الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
86 [ ص: 202 ] حديث عاشر لأبي النضر

مالك ، عن أبي النضر ، مولى عمر بن عبيد الله ، عن سليمان بن يسار ، عن المقداد بن الأسود ، أن علي بن أبي طالب أمره أن يسأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الرجل إذا دنا من أهله فخرج منه المذي ماذا عليه ؟ فإن عندي ابنته ، وأنا أستحي أن أسأله ، قال المقداد : فسألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك ، فقال : إذا وجد ذلك أحدكم فلينضح ذكره وليتوضأ وضوءه للصلاة .

التالي السابق


هذا إسناد ليس بمتصل ; لأن سليمان بن يسار لم يسمع من المقداد ، ولا من علي ، ولم ير واحدا منهما .

ومولد سليمان بن يسار سنة أربع وثلاثين ، وقيل : سنة سبع وعشرين ، ولا خلاف أن المقداد توفي سنة ثلاث وثلاثين ، وهو المقداد بن عمرو الكندي ، يكنى أبا معبد ، تبناه الأسود بن عبد يغوث الزهري ، فنسب إليه .

وقد ذكرنا أخبار المقداد وسنه في كتاب الصحابة بما يغني ، عن ذكره هاهنا ، وبين سليمان بن يسار وعلي في هذا الحديث ابن عباس ، وسماع سليمان بن يسار من ابن عباس غير مرفوع .

[ ص: 203 ] حدثنا خلف بن القاسم ، قال : حدثنا عبد الله بن محمد بن ناصح ، قال : حدثنا أحمد بن علي بن سعيد ، قال : حدثنا أحمد بن عيسى ، قال : حدثنا ابن وهب ، قال : أخبرني مخرمة بن بكير ، عن أبيه ، عن سليمان بن يسار ، عن ابن عباس ، قال : قال علي بن أبي طالب : أرسلت المقداد بن الأسود إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأله عن المذي يخرج من الإنسان كيف يفعل ؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - توضأ ، وانضح فرجك . وقد روي هذا الخبر عن ابن عباس ، عن علي من غير هذا الوجه .

حدثنا خلف بن القاسم ، حدثنا الحسين بن جعفر ، حدثنا يوسف بن يزيد ، حدثنا سعيد بن منصور ، حدثنا سفيان بن عيينة ، عن عمرو بن دينار ، عن عطاء ، عن ابن عباس ، أنه سمع علي بن أبي طالب بالكوفة ، يقول : كنت رجلا أجد من المذي أذى ، فأمرت عمارا يسأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأن ابنته كانت تحتي ، فقال : يكفيك منه الوضوء . هكذا قال عطاء ، عن ابن عباس ، عن علي ، وخالفه الحميدي وغيره فجعله عن عطاء ، عن عائش البكري ، عن علي :

حدثنا سعيد بن نصر ، وعبد الوارث بن سفيان ، قالا : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا محمد بن إسماعيل ، قال : حدثنا الحميدي ، حدثنا سفيان ، حدثنا عمرو ، قال : أخبرني عطاء ، قال : سمعت عائش بن أنس ، يقول : سمعت عليا على المنبر ، يقول : كنت أجد من المذي شدة ، فأردت أن أسأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكانت ابنته عندي - فاستحييت أن أسأله ، فأمرت عمارا فسأله ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : إنما يكفي منه الوضوء . وهكذا رواه معمر ، عن عمرو بن دينار ، عن عائش بن أنس ، عن علي .

[ ص: 204 ] وحدثنا عبد الوارث بن سفيان ، قال : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا بكر بن حماد ، قال : حدثنا مسدد ، قال : حدثنا يحيى ، عن ابن جريج قال أخبرني عطاء ، عن عائش بن أنس البكري ، قال : تذاكر علي والمقداد وعمار بن ياسر المذي ، فقال علي : إني رجل مذاء ، وأنا أستحيي أن أسأله ; من أجل ابنته تحتي ، فقال لأحدهما : سله - قال عطاء : سماه لي عائش ، ونسيت اسمه - فسأله ، فقال : ذلك المذي ، ليغسل ذاك منه . قال عطاء : ما ذاك منه ؟ قال : ذكره ، ويتوضأ فيحسن وضوءه ، أو يتوضأ مثل وضوئه للصلاة وينضح فرجه .

ففي هذا الحديث بيان أن عليا ، والمقداد ، وعمار بن ياسر ، تذاكروا المذي ، فلذلك ما يجيء في بعض الآثار ، عن علي ( فأمرت المقداد ) ، وفي بعضها ( فأمرت عمارا ) ، وجائز أن يأمر أحدهما ، وجائز أن يأمر كل واحد منهما أن يسأل له فسأل ، فكان الجواب واحدا ، فحدث به مرة عن عمار ، ومرة عن المقداد ، هذا كله مرفوع ; لإمكانه وصحته في المعنى ، وحسبك أنهم ثلاثتهم قد اشتركوا في المذاكرة بهذا الحديث وعلمه والخبر عنه .

وذكر عبد الرزاق ، عن ابن جريج ، قال : قال قيس لعطاء : أرأيت المذي ؟ أكنت ماسحه مسحا ؟ قال : لا ، المذي أشد من البول يغسل غسلا ، ثم أنشأ يحدثنا حينئذ ، قال : أخبرني عائش بن أنس أخو بني سعد بن ليث ، قال : تذاكر علي بن أبي طالب وعمار بن ياسر والمقداد بن الأسود المذي ، فقال علي : إني رجل مذاء فاسألوا عن ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإني استحيي أن أسأله عن ذلك لمكان ابنته مني ، ولولا مكان ابنته مني لسألته ، قال عائش : فسأله أحد الرجلين عمار أو المقداد ، فسمى لي عائش الذي سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك منهما فنسيته ، فقال : النبي - صلى الله عليه وسلم : ذلكم المذي إذا وجده أحدكم فليغسل ذلك منه ، ثم ليتوضأ فيحسن وضوءه ، ثم لينتضح في فرجه .

[ ص: 205 ] قال ابن جريج : فسألت عطاء عن قول النبي - صلى الله عليه وسلم - يغسل ذلك منه قال : حيث المذي يغسل منه ، أم ذكره كله ؟ فقال : بل حيث المذي منه فقط ، فقلت لعطاء أرأيت إن وجدت مذيا فغسلت ذكري كله أنضح في ذلك فرجي ؟ قال : لا حسبك ، وقال مالك : المذي عندنا أشد من الودي ; لأن الفرج يغسل من المذي ، والودي عندنا بمنزلة البول ، قال مالك : وليس على الرجل أن يغسل أنثييه من المذي إلا أن يظن أنه قد أصابهما منه شيء ، قال مالك : والودي من الجمام يأتي بإثر البول أبيض خاثرا قال ، والمذي : تكون معه شهوة ، وهو رقيق إلى الصفرة يكون ، عند ملاعبة الرجل أهله ، وعند حدوث الشهوة له .

قال أبو عمر :

يحتمل قول مالك المذي عندنا أشد من الودي ; لأن الودي يستنجى منه بالأحجار ، والمذي لا بد من غسله ، ولا تطهر منه الأحجار ، فقد قال بهذا قوم من أصحاب مالك وغيرهم ، وقال بعضهم : تطهره الأحجار إلا عند وجود الماء خاصة ، وفي هذا القول ضعف ، والأول أولى بقول مالك ; لأن الفرج يغسل من المذي ، ولأن الأصل في النجاسات الغسل إلا ما خصت السنة من المعتادات بالاستنجاء ، ولما لم يتعد بالأحجار إلى غير المخرج ، وجب أن لا يتعدى بها غير المعتادات .

وقال الشافعي : لا يجوز الاستنجاء من الدم الخارج من الدبر ، ولا من المذي ، كما لا يجوز للمستحاضة أن تستنجي بغير الماء .

وأبو حنيفة على أصله في جواز إزالة النجاسات بكل ما أزالها .

[ ص: 206 ] وقال بعض أصحاب مالك : المذي يغسل منه الذكر كله ، ولا يغسل من الودي إلا المخرج وحده ، وما مسه .

وعلى الوجهين قد تنازع فيه العلماء ، فمن ذهب إلى غسل الذكر قد جعله عبادة تعبد بها النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله يغسل ذكره ، ولم يقل بعض ذكره ; لأن عموم هذا اللفظ يوجب غسل الذكر كله ما يبين منه الأذى من أجل الأذى ، ويكون غسل سائره عبادة كسائر العبادات في الغسل وغيره ، وسنذكر اختلاف الآثار بذلك في آخر هذا الباب وماذا عن السلف ، إن شاء الله .

حدثنا خلف بن القاسم ، قال : حدثنا عبد الله بن محمد بن المفسر ، قال : حدثنا أحمد بن علي بن سعيد القاضي ، وحدثنا سعيد بن نصر ، وعبد الوارث بن سفيان ، قالا : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا ابن وضاح ، قال : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، قال : حدثنا وكيع ، وأبو معاوية ، وهشيم ، عن الأعمش ، عن منذر بن يعلى الثوري - يكنى أبا يعلى - عن ابن الحنفية ، عن علي ، قال : كنت رجلا مذاء فكنت أستحيي أن أسأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لمكان ابنته فأمرت المقداد بن الأسود فسأله ، فقال : يغسل ذكره ويتوضأ .

قال أبو عمر :

هذا حديث مجتمع على صحته ، لا يختلف أهل العلم فيه ، ولا في القول به ، والمذي عند جميعهم يوجب الوضوء ، ما لم يكن خارجا عن علة أبردة وزمانة ، فإن كان كذلك ، فهو أيضا كالبول عند جميعهم ، فإن كان سلسا لا ينقطع ، فحكمه كحكم سلس البول عند جميعهم أيضا ، إلا أن طائفة توجب [ ص: 207 ] الوضوء على من كانت هذه حاله لكل صلاة ، قياسا على الاستحاضة عندهم ، وطائفة تستحبه ولا توجبه ، وقد ذكرنا هذا المعنى ، وأوضحنا القول فيه في باب المستحاضة عند ذكر حديث نافع ، عن سليمان بن يسار من هذا الكتاب .

وأما المذي المعهود المعتاد المتعارف وهو الخارج عند ملاعبة الرجل أهله لما يجده من اللذة أو لطول عزوبة ، فعلى هذا المعنى خرج السؤال في حديث علي هذا ، وعليه وقع الجواب ، وهو موضع إجماع ، لا خلاف بين المسلمين في إيجاب الوضوء منه ، وإيجاب غسله لنجاسته .

أخبرنا سعيد بن نصر ، وعبد الوارث بن سفيان ، قالا : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا ابن وضاح ، قال : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، قال : حدثنا هشيم بن بشير ، عن يزيد بن أبي زياد ، قال : حدثنا عبد الرحمن بن أبي ليلى ، عن علي - رضي الله عنه - قال سئل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن المذي ، فقال : فيه الوضوء ، وفي المني الغسل .

وقد روى سهل بن حنيف عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في المذي مثل حديث علي ، قرأت على عبد الوارث بن سفيان أن قاسم بن أصبغ حدثهم ، قال : حدثنا محمد بن إسماعيل ، قال : حدثنا نعيم بن حماد ، قال : أخبرنا عبد الله بن المبارك وإسماعيل بن علية ، قالا : أخبرنا محمد بن إسحاق ، عن سعيد بن عبيد بن السباق ، عن أبيه ، عن سهل بن حنيف ، قال : كنت ألقى من المذي شدة ، وكنت اغتسل ، فسألت رسول الله عن ذلك ، فقال : يجزئك من ذلك الوضوء ، قلت : يا رسول الله ، فكيف بما أصاب ثوبي ، قال : تأخذ كفا من ماء فانضح به ثوبك حيث ترى أنه أصابك .

[ ص: 208 ] وحدثنا عبد الوارث بن سفيان ، قال : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا بكر بن حماد ، قال : حدثنا مسدد ، قال : حدثنا حماد بن زيد ، عن محمد بن إسحاق ، عن سعيد بن عبيد ، عن أبيه أن سهل بن حنيف سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن المذي ، فقال : يكفيك منه الوضوء ، قلت : أرأيت ما أصاب ثوبي منه ، فذكر الحديث مثل ما تقدم سواء .

وأما قوله : فلينضح فرجه وليتوضأ ، فإن النضح عني به هاهنا الغسل ، وقد فسرنا ذلك من جهة اللغة ، والمعنى في باب ابن شهاب ، عن عبيد الله من هذا الكتاب ، ومما يدلك على أن قوله في حديث مالك ومن تابعه في هذا الباب : فلينضح ذكره وليتوضأ ، أنه أريد بالنضح الغسل ; لأنه قد روي منصوصا : ليغسل ذلك منه ويغسل ذكره ، وهذا معروف قد أوضحناه فيما مضى ، وفي أمره بغسل الفرج من المذي ، وغسل ما مس منه ، دليل على أن ذلك لا يجوز فيه الاستنجاء بالأحجار ، كما يجوز في البول والغائط ; لأن الآثار كلها على اختلاف ألفاظها وأسانيدها ليس في شيء منها ذكر استنجاء بالأحجار ، فاستدل بهذا من قال إن الاستنجاء بالأحجار لا يكون إلا في المعتاد عند الغائط ، وهو الرجيع والبول ، وهو استدلال صحيح ، والله الموفق للصواب ، فعلى هذا من خرج من أحد مخرجيه دم أو ودي لم يجزه إلا الماء ، والله أعلم .

وأما إيجاب الوضوء من المذي ، فبالسنة المجتمع عليها على ما ذكرنا من حديث هذا الباب ، وأما معنى غسل الذكر من المذي ، فإنه يريد غسل مخرجه ، وما مس الأذى منه ، وهذا الأصح عندي في النظر ، والله أعلم .

وقد قالت طائفة من أصحابنا وغيرهم : بوجوب غسل الذكر كله من المذي على ظاهر الخبر في ذلك اتباعا ، وجعلوا ذلك من باب التعبد ، وذهب غيرهم إلى أن قوله في المذي : يغسل ذكره ويتوضأ وضوءه للصلاة يحتمل أن يكون [ ص: 209 ] أراد يغسل ما مس الأذى منه ، وقالوا ألا ترى أن أحدا لا يقتصر على غسل الذكر وحده إذا كان المذي قد مس موضعا من الجسد غيره ، فلا بد من غسل كل ما مس المذي منه ، وفي هذا ما يستدل به على أن المراد غسل ما مس المذي من الذكر ، والله أعلم .

ذكر عبد الرزاق ، عن الثوري ، عن منصور ، عن مجاهد ، عن ابن عباس في المذي والودي والمني ، قال : في المني الغسل ، ومن المذي والودي الوضوء ، يغسل حشفته ويتوضأ .

وعن الثوري ، عن زياد بن الفياض ، قال سمعت سعيد بن جبير يقول في المذي : يغسل حشفته .

وعن هشيم ، عن أبي حمزة ، عن ابن عباس في المذي قال : اغسل ذكرك وما أصابك ، ثم توضأ وضوءك للصلاة ، فهذا ابن عباس يقول في هذا الخبر : اغسل ذكرك ، وقد تقدم عنه فيه غسل الحشفة ، فدل على أن مراده ما وصفنا بلفظه ، وبالله التوفيق .




الخدمات العلمية