الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                          وحدثني عن مالك عن أبي الزبير المكي عن أبي الطفيل عامر بن واثلة أن معاذ بن جبل أخبره أنهم خرجوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام تبوك فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجمع بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء قال فأخر الصلاة يوما ثم خرج فصلى الظهر والعصر جميعا ثم دخل ثم خرج فصلى المغرب والعشاء جميعا ثم قال إنكم ستأتون غدا إن شاء الله عين تبوك وإنكم لن تأتوها حتى يضحى النهار فمن جاءها فلا يمس من مائها شيئا حتى آتي فجئناها وقد سبقنا إليها رجلان والعين تبض بشيء من ماء فسألهما رسول الله صلى الله عليه وسلم هل مسستما من مائها شيئا فقالا نعم فسبهما رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال لهما ما شاء الله أن يقول ثم غرفوا بأيديهم من العين قليلا قليلا حتى اجتمع في شيء ثم غسل رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه وجهه ويديه ثم أعاده فيهافجرت العين بماء كثير فاستقى الناس ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوشك يا معاذ إن طالت بك حياة أن ترى ما هاهنا قد ملئ جنانا

                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                          330 327 - ( مالك عن أبي الزبير ) محمد بن مسلم بن تدرس بفتح الفوقية وسكون المهملة وضم الراء الأسدي مولاهم ( المكي ) صدوق روى له الجميع ، وله في الموطأ ثمانية أحاديث ومات سنة ست أو ثمان وعشرين ومائة .

                                                                                                          ( عن أبي الطفيل ) بضم الطاء المهملة [ ص: 503 ] وفتح الفاء ( عامر بن واثلة ) بمثلثة ابن عبد الله بن عمرو الليثي وربما سمي عمر ولد عام إحدى عشر ورأى النبي وروى عن أبي بكر فمن بعده ، وعمر إلى أن مات سنة عشر ومائة على الصحيح وهو آخر من مات من الصحابة ، قاله مسلم وغيره .

                                                                                                          ( أن معاذ بن جبل ) بن عمرو بن أوس الأنصاري الخزرجي ، مشهور من أعيان الصحابة شهد بدرا وما بعدها وكان إليه المنتهى في العلم بالأحكام والقرآن ، مات بالشام سنة ثماني عشرة .

                                                                                                          ( أخبره أنهم ) أي الصحابة ( خرجوا مع رسول الله عام تبوك ) بمنع الصرف لوزن الفعل كتقول ( فكان رسول الله يجمع بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء ) أي جمع تأخير كذا حمله الباجي .

                                                                                                          وروى أبو داود والترمذي وأحمد وابن حبان من طريق الليث عن يزيد بن أبي حبيب عن أبي الطفيل عن معاذ : " أن النبي كان في غزوة تبوك إذا ارتحل قبل أن تزيغ الشمس أخر الظهر حتى يجمعها إلى العصر فيصليهما جميعا ، وإذا ارتحل بعد زيغ الشمس صلى الظهر والعصر جميعا " لكن أعله جماعة من أئمة الحديث بتفرد قتيبة به عن الليث ، بل ذكر البخاري أن بعض الضعفاء أدخله على قتيبة حكاه الحاكم في علوم الحديث ، وله طريق أخرى عن أبي داود من رواية هشام بن سعد عن أبي الزبير عن أبي الطفيل عن معاذ ، وهشام مختلف فيه ، وقد خالفه الحفاظ من أصحاب الزبير كمالك وسفيان والثوري وقرة بن خالد وغيرهم فلم يذكروا في روايتهم جمع التقديم ، وبه احتج من أبى جمع التقديم ، وجاء فيه حديث آخر عند أحمد عن ابن عباس : " أن النبي كان إذا زاغت الشمس في منزله جمع بين الظهر والعصر قبل أن يركب وإذا لم تزغ في منزله ركب حتى إذا كان العصر نزل فجمع بين الظهر والعصر " وفيه راو ضعيف لكن له شاهد عند ابن عباس لا أعلمه إلا مرفوعا نحوه ، رواه البيهقي برجال ثقات إلا أنه مشكوك في رفعه ، والمحفوظ وقفه ، ورواه البيهقي أيضا من وجه بالجزم بأنه موقوف على ابن عباس ، وقد قال أبو داود : ليس في تقديم الوقت حديث قائم .

                                                                                                          ( قال : فأخر الصلاة يوما ثم خرج فصلى الظهر والعصر جميعا ) جمع تأخير وحمله بعضهم على الجمع الصوري بأن صلى الظهر في آخر وقتها والعصر في أوله ، وتعقبه الخطابي وابن عبد البر وغيرهما بأن الجمع رخصة فلو كان صوريا لكان أعظم ضيقا من الإتيان بكل صلاة في وقتها ، لأن أوائل الأوقات وأواخرها مما لا يدركه أكثر الخاصة فضلا عن العامة ، ومن الدليل على أن الجمع رخصة قول ابن عباس : أراد أن لا يحرج على أمته . رواه مسلم .

                                                                                                          وأيضا فصريح الأخبار أن الجمع في وقت [ ص: 504 ] إحدى الصلاتين وهو المتبادر إلى الفهم من لفظ الجمع .

                                                                                                          ( ثم دخل ثم خرج فصلى المغرب والعشاء جميعا ) قال الباجي : مقتضاه أنه مقيم غير سائر لأنه إنما يستعمل في الدخول إلى الخباء والخروج منه وهو الغالب إلا أن يريد دخل إلى الطريق مسافرا ثم خرج عن الطريق للصلاة ، ثم دخله للسير وفيه بعد وكذا نقله عياض واستبعده وقال ابن عبد البر : هذا أوضح دليل على رد من قال : لا يجمع إلا من جد به السير ، وهو قاطع للالتباس اهـ .

                                                                                                          ففيه أن المسافر له أن يجمع نازلا وسائرا وكأنه فعله لبيان الجواز وكان أكثر عادته ما دل عليه حديث أنس في الصحيحين وغيرهما قال : " كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا ارتحل قبل أن تزيغ الشمس أخر الظهر إلى وقت العصر ثم يجمع بينهما ، وإذا زاغت قبل أن يرتحل صلى الظهر ثم ركب " ، وعند الإسماعيلي : " وإذا زالت صلى الظهر والعصر جميعا ثم ارتحل " وقال الشافعية والمالكية : ترك الجمع للمسافر أفضل .

                                                                                                          وعن مالك رواية بكراهته .

                                                                                                          وفي هذه الأحاديث تخصيص حديث الأوقات التي بينها جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم وبينها النبي للأعرابي بقوله في آخرها : " الوقت ما بين هذين " ، ( ثم قال : إنكم ستأتون غدا إن شاء الله ) تبركا وامتثالا للآية ( عين تبوك ) التي بها ، ففيه دليل على عدم تسميتها بذلك لوقوع هذا القول قبل إتيانها بيوم .

                                                                                                          ( وإنكم لن تأتوها حتى يضحى النهار ) يرتفع قويا ( فمن جاءها ) أي قبلي بدليل قوله ( فلا يمس من مائها شيئا حتى آتي ) بالمد : أجيء ، قال الباجي : وفيه أن للإمام المنع من الأمور العامة كالماء والكلأ للمصلحة ( فجئناها وقد سبقنا إليها رجلان والعين تبض ) بضاد مهملة رواه يحيى وجماعة أي تبرق ، ورواه ابن القاسم والقعنبي بمعجمة أي تقطر وتسيل يقال بض الماء وضب على القلب بمعنى والوجهان معا صحيحان .

                                                                                                          ( بشيء من ماء ) يشير إلى تقليله اهـ .

                                                                                                          وقال أبو عمر : الرواية الصحيحة المشهورة في الموطأ تبض بالضاد المنقوطة وعليها الناس .

                                                                                                          ( فسألهما رسول الله : هل مسستما ) بكسر السين الأولى على الأفصح وتفتح ( من مائها شيئا ؟ فقالا : نعم ) قال الباجي : لأنهما لم يعلما نهيه أو حملاه على الكراهة أو نسياه إن كانا مؤمنين .

                                                                                                          وروى أبو بشر الدولابي أنهما كانا من المنافقين ( فسبهما رسول الله وقال لهما ما شاء الله أن يقول ) لنفاقهما أو عمل النهي على الكراهة ، فإن كانا لم يعلما أو نسيا فكأنه سبهما إذ كانا سببا لفوات ما أراده من إظهار [ ص: 505 ] المعجزة كما يسب الساهي والناسي ويلامان إذا كانا سببا لفوات محروس عليه اهـ .

                                                                                                          ( ثم غرفوا بأيديهم من العين قليلا قليلا ) بالتكرار دليلا على نهاية القلة ( حتى اجتمع ) الماء الذي غرفوه ( في شيء ) من الأواني التي كانت معهم ولا قلب فيه ، وأن أصله غرفوا في شيء حتى اجتمع ماء كثير كما توهم ( ثم غسل رسول الله فيه ) أي الشيء أي الإناء ( وجهه ويديه ) للبركة ، والأظهر أن فيه ضمير فيه للماء أي به وعبر بفي لمشاكلة قوله ( ثم أعاده فيها فجرت العين بماء كثير ) وفي مسلم : بماء منهمر ، أو قال : غزير ، شك أبو علي أي راويه عن مالك .

                                                                                                          ( فاستقى الناس ) شربوا وسقوا دوابهم فهو إخبار عن كثرة الماء وهم جيش كثير عددهم .

                                                                                                          ( ثم قال رسول الله يوشك ) يقرب ويسرع من غير بطء ( يا معاذ إن طالت بك حياة ) أي إن أطال الله عمرك ورأيت هذا المكان ( أن ترى ) بعينك فاعل يوشك وأن بالفتح مصدرية ( ما ) موصولة أي الذي ( هاهنا ) إشارة للمكان ( قد ملئ ) بالبناء للمفعول ونائبه الضمير أي هو ( جنانا ) نصب على التمييز بكسر الجيم جمع جنة بفتحها أي يكثر ماؤه ويخصب أرضه فيكون بساتين ذات أشجار كثيرة وثمار ، قال الباجي : وهذا إخبار بغيب قد وقع ، وخص معاذا بذلك لأنه استوطن الشام وبها مات ، فعلم صلى الله عليه وسلم بالوحي أنه سيرى ذلك الموضع كما ذكر ، وأنه يمتلئ جنانا ببركته صلى الله عليه وسلم ، ولو لم يكن له معجزة غير هذه لتبين صدقه وظهرت حجته .

                                                                                                          وقال ابن عبد البر : قال ابن وضاح : أنا رأيت ذلك الموضع كله حوالي تلك العين جنانا خضرة نضرة ولعله يتمادى إلى قيام الساعة وهكذا النبوة ، وأما الشجر فلا يبقى بعد مفارقة صاحبه اهـ .

                                                                                                          وهذا الحديث أخرجه مسلم في فضائل النبي صلى الله عليه وسلم حدثنا عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي قال : حدثنا أبو علي الحنفي قال : حدثنا مالك به سوى الشك الذي ذكرته .




                                                                                                          الخدمات العلمية