الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                          وحدثني عن مالك عن شريك بن عبد الله بن أبي نمر عن أنس بن مالك أنه قال جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله هلكت المواشي وتقطعت السبل فادع الله فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم فمطرنا من الجمعة إلى الجمعة قال فجاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله تهدمت البيوت وانقطعت السبل وهلكت المواشي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم اللهم ظهور الجبال والآكام وبطون الأودية ومنابت الشجر قال فانجابت عن المدينة انجياب الثوب قال مالك في رجل فاتته صلاة الاستسقاء وأدرك الخطبة فأراد أن يصليها في المسجد أو في بيته إذا رجع قال مالك هو من ذلك في سعة إن شاء فعل أو ترك

                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                          450 451 - ( مالك ، عن شريك بن عبد الله بن أبي نمر ) بفتح النون وكسر الميم المدني ، صدوق يخطئ ، مات في حدود أربعين ومائة ، وفي التمهيد : صالح الحديث وهو في عداد الشيوخ ، روى عنه جماعة من الأئمة ، مات سنة أربع وأربعين ومائة ، لمالك عنه حديثان .

                                                                                                          ( عن أنس بن مالك أنه قال : جاء رجل ) قال الحافظ : لم أقف على اسمه في حديث أنس ، وروى أحمد ، عن كعب بن مرة : ما يمكن أن يفسر هذا المبهم بأنه كعب المذكور ، وللبيهقي مرسلا : ما يمكن أن يفسر بأنه خارجة بن حصن الفزاري ، لكن رواه ابن ماجه ، عن [ ص: 650 ] شرحبيل بن السمط أنه قال لكعب بن مرة : يا كعب حدثنا عن رسول الله ، فقال : جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فقال : يا رسول الله استسق الله ، فرفع يديه فقال : اللهم اسقنا ، ففي هذا أنه غير كعب .

                                                                                                          وفي رواية إسحاق بن أبي طلحة ، عن أنس أنه أعرابي ، ويحيى بن سعيد ، عن أنس : " أتى رجل أعرابي من أهل البادية " ولا يعارض ذلك قول ثابت ، عن أنس : فقام الناس فصاحوا ، لاحتمال أنهم سألوا بعد أن سأل الرجل أو نسب إليهم لموافقة سؤال السائل ما كانوا يريدونه من دعائه - صلى الله عليه وسلم - .

                                                                                                          ولأحمد ، عن ثابت ، عن أنس : إذ قال بعض أهل المسجد ، وهو يرجح الاحتمال الأول ، وزعم بعضهم أنه أبو سفيان بن حرب ، وهم ؛ لأنه جاء في واقعة أخرى قبل إسلامه ، وينفي زعمه قوله : يا رسول الله ؛ أي : لأنه لا يقولها قبل إسلامه .

                                                                                                          ( إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ) وفي الصحيحين من طريق إسماعيل بن جعفر ، عن شريك ، عن أنس : أن رجلا دخل المسجد يوم جمعة وهو قائم يخطب فاستقبله " ( فقال : يا رسول الله هلكت المواشي ) لعدم وجود ما تعيش به من الأقوات لحبس المطر ، وفي رواية : الأموال ، والمراد بها هنا المواشي لا الصامت ، وفي لفظ : الكراع - بضم الكاف - الخيل وغيرها ، وفي رواية يحيى بن سعيد : هلكت الماشية ، هلك العيال ، هلك الناس ، وهو من العام بعد الخاص .

                                                                                                          ( وتقطعت ) بفوقية وشد الطاء ( السبل ) بضمتين جمع سبيل الطرق ؛ لأن الإبل ضعفت لقلة القوت عن السفر ، أو لأنها لا تجد في طريقها من الكلأ ما يقيم أودها .

                                                                                                          وقيل : المراد نفاد ما عند الناس من الطعام أو قلته فلا يجدون ما يحملونه إلى الأسواق .

                                                                                                          وفي رواية قتادة ، عن أنس : قحط المطر بفتح القاف والطاء ، وحكي بضم فكسر .

                                                                                                          وفي رواية ثابت : واحمر الشجر ، كناية عن يبس ورقها لعدم شربها الماء أو لانتثاره فيصير الشجر أعوادا بلا ورق .

                                                                                                          ولأحمد في رواية قتادة : وأمحلت الأرض ، وهذه الألفاظ له يحتمل أن الرجل قالها كلها ، ويحتمل أن بعض الرواة روى شيئا مما قاله بالمعنى ، فإنها متقاربة فلا يكون غلطا كما قاله صاحب المطالع وغيره .

                                                                                                          ( فادع الله ) زاد في رواية إسماعيل بن جعفر : يغثنا ، وفي رواية قتادة : أن يسقينا ، وفي أخرى : فاستسق ربك .

                                                                                                          ( فدعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ) وفي رواية ابن جعفر : " فرفع - صلى الله عليه وسلم - يديه ، ثم قال : اللهم أغثنا ثلاث مرات " ( فمطرنا من الجمعة إلى الجمعة ) قال أنس : " ولا والله ما نرى في السماء من سحاب ولا قزعة وما بيننا وبين سلع من بيت ولا دار ، فطلعت من ورائه سحابة مثل الترس فلما توسطت السماء انتشرت ثم أمطرت ، فلا والله ما رأينا الشمس سبتا " وفي رواية : فخرجنا نخوض الماء حتى أتينا منازلنا " وفي مسلم : " فأمطرنا حتى رأيت الرجل تهمه نفسه أن يأتي أهله " ، ولابن خزيمة : " حتى أهم الشاب القريب الدار الرجوع إلى أهله " ( قال : فجاء ) رجل ( إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ) ظاهره أنه غير الأول ، لأن النكرة إذا [ ص: 651 ] تكررت دلت على التعدد ، وقد قال شريك في آخر هذا الحديث : سألت أنسا أهو الرجل الأول ؟ قال : لا أدري ، ومقتضاه أنه لم يجزم بالتغاير ، فالظاهر أن القاعدة أغلبية ؛ لأن أنسا من أهل اللسان .

                                                                                                          وفي رواية إسحاق وقتادة ، عن أنس : فقام ذلك الرجل أو غيره وهذا يقتضي أنه كان يشك فيه ، وفي رواية يحيى بن سعيد ، عن أنس : فجاء الرجل فقال : يا رسول الله ، ومثله لأبي عوانة ، عن حفص ، عن أنس بلفظ : فما زلنا نمطر حتى جاء ذلك الرجل الأعرابي في الجمعة الأخرى ، وأصله في مسلم ، وهذا يقتضي الجزم بأنه واحد ، فلعل أنسا كان يتردد تارة ، ويجزم أخرى باعتبار ما يغلب على ظنه .

                                                                                                          ( فقال : يا رسول الله تهدمت البيوت ) من كثرة المطر ( وانقطعت السبل ) لتعذر سلوك الطريق من كثرة الماء فهو سبب غير الأول ، وفي رواية إسماعيل : هلكت الأموال ؛ أي : لكثرة الماء انقطع المرعى .

                                                                                                          ( وهلكت المواشي ) من عدم المرعى أو لعدم ما يكنها من المطر ، ويدل عليه قوله في رواية النسائي : من كثرة الماء ، وفي رواية حميد ، عن أنس عند ابن خزيمة : واحتبس الركبان ، وفي رواية إسحاق : هدم البناء وغرق المال .

                                                                                                          فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : اللهم ) أي : يا الله أنزل المطر ( ظهور الجبال ) أي : على ظهور ؛ فنصب توسعا ، وقد رواه القنيسي والأوسي بلفظ على ( والإكام ) بكسر الهمزة وقد تفتح وتمد ؛ جمع أكمة بفتحات ، قال ابن البرقي : وهو التراب المجتمع ، وقال الداودي : هو أكبر من الكدية ، وقال القزاز : هي التي من حجر واحد وهو قول الخليل ، وقال الخطابي : هي الهضبة الضخمة ، وقيل : الجبل الصغير ، وقيل : ما ارتفع من الأرض ، وقال الثعالبي : الأكمة أعلى من الرابية ، ( وبطون الأودية ) أي : ما يتحصل فيه الماء فينتفع به ، قالوا : ولم يسمع أفعلة جمع فاعل إلا أودية جمع واد وفيه نظر . ( ومنابت الشجر ) جمع منبت بكسر الموحدة ؛ أي : ما حولها مما يصلح أن ينبت فيه ؛ لأن نفس المنبت لا يقع عليه المطر ، زاد ابن أبي أويس في روايته عن مالك : ورءوس الجبال ، في رواية إسماعيل بن جعفر : " فرفع - صلى الله عليه وسلم - يديه ثم قال : اللهم حوالينا ولا علينا ، اللهم على الآكام والظراب وبطون الأودية ومنابت الشجر " ( قال ) أنس : ( فانجابت ) بجيم وموحدة ( عن المدينة انجياب الثوب ) أي : خرجت عنها كما يخرج الثوب عن لابسه ، وفي المنتقى : قال ابن القاسم قال مالك : معناه تدورت عن المدينة كما يدور جيب القميص . وقال ابن وهب : يعني تقطعت عنها كما يقطع الثوب الخلق . انتهى .

                                                                                                          وفي رواية : فما هو إلا أن تكلم - صلى الله عليه وسلم - [ ص: 652 ] تمزق السحاب حتى ما نرى منه شيئ ا ؛ أي : في المدينة ، ولمسلم : فلقد رأيت السحاب يتمزق كأنه الملاءين يطوى - بضم الميم والقصر - وقد يمد جمع ملاءة ثوب معروف . وللبخاري : فلقد رأيت السحاب يقتطع يمينا وشمالا ، يمطرون ؛ أي : أهل النواحي ولا يمطر أهل المدينة . وله أيضا : فجعل السحاب يتصدع عن المدينة يريهم الله كرامة نبيه وإجابة دعوته . وله أيضا : فتكشطت فجعلت تمطر حول المدينة ولا تمطر بالمدينة قطرة ، واستشكل بأن بقاء المطر فيما سواها يقتضي أنه لم يرتفع الإهلاك ولا القطع وهو خلاف مطلوب السائل بقوله : تهدمت البيوت وانقطعت السبل ، والجواب أنه استمر فيما حولها من أكام وظراب وبطون الأودية لا في الطريق المسلوكة ولا البيوت ، ووقوع المطر في بقعة دون بقعة كثير ولو كانت تجاورها ، وإذا جاز ذلك جاز أن يوجد للمواشي أماكن تكنها وترعى فيها بحيث لا يضرها ذلك المطر .

                                                                                                          وفيه الأدب في الدعاء حيث لم يدع برفع المطر مطلقا لاحتمال الاحتياج إلى استمراره ، فاحترز فيه بما يقضي رفع الضرر وإبقاء النفع ، ومنه استنبط أن من أنعم الله عليه بنعمة لا ينبغي له أن يسخطها لعارض يعرض فيها ، بل يسأل الله رفع العارض ، وإبقاء النعمة ، وفيه أن الدعاء يرفع الضر لا ينافي التوكل وإن كان مقام الأفضل التفويض ؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - كان عالما بما وقع لهم من الجدب وآخر السؤال تفويضا لربه ، ثم أجابهم بما سألوه بيانا للجوار وتقريرا لسنة هذه العبادة الخاصة ، أشار إليه ابن أبي جمرة ، وفيه قيام الواحد بأمر الجماعة ، وإنما لم يباشر ذلك أكابر الصحابة لسلوكهم الأدب بالتسليم وترك الابتداء بالسؤال ، ومنه قول أنس : كان يعجبنا أن يجيء الرجل من البادية فيسأله ، وفيه علم من أعلام النبوة في إجابة دعائه عقبه أو معه ابتداء في الاستسقاء وانتهاء في الاستصحاء وامتثال السحاب أمره بمجرد الإشارة ، وفيه غير ذلك .

                                                                                                          وأخرجه البخاري في مواضع عن شيوخه عبد الله بن مسلمة وإسماعيل وعبد الله بن يوسف ، الثلاثة عن مالك به ، وتابعه إسماعيل بن جعفر ، عن شريك عند الشيخين نحوه ، وله طرق في الصحيحين وغيرهما ، ( قال مالك في رجل فاتته صلاة الاستسقاء وأدرك الخطبة فأراد أن يصليها في المسجد وفي بيته إذا رجع قال مالك ) أعاده ليفصل بين التصوير والحكم ( هو من ذلك في سعة ) بالفتح فسحة ( إن شاء فعل أو ترك ) إذن شأن النوافل ذلك ، والله أعلم .




                                                                                                          الخدمات العلمية