الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
1645 مالك ، عن عمرو بن أبي عمرو مولى المطلب ، عن أنس بن [ ص: 176 ] مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طلع له أحد ، فقال : هذا جبل يحبنا ونحبه ، اللهم إن إبراهيم حرم مكة ، وإني أحرم ما بين لابتيها

التالي السابق


لم يختلف عن مالك في إسناد هذا الحديث ولا في لفظه فيما علمت ، ورواه سفيان بن بشر ، عن مالك ، عن الزهري ، عن حميد بن عبد الرحمن ، عن أبي هريرة فأخطأ فيه ( والصواب ما في الموطإ : ) مالك ، عن عمرو ، عن أنس ، حدثنا خلف بن القاسم قال : حدثنا أبو عمرو عثمان بن محمد بن عبد الرحمن بن معاوية بن عبد الرحمن بن محمد بن عتبة بن أبي سفيان بن حرب قال : حدثنا أبو شيبة داود بن إبراهيم البغدادي قال : حدثنا عبد الأعلى بن حماد قال : قرأت على مالك بن أنس : ، عن عمرو مولى المطلب ، عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طلع له أحد فقال : إن هذا جبل يحبنا ونحبه ، اللهم إن إبراهيم حرم مكة وإني أحرم ما بين لابتيها يعني المدينة .

حدثنا خلف قال : حدثنا عبد الله بن عمر بن إسحاق ، حدثنا محمد بن جعفر بن أعين ، وحدثنا خلف ، حدثنا أبو العباس أحمد بن إبراهيم بن علي بن محمد الكندي ، ومحمد بن عبد الله قالا : حدثنا عبد الله بن عبد العزيز البغوي قالا : حدثنا عبد الأعلى بن حماد قال : قرأت على مالك بن أنس ، عن عمرو بن أبي عمرو ، عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم طلع له أحد ، فذكره .

[ ص: 177 ] قال أبو عمر :

للناس في هذا مذهبان : أحدهما أن ذلك مجاز ، ومجازه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يفرح بأحد إذا طلع له استبشارا بالمدينة ، ومن فيها من أهلها ، ويحب النظر إليه لقربه من النزول بأهله ، والأوبة من سفره ، فلهذا والله أعلم كان يحب الجبل ، وأما حب الجبل له فكأنه قال : وكذلك كان يحبنا لو كان ممن تصح وتمكن منه محبة ، وقد مضى هذا المعنى في باب عبد الله بن يزيد واضحا عند قوله صلى الله عليه وسلم : اشتكت النار إلى ربها . الحديث . والحمد لله .

ومن هذا قول عمر بن الوليد بن عقبة :


بكى أحد إن فارق اليوم أهله فكيف بذي وجد من القوم آلف

وقد قيل : معنى قوله : يحبنا ، أي : يحبنا أهله ، يعني الأنصار الساكنين قربه ، وكانوا يحبون رسول الله صلى الله عليه وسلم ويحبهم ; لأنهم آووه ، ونصروه ، وأقاموا دينه ، فخرج قوله صلى الله عليه وسلم على هذا التأويل مخرج قول الله عز وجل ( واسأل القرية التي كنا فيها ) ، يريد أهل القرية ، وهذا معروف في لسان العرب ، وقد تكون الإرادة للجبل مجازا أيضا ، فيكون القول في حب الجبل كالقول في إرادة الجدار أن ينقض سواء ، ومن حمل ذلك على المجاز [ ص: 178 ] جعله كقول الشاعر :


يريد الرمح صدر أبي براء ويرغب عن دماء بني عقيل

وزعم أن العرب خوطبت من ذلك بما تعرفه بينها من مخاطباتها ، ومفهوم كلامها ، فهذا كله مذهب من حمل هذه الألفاظ وما كان مثلها في الكتاب والسنة على المجاز المعروف من لسان العرب .

والمذهب الآخر أن ذلك حقيقة ، ومن حمل هذا على الحقيقة جعل للجدار إرادة يفهمها من شاء الله ، وجعل لكل شيء تسبيحا حقيقة لا يفقهها الناس بقوله عز وجل ( ياجبال أوبي معه ) ، وقوله ( وإن من شيء إلا يسبح بحمده ) ، وجعل للسماوات والأرض بكاء وقولا - في مثل هذا المعنى - صحيحا ، والقول في كلا المذهبين يتسع . وقد أكثر الناس في هذا ، وبالله التوفيق .

وأما قوله : إن إبراهيم حرم مكة ، وإني أحرم ما بين لابتيها ، فقد روى هذا المعنى أبو هريرة ، ورافع بن خديج ، عن النبي صلى الله عليه وسلم : حدثنا عبد الوارث ، حدثنا قاسم ، حدثنا أحمد بن زهير ، حدثنا قتيبة بن سعيد ، حدثنا بكر بن مضر ، عن ابن الهادي ، عن أبي بكر بن محمد ، عن عبد الله بن عمرو بن عثمان ، عن رافع بن خديج قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن إبراهيم حرم مكة .

وقال أحمد بن زهير : حدثنا مصعب بن عبد الله ، حدثنا عبد العزيز بن أبي حازم ، عن كثير بن زيد ، عن الوليد بن رباح ، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : إن إبراهيم حرم مكة .

[ ص: 179 ] ورواه جابر ، وسعد بن أبي وقاص أيضا كذلك : حدثنا عبد الوارث ، حدثنا قاسم ، حدثنا أحمد بن زهير ، حدثنا أبي ، حدثنا جرير ، عن منصور ، عن مجاهد ، عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة : إن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السماوات والأرض ، فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة : لا يعضد شوكه ، ولا ينفر صيده ، ولا تلتقط لقطته إلا من عرفها ، وذكر تمام الحديث .

وحدثنا عبد الوارث ، حدثنا قاسم قال : حدثنا أحمد بن زهير ، حدثنا أبي ، حدثنا وهب بن جرير ، حدثنا أبي قال : سمعت يونس بن يزيد يحدث ، عن الزهري ، عن مسلم بن يزيد أحد بني سعد بن بكر أنه سمع أبا شريح الخزاعي ، ثم الكعبي يقول : ثم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فأثنى على الله بما هو أهله ، ثم قال : أما بعد ، فإن الله حرم مكة لم يحرمها الناس ، وإنما أحلها لي ساعة من النهار آمن ، وإنها اليوم حرام كما حرمها أول مرة ، أحرم ما بين لابتيها يعني المدينة .

أخبرنا سعيد بن نصر ، حدثنا قاسم ، حدثنا إسماعيل بن إسحاق ، حدثنا محمد بن أبي بكر ، حدثنا الفضل بن سليمان ، حدثنا محمد بن أبي يحيى ، عن أبي إسحاق ، عن عامر بن سعد بن أبي وقاص ، عن أبيه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما بين لابتي المدينة حرام كما حرم إبراهيم مكة ، اللهم اجعل البركة فيها بركتين ، وبارك لهم في صاعهم ومدهم ، وإني أحرم ما بين لابتيها يعني المدينة .

ففي هذا كله تصريح بتحريم المدينة ، وأنها لا يجوز الاصطياد فيها ، وفي تلك ما يبطل قول الكوفيين ، ويشهد لصحة قول أهل المدينة .

قال عبد الملك بن عبد العزيز بن الماجشون : التحريم للصيد بالمدينة حق ; لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : اللهم إن إبراهيم حرم مكة وإني أحرم ما بين لابتيها ، قال عبد الملك : وحد ذلك ما لو التقت الحرتان كانت البيوت شاغلة [ ص: 180 ] عنه ، وما فوق ذلك وأسفل فمباح . قال : وقال مالك : أكره ما قرب جدا من فوق ، وأسفل .

وبلغنا أن سعدا أخذ ثوب من فعل ذلك وفأسه فكلم فيه فقال : لا أدع ما أعطانيه رسول الله صلى الله عليه وسلم . قال : وبلغنا أن عمر بن الخطاب قال لمولى لقدامة بن مظعون يدعى سالما : إذا رأيت من يقطع من الشجر - يعني شجر المدينة - شيئا فخذ فأسه . قال : وثوبه يا أمير المؤمنين ؟ قال : لا ولكن فأسه .

قال أبو عمر :

لم يختلف العلماء أنه لا يجوز أخذ فأس من اصطاد بالمدينة اليوم ولا ثوبه ، وقد احتج بذلك من زعم أن تحريم صيدها منسوخ بذلك ، وهذا ليس بشيء ; لأن الحديث في ذلك ، عن سعد ، وعمر رضي الله عنهما ضعيف الإسناد ، ولا يحتج به ، وقد ثبت تحريمها من الطرق الصحاح ، وليس في سقوط وجوب الجزاء على من اصطاد فيها ما يسقط تحريمها ; لما قدمناه من الحجة في ذلك في باب ابن شهاب ، عن سعيد بن المسيب ، وأشبعنا القول في هذه المسألة ، ولم يكن في شريعة إبراهيم جزاء صيد فيما قال أهل العلم . والنبي صلى الله عليه وسلم إنما حرم المدينة كما حرم إبراهيم مكة ، ووجوب الجزاء في صيد الحرم شيء ابتلى الله به هذه الأمة ، ألا ترى إلى قوله عز وجل ( ياأيها الذين آمنوا ليبلونكم الله بشيء من الصيد ) ، ولم يكن قبل ذلك ، والله أعلم . والصحابة فهموا المراد في تحريم صيد [ ص: 181 ] المدينة فتلقوه بالوجوب دون جزاء ، كذلك قال أبو هريرة ، وزيد بن ثابت ، وأبو سعيد .

ذكر إسماعيل بن إسحاق قال : حدثنا إسماعيل بن أبي أويس قال : حدثني أخي ، عن سليمان بن بلال ، عن سعد بن إسحاق بن كعب بن عجرة ، عن زينب بنت كعب بن عجرة ، عن أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم حرم ما بين لابتي المدينة ، وأنه حرم شجرها أن يعضد ، قالت زينب : فكان أبو سعيد يضرب بنيه إذا صادوا فيها ، ويرسل الصيد .

قال : وحدثنا مسدد قال : حدثنا عبد الواحد بن زياد قال : حدثنا عاصم الأحول قال : قلت لأنس بن مالك : حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ؟ قال : نعم .

وقد قالت فرقة : في صيد المدينة جزاء ، واحتجوا بأنه حرم نبي كما مكة حرم نبي ، واعتلوا بقوله : إن إبراهيم حرم مكة وإني أحرم ما بين لابتيها ، والوجه المختار ما قدمنا ذكره ، وهو قول مالك ، والشافعي ، وأبي حنيفة ، وأكثر أهل العلم ، والأصل أن الذمة بريئة فلا يجب فيها شيء إلا بيقين .

وأما حرم المدينة ، وكم يبلغ من المسافة ومعنى لابتيها - وهما الحرتان - فقد مضى في كتابنا هذا في باب ابن شهاب ، عن سعيد بن المسيب ، والحمد لله .




الخدمات العلمية