فقال الأكثرون : التقديم إذا قمتم إلى الصلاة محدثين .

                                                                                                          وقال آخرون : الأمر على عمومه بلا تقدير حذف إلا أنه في حق المحدث على الإيجاب وفي غيره على الندب ، وقال بعضهم : كان على الإيجاب ثم صار مندوبا ، ويدل له ما روى أحمد وأبو داود عن عبد الله بن حنظلة : " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر بالوضوء لكل صلاة طاهرا كان أو غير طاهر فلما شق عليه وضع عنه الوضوء إلا من حدث " وفي مسلم عن بريدة : " كان - صلى الله عليه وسلم - يتوضأ كل صلاة فلما كان يوم الفتح صلى الصلوات بوضوء واحد ، فقال له عمر : إنك فعلت شيئا لم تكن تفعله قال : عمدا فعلته " أي لبيان الجواز وتمسك بالآية من قال : أول ما فرض الوضوء بالمدينة ، فأما قبل ذلك فنقل ابن عبد البر اتفاق أهل السير أن غسل الجنابة فرض على النبي وهو بمكة كما فرضت الصلاة وأنه لم يصل قط إلا بوضوء ، قال : وهذا لا يجهله عالم .

                                                                                                          وقال الحاكم في المستدرك : أهل السنة بهم حاجة إلى دليل الرد على من زعم أن الوضوء لم يكن قبل نزول آية المائدة ، ثم ساق حديث ابن عباس : " دخلت فاطمة على النبي - صلى الله عليه وسلم - وهي تبكي فقالت : هؤلاء الملأ من قريش قد تعاهدوا ليقتلوك فقال : " ائتوني بوضوء فتوضأ " الحديث .

                                                                                                          قال الحافظ : وهذا يصلح ردا على من أنكر وجود الوضوء قبل الهجرة لا على من أنكر وجوبه حينئذ ، وقد جزم ابن الجهم المالكي أنه كان قبل الهجرة مندوبا ، وجزم ابن حزم بأنه لم يشرع إلا بالمدينة ، ورد عليه بما أخرجه ابن لهيعة في مغازيه عن أبي الأسود عن عروة : " أن جبريل علم النبي - صلى الله عليه وسلم - الوضوء عند نزوله عليه بالوحي " وهو مرسل ، ووصله أحمد عن ابن لهيعة عن الزهري عن عروة عن أسامة بن زيد عن أبيه ، وأخرجه ابن ماجه من طريق عقيل عن الزهري لكن لم يذكر زيدا ولو ثبت لكان [ ص: 117 ] على شرط الصحيح لكن المعروف رواية ابن لهيعة ، واستدل الحليمي بقوله - صلى الله عليه وسلم - : " إن أمتي يدعون يوم القيامة غرا محجلين من آثار الوضوء " رواه البخاري ومسلم ، على أن الوضوء من خصائص هذه الأمة وفيه نظر لأنه ثبت عن البخاري في قصة سارة مع الملك الذي أعطاها هاجر أن سارة لما هم الملك بالدنو منها قامت تتوضأ وتصلي .

                                                                                                          وفي قصة جريج الراهب أنه قام فتوضأ وصلى ثم كلم الغلام .

                                                                                                          فالظاهر أن الذي اختصت به هذه الأمة هو الغرة والتحجيل لا أصل الوضوء ، وقد صرح بذلك في رواية مسلم عن أبي هريرة مرفوعا : " سيما ليست لأحد غيركم تردون على الحوض غرا محجلين من آثار الوضوء " وسيما بكسر المهملة وإسكان التحتية أي علامة ، واعترض بعضهم على الحليمي بحديث : " هذا وضوئي ووضوء الأنبياء قبلي " وهو حديث ضعيف لا حجة فيه لضعفه ، ولاحتمال أن يكون الوضوء من خصائص الأنبياء دون أممهم إلا هذه الأمة .

                                                                                                          32 32 - ( مالك عن عمرو ) بفتح العين ( ابن يحيى المازني ) بكسر الزاي من بني مازن البخاري الأنصاري ( عن أبيه ) يحيى بن عمارة بضم العين وخفة الميم ابن أبي حسن واسمه تميم بن عمرو الأنصاري المدني من ثقات التابعين ولأبي حسن صحبة وكذا لعمارة فيما جزم به ابن عبد البر ، وقال أبو نعيم : فيه نظر ( أنه قال لعبد الله بن زيد بن عاصم ) بن كعب الأنصاري المازني أبي محمد صحابي شهير روى صفة الوضوء وعدة أحاديث وشهد بدرا وما بعدها ، فيما جزم به أبو أحمد الحاكم وابن منده وأخرجه الحاكم في المستدرك ، وقال ابن عبد البر : شهد أحدا وغيرها ولم يشهد بدرا ، ويقال : إنه الذي قتل مسيلمة الكذاب ، واستشهد يوم الحرة سنة ثلاث وستين ، وسمى سفيان بن عيينة جده عبد ربه فغلطه الحفاظ المتقدمون والمتأخرون ، لأنهما صحابيان متغايران أحدهما جده عاصم وهو راوي هذا الحديث ، والآخر جده عبد ربه راوي حديث الأذان ، وقد قيل : لا يعرف له سواه ، وممن نص على غلط ابن عيينة البخاري ، وقد اختلف رواة الموطأ في تعيين السائل ، ففي رواية يحيى كما ترى أنه يحيى بن عمارة ووافقه القعنبي والشافعي ، وفي رواية معن بن عيسى القزاز ومحمد بن الحسن عن عمرو عن أبيه يحيى أنه سمع جده أبا حسن يسأل عبد الله بن زيد ، وكذا ساقه سحنون في المدونة ، ورواه أبو مصعب وأكثر رواة الموطأ أن رجلا قال لعبد الله بن زيد بإبهام السائل للبخاري من طريق وهيب قال : شهدت عمرو بن أبي حسن سأل عبد الله بن زيد ، وجمع الحفاظ بأنه اجتمع عند عبد الله بن زيد أبو حسن [ ص: 118 ] الأنصاري وابنه عمرو وابن ابنه يحيى بن عمارة فسألوه عن صفة الوضوء وتولى السؤال منهم له عمرو بن أبي حسن فحيث نسب السؤال إليه كان على الحقيقة .

                                                                                                          ويؤيده رواية البخاري عن سليمان بن بلال : حدثني عمرو بن يحيى عن أبيه قال : كان عمي يعني عمرو بن أبي حسن يكثر الوضوء فقال لعبد الله بن زيد : أخبرني ، فذكره ، وحيث نسب السؤال إلى أبي حسن فعلى المجاز لكونه الأكبر وكان حاضرا ، وحيث نسب السؤال ليحيى بن عمارة فعلى المجاز أيضا لكونه ناقل الحديث وقد حضر السؤال ، ويؤيده رواية الإسماعيلي عن خالد الواسطي عن عمرو بن يحيى عن أبيه قال : قلنا لعبد الله فإنه يشعر بكونهم اتفقوا على سؤاله لكن متوليه منهم عمرو بن أبي حسن ، ويزيد ذلك وضوحا رواية أبي نعيم في المستخرج عن الدراوردي عن عمرو بن يحيى عن أبيه عن عمه عمرو بن أبي الحسن قال : كنت كثير الوضوء فقلت لعبد الله بن يزيد ( وهو جد عمرو بن يحيى المازني ) قال ابن عبد البر : كذا لجميع رواة الموطأ وانفرد به مالك ولم يتابعه عليه أحد فلم يقل أحد إن عبد الله بن زيد جد عمرو ، قال ابن دقيق العيد : هذا وهم قبيح من يحيى بن يحيى أو غيره ، وأعجب منه أن ابن وضاح سئل عنه وكان من الأئمة في الحديث والفقه فقال هو جده لأمه ، ورحم الله من انتهى إلى ما سمع ووقف دون ما لم يعلم ، وكيف جاز هذا على ابن وضاح ؟ والصواب في المدونة التي كان يقريها ويرويها عن سحنون وهي بين يديه ينظر فيها كل حين ، قال : وصواب الحديث مالك عن عمرو بن يحيى عن أبيه أن رجلا قال لعبد الله بن زيد ، وهذا الرجل هو عمارة بن أبي حسن وهو جد عمرو بن يحيى .

                                                                                                          وقال الحافظ : الضمير راجع للرجل القائل الثابت في أكثر الروايات ، فإن كان أبو حسن فهو جد عمرو حقيقة ، أو ابنه عمرو فمجاز لأنه عم أبيه يحيى فسماه جدا لأنه في منزلته ، ووهم من زعم أن ضمير " وهو " لعبد الله بن زيد لأنه ليس جدا لعمرو بن يحيى لا حقيقة ولا مجازا ، وقول صاحب الكمال ومن تبعه : إن عمرو بن يحيى ابن بنت عبد الله بن زيد غلط توهمه من هذه الرواية ، وقد ذكر ابن سعد أن أم عمرو حميدة بنت محمد بن إياس بن البكير ، وقال غيره : هي أم النعمان بنت أبي حبة .

                                                                                                          ( وكان ) عبد الله بن زيد ( من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم ) قال ابن عبد البر : رواه سفيان بن عيينة عم عمرو فقال فيه عن عبد الله بن زيد بن عبد ربه وأخطأ فيه ، إنما هو عبد الله بن زيد بن عاصم ، وهما صحابيان متغايران وهم إسماعيل بن إسحاق فيهما فجعلهما واحدا ، والغلط لا يسلم منه أحد ، وإذا كان ابن عيينة مع جلالته غلط في ذلك فإسماعيل أين يقع منه إلا أن المتأخرين أوسع علما [ ص: 119 ] وأقل عذرا .

                                                                                                          ( هل تستطيع أن تريني ) أي أرني ، قال الحافظ : وفيه ملاطفة الطالب للشيخ وكأنه أراد الإراءة بالفعل ليكون أبلغ في التعليم ، وسبب الاستفهام ما قام عنده من احتمال أن يكون نسي ذلك لبعد العهد .

                                                                                                          ( كيف كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتوضأ ) للصلاة .

                                                                                                          ( فقال عبد الله بن زيد بن عاصم : نعم ) أستطيع ( فدعا بوضوء ) بفتح الواو ما يتوضأ به ، وللبخاري عن ابن يوسف عن مالك : فدعا بماء ، وله من وجه آخر : فدعا بتور من ماء ، بفوقية مفتوحة ، قدح أو إناء يشرب منه أو الطست أو شبه الطست أو مثل القدر يكون من صفر أو حجارة ، وله من طريق آخر عن عبد الله بن زيد : " أتانا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخرجنا له في تور من صفر " بضم المهملة وقد تكسر صنف من جيد النحاس ، ويسمى أيضا الشبه بفتح المعجمة والموحدة سمي بذلك لأنه يشبه الذهب ، والتور المذكور هو الذي توضأ منه عبد الله بن زيد إذ سئل عن صفة الوضوء فيكون أبلغ في حكاية صورة الحال على وجهها .

                                                                                                          ( فأفرغ ) أي صب يقال : أفرغ وفرغ لغتان حكاهما في المحكم ( على يده ) زاد أبو مصعب ويحيى بن بكير اليمني ، وفي رواية ابن وضاح بالتثنية ، فالتقدير على إحدى يديه أو المراد باليد جنسها فيتفق الروايتان معنى .

                                                                                                          ( فغسل يديه ) بالتثنية لجمهور رواة الموطأ ، ولعبد الله بن يوسف عن مالك " يده " بالإفراد على الجنس فيتفق الروايتان ، وقد رواه وهيب وسليمان بن بلال عند البخاري ، والدراوردي عند أبي نعيم : " يديه " بالتثنية ( مرتين مرتين ) قال الحافظ : كذا لمالك وعند هؤلاء ، وكذا خالد بن عبد الله عند مسلم ثلاثا وهؤلاء حفاظ وقد اجتمعوا فزيادتهم مقدمة على الحافظ الواحد ، وقد ذكر مسلم عن وهيب أنه سمع هذا الحديث مرتين من عمرو بن يحيى إملاء فتأكد ترجيح روايته ، ولا يحمل على واقعتين لاتحاد المخرج والأصل عدم التعدد ، وفيه غسل اليد قبل إدخالها الإناء ولو كان على غير نوم ، ومثله في حديث عثمان ، والمراد باليدين هنا الكفان لا غير .

                                                                                                          ( ثم تمضمض واستنثر ) كذا ليحيى ولأبي مصعب بدله واستنشق ، فأطلق الاستنثار على الاستنشاق لأنه يستلزمه بلا عكس ، وفي رواية وهيب : فمضمض واستنشق واستنثر فجمع بين الثلاثة قاله الحافظ ، وقال النووي : الذي عليه جمهور أهل اللغة وغيرهم أن الاستنشاق غير الاستنثار مأخوذ من النثرة وهي طرف الأنف وهو إخراج الماء من الأنف بعد الاستنشاق وهو إيصال الماء إلى داخل الأنف وجذبه بالنفس إلى أقصاه خلافا لقول ابن الأعرابي وابن قتيبة أنهما بمعنى واحد .

                                                                                                          ( ثلاثا ) زاد وهيب بثلاث غرفات ، وفيه استحباب الجمع بين المضمضة والاستنشاق من كل غرفة ، وفي رواية خالد بن عبد الله : [ ص: 120 ] مضمض واستنشق من كف واحدة فعل ذلك ثلاثا وهو صريح في الجمع في كل مرة ، بخلاف رواية وهيب فيطرقها احتمال التوزيع بلا تسوية ، قاله ابن دقيق العيد .

                                                                                                          ( ثم غسل وجهه ثلاثا ) لم تختلف الروايات في ذلك ، ويلزم من استدل بالحديث على وجوب تعميم الرأس بالمسح - يعني كمالك وتبعه البخاري - أن يستدل به على وجوب الترتيب للإتيان بقوله ثم في الجميع ، لأن كلا الحكمين مجمل في الآية بينته السنة بالفعل ، كذا قال الحافظ ولا يلزم ذلك ، لأن إسقاط الباء في قوله : مسح رأسه ، مع كونها في الآية ظاهر في وجوب مسح جميعه ، ولا سيما وقد أكده في رواية بلفظ كله ، بخلاف لفظ ثم لا يفيد وجوب الترتيب بل يتحقق بالسنة ، وإلا لزم أن التثليث ونحوه واجب لأنه مجمل في الآية أيضا .

                                                                                                          ( ثم غسل يديه مرتين مرتين ) بالتكرار لئلا يتوهم أن المرتين لكلتا اليدين .

                                                                                                          قال الولي العراقي : المنقول في علم العربية أن أسماء الأعداد والمصادر والأجناس إذا كررت كان المراد حصولها مكررة لا التأكيد اللفظي فإنه قليل الفائدة لا يحسن حيث يكون للكلام محمل غيره ، مثال ذلك : جاء القوم اثنين اثنين ، أو رجلا رجلا ، وضربته ضربا ضربا أي اثنين بعد اثنين ، ورجلا بعد رجل ، وضربا بعد ضرب ، قال : وهذا منه أي غسلهما مرتين بعد مرتين ، أي أفرد كل واحدة منهما بالغسل مرتين .

                                                                                                          وقال الحافظ : لم تختلف الروايات عن عمرو بن يحيى في غسل اليدين مرتين .

                                                                                                          ولمسلم من طريق حبان بن واسع عن عبد الله بن زيد أنه رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - توضأ . وفيه وغسل يده اليمنى ثلاثا ثم الأخرى ثلاثا .

                                                                                                          فيحمل على أنه وضوء آخر لاختلاف مخرج الحديثين .

                                                                                                          ( إلى المرفقين ) تثنية مرفق بكسر الميم وفتح الفاء ، وبفتح الميم وكسر الفاء لغتان مشهورتان ، وهو العظم الناتئ في آخر الذراع سمي به لأنه يرتفق به في الاتكاء ونحوه ، وذهب جمهور العلماء إلى دخولهما في غسل اليدين لأن " إلى " في الآية بمعنى " مع " كقوله تعالى : ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم ( سورة النساء : الآية 2 ) ورد بأنه خلاف الظاهر ، وأجيب بأن القرينة دلت عليه وهي أن ما بعد إلى من جنس ما قبلها .

                                                                                                          وقال ابن القصار : اليد يتناولها الاسم إلى الإبط لحديث عمار أنه تيمم إلى الإبط وهو من أهل اللغة ، فلما جاء قوله تعالى : إلى المرافق ( سورة المائدة : الآية 6 ) مغسولا مع الذراعين بحق الاسم . انتهى .

                                                                                                          فإلى هنا حد للمتروك لا للمغسول .

                                                                                                          وقال الزمخشري : لفظ إلى يفيد معنى الغاية مطلقا ، فأما دخولها في الحكم وخروجها فأمر يدور مع الدليل ، فقوله تعالى : ثم أتموا الصيام إلى الليل ( سورة البقرة : الآية 187 ) دليل عدم دخوله النهي عن الوصال .

                                                                                                          وقول القائل : حفظت القرآن من أوله إلى آخره دليل الدخول كون الكلام مسوقا لحفظ [ ص: 121 ] جميع القرآن .

                                                                                                          وقوله تعالى : إلى المرافق لا دليل فيه على أحد الأمرين ، قال : فأخذ العلماء بالاحتياط ، ووقف زفر مع المتيقن ، قال الحافظ : ويمكن أن يستدل لدخولهما بفعله - صلى الله عليه وسلم ، ففي الدارقطني بإسناد حسن عن عثمان : " فغسل يديه إلى المرفقين حتى مس أطراف العضدين " وفيه عن جابر بإسناد ضعيف : " كان - صلى الله عليه وسلم - إذا توضأ أدار الماء على مرفقيه " وفي البزار والطبراني عن ثعلبة بن عباد عن أبيه مرفوعا : " ثم يغسل ذراعيه حتى يجاوز المرفق " .

                                                                                                          وفي الطحاوي والطبراني عن ابن عباد عن أبيه مرفوعا : " ثم يغسل ذراعيه حتى يسيل الماء على مرفقيه " فهذه الأحاديث يقوي بعضها بعضا .

                                                                                                          قال إسحاق بن راهويه : إلى في الآية تحتمل أن تكون بمعنى الغاية وأن تكون بمعنى مع ، وقد قال الشافعي : لا أعلم مخالفا في إيجاب دخول المرفقين في الوضوء ، فعلى هذا فزفر محجوج بالإجماع قبله ، وكذا من قال بذلك من أهل الظاهر بعده ، ولم يثبت ذلك عن مالك صريحا وإنما حكى عنه أشهب كلاما محتملا .

                                                                                                          ( ثم مسح رأسه ) زاد ابن الطباع كله ، ولأبي مصعب برأسه ، قال القرطبي : الباء للتعدية فيجوز حذفها وإثباتها لذلك ، يقال : مسحت رأس اليتيم ومسحت برأسه ، وقيل : إنما دخلت الباء لتفيد معنى بديعا وهو أن الغسل لغة يقتضي مغسولا به والمسح لا يقتضي ممسوحا به ، فلو قيل : ( رءوسكم ) لأجزأ المسح باليد إمرارا من غير شيء على الرأس فدخلت الباء لتفيد ممسوحا به وهو الماء فكأنه قال : وامسحوا برءوسكم الماء وذلك فصيح في اللغة على وجهين ، إما على القلب كما أنشد سيبويه :


                                                                                                          كنواح ريش حمامة نجدية ومسحت باللثتين عصف الإثمد

                                                                                                          واللثة هي الممسوحة بعصف الإثمد ، وإما على الاشتراك في الفعل والتساوي في معناه كقوله :


                                                                                                          مثل القنافذ هذا جون قد بلغت     نجران أو بلغت سوءاتهم هجر



                                                                                                          انتهى .

                                                                                                          وأخرج ابن خزيمة عن إسحاق بن عيسى بن الطباع قال : سألت مالكا عن الرجل يمسح مقدم رأسه في وضوئه أيجزيه ذلك ؟ فقال : حدثني عمرو بن يحيى عن أبيه عن عبد الله بن زيد قال : " مسح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في وضوئه من ناصيته إلى قفاه ثم رد يديه إلى ناصيته فمسح رأسه كله " فإن كان لفظ الآية محتملا مسح الكل فالباء زائدة أو البعض فتبعيضية ، فقد تبين بفعله - صلى الله عليه وسلم - أن المراد الأول ، ولم ينقل عنه أنه مسح بعض رأسه إلا في حديث المغيرة أنه مسح على ناصيته وعمامته رواه مسلم .

                                                                                                          قال علماؤنا : ولعل ذلك كان لعذر بدليل أنه لم يكتف بمسح الناصية حتى مسح على العمامة ، إذ لو لم يكن مسح كل [ ص: 122 ] الرأس واجبا ما مسح على العمامة ، واحتجاج المخالف بما صح عن ابن عمر من الاكتفاء بمسح بعض الرأس ولم يصح عن أحد من الصحابة إنكار ذلك لا ينهض إذ المختلف فيه لا يجب إنكاره ، وقول ابن عمر لم يرفعه فهو رأي له فلا يعارض المرفوع ( بيديه ) بالتثنية ( فأقبل بهما وأدبر ) قال عياض : قيل : معناه أقبل إلى جهة قفاه ورجع كما فسر بعده ، وقيل : المراد أدبر وأقبل والواو لا تعطي رتبة ، قال : وهذا أولى ويعضده رواية وهيب في البخاري : فأدبر بهما وأقبل .

                                                                                                          وفي مسلم : مسح رأسه كله وما أقبل وما أدبر وصدغيه .

                                                                                                          ( بدأ ) أي ابتدأ ( بمقدم رأسه ) بفتح الدال مشددة ويجوز كسرها والتخفيف وكذا مؤخر .

                                                                                                          ( ثم ذهب بهما إلى قفاه ) بالقصر وحكي مده وهو قليل مؤخر العنق ، وفي المحكم وراء العنق يذكر ويؤنث .

                                                                                                          ( ثم ردهما حتى رجع إلى المكان الذي بدأ منه ) ليستوعب جهتي الشعر بالمسح ، والمشهور عند من أوجب التعميم أن الأولى واجبة والثانية سنة ، وجملة قوله : بدأ . . . . إلخ ، عطف بيان لقوله : فأقبل بهما وأدبر ومن ثم لم تدخل الواو على بدأ ، قال الحافظ : والظاهر أنه من الحديث وليس مدرجا من كلام مالك ففيه حجة على من قال : السنة أن يبدأ بمؤخر الرأس إلى أن ينتهي إلى مقدمة لظاهر قوله : أقبل وأدبر ، ويرد عليه أن الواو لا تقتضي الترتيب .

                                                                                                          وفي رواية للبخاري : فأدبر بيديه وأقبل ، فلم يكن في ظاهره حجة ؛ لأن الإقبال والإدبار من الأمور الإضافية ولم يعين ما أقبل إليه ولا ما أدبر عنه ، ومخرج الطريقين متحد فهما بمعنى واحد ، وعينت رواية مالك البداءة بالمقدم ، فيحمل قوله : أقبل على أنه من تسمية الفعل بابتدائه أي بدأ بقبل الرأس . انتهى .

                                                                                                          وقال ابن عبد البر : روى ابن عيينة هذا الحديث فذكر فيه مسح الرأس مرتين وهو خطأ لم يذكره أحد غيره ، قال : وأظنه تأوله على أن الإقبال مرة والإدبار أخرى .

                                                                                                          ( ثم غسل رجليه ) إلى الكعبين كما في رواية وهيب عند البخاري ، والبحث فيه كالبحث في إلى المرفقين ، والمشهور أن الكعبين هما العظمان الناتئان عند مفصل الساق والقدم من كل رجل .

                                                                                                          وحكى محمد عن أبي حنيفة وابن القاسم عن مالك : أنه العظم الذي في ظهر القدم عند معقد الشراك ، والأول هو الصحيح الذي تعرفه أهل اللغة وقد أكثروا من الرد على الثاني ، ومن أوضح الأدلة فيه حديث النعمان بن بشير الصحيح في صفة الصف في الصلاة فرأيت الرجل منا يلزق كعبه بكعب صاحبه هذا .

                                                                                                          وقال القرطبي : لم يجئ في حديث عبد الله بن زيد للأذنين ذكر ويمكن أن ذلك لأن اسم الرأس يعمهما ، ورده الولي العراقي بأن الحاكم والبيهقي رويا من حديثه وصححاه : " رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتوضأ فأخذ ماء لأذنيه خلاف الماء الذي مسح به رأسه " والحديث أخرجه البخاري عن عبد الله بن يوسف ومسلم من طريق معن كلاهما عن مالك به .




                                                                                                          الخدمات العلمية