الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
1044 [ ص: 180 ] حديث موفي عشرين ليحيى بن سعيد

مالك ، عن يحيى بن سعيد ، عن بشير بن يسار : أن أبا بردة بن نيار ذبح أضحيته قبل أن يذبح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم الأضحى ، فزعم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمره أن يعود لضحية أخرى ، فقال أبو بردة : لا أجد إلا جذعا قال : فاذبح .

التالي السابق


أبو بردة بن نيار اسمه هانئ بن نيار ، وقد ذكرناه في كتاب الصحابة بما يغني عن ذكره هاهنا ، ويقال : إن بشير بن يسار لم يسمع من أبي بردة ، وقد رواه معن بن عيسى ، عن مالك ، عن يحيى بن سعيد ، عن بشير بن يسار ، عن أبي بردة بن نيار : أنه ذبح قبل أن يذبح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فذكر الحديث . هكذا ذكره إسماعيل بن إسحاق ، عن علي بن المديني ، عن معن .

وحدثنا عبد الوارث بن سفيان قال : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا بكر بن حماد قال : حدثنا مسدد قال : حدثنا يحيى بن سعيد ، عن بشير بن يسار ، عن أبي بردة بن نيار أنه ذبح ، فذكر الحديث مثله .

وقصة أبي بردة هذه محفوظة من حديث البراء بن عازب .

حدثنا عبد الوارث بن سفيان قال : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا بكر بن حماد قال : حدثنا مسدد قال : حدثنا أبو الأحوص قال : حدثنا [ ص: 181 ] المنصور بن المعتمر ، عن الشعبي ، عن البراء بن عازب قال : خطبنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم النحر بعد الصلاة ، فقال : من صلى صلاتنا ، ونسك نسكنا ، فقد أصاب النسك ، ومن نسك قبل الصلاة ، فتلك شاة لحم . فقام أبو بردة بن نيار ، فقال : والله يا رسول الله لقد نسكت قبل أن أخرج إلى الصلاة ، وعرفت أن اليوم يوم أكل وشرب ، فعجلت ، وأكلت ، ثم أطعمت أهلي وجيراني . فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : تلك شاة لحم . قال : فإن عندي عناقا جذعة هي خير من شاتي لحم ، فهل تجزئ عني ؟ قال : نعم ، ولن تجزئ عن أحد بعدك .

ورواه داود بن أبي هند ، ومطرف بن طريف ، وعامر الأحول ، وسيار ، عن الشعبي ، عن البراء مثله بمعناه ، ومن رواه عن الشعبي ، عن جابر ، فقد أخطأ .

وفي حديث مالك من الفقه : أن الذبح لا يجوز قبل ذبح الإمام ; لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر الذي ذبح قبل أن يذبح بالإعادة ، وقد أمرنا الله بالتأسي به ، وحذرنا من مخالفة أمره ، ولم يخبرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن ذلك خصوص له ، فالواجب في ذلك استعمال عمومه ، وقد أجمع العلماء على أن الأضحى مؤقت بوقت لا يتقدم ، إلا أنهم اختلفوا في تعيين ذلك الوقت على ما نورده عنهم في هذا الباب - [ ص: 182 ] إن شاء الله ، وأجمعوا على أن الذبح لأهل الحضر لا يجوز قبل الصلاة لقوله : ومن ذبح قبل الصلاة ، فتلك شاة لحم .

وأما الذبح بعد الصلاة ، وقبل ذبح الإمام ، فموضع اختلف فيه العلماء لاختلاف الآثار في ذلك ، فذهب مالك ، والشافعي ، وأصحابهما ، والأوزاعي إلى أنه لا يجوز لأحد أن يذبح أضحيته قبل ذبح الإمام .

وحجتهم حديث مالك هذا ، عن يحيى بن سعيد ، عن بشير بن يسار : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر أبا بردة بن نيار لما ذبح أضحيته قبل ذبح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يعيد بضحية أخرى .

وروى ابن جريج ، عن أبي الزبير ، عن جابر : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى يوم النحر بالمدينة ، فتقدم رجال فنحروا ، وظنوا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد نحر ، فأمر من كان نحر أن يعيد بذبح آخر ، ولا ينحر حتى ينحر النبي - صلى الله عليه وسلم - ذكره سنيد ، عن حجاج ، عن ابن جريج . ففي هذين الحديثين أن النحر لا يجوز قبل نحر الإمام .

وقال معمر ، عن الحسن في قول الله - عز وجل - ( ياأيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله ) نزلت في قوم ذبحوا قبل أن ينحر النبي - صلى الله عليه وسلم - أو قبل أن يصلي النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فأمرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يعيدوا .

[ ص: 183 ] وقال أبو حنيفة ، وأصحابه ، والثوري ، والليث بن سعد : لا يجوز ذبح الأضحية قبل الصلاة ، ويجوز بعد الصلاة قبل أن يذبح الإمام ، وحجتهم حديث الشعبي ، عن البراء : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : من نسك قبل الصلاة ، فإنما هي شاة لحم . وقد ذكرنا هذا الحديث ، فيما تقدم من هذا الباب .

وحدثنا عبد الوارث بن سفيان قال : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا أحمد بن زياد أبو جعفر البزاز ببغداد قال : حدثنا زكرياء بن عدي قال : حدثنا حفص ، عن داود ، وعاصم ، عن الشعبي ، عن البراء قال : قال : رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في خطبته يوم النحر : من ذبح قبل الصلاة ، فليعد .

وحدثنا قاسم بن محمد قال : حدثنا خالد بن سعد قال : حدثنا أحمد بن عمرو ، وحدثنا محمد بن عبد الملك ، وعبيد بن محمد قالا : حدثنا عبد الله بن مسرور قال : حدثنا عيسى بن مسكين قالا : حدثنا ابن سنجر قال : حدثنا هشام بن عبد الملك قال : حدثنا شعبة ، عن زبيد ، عن الشعبي ، عن البراء بن عازب ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : أول ما نبدأ به في يومنا هذا أن نصلي ، ثم ننحر ، فمن فعل ذلك فقد أصاب سنتنا ، ومن تعجل ، فإنما هو لحم قدمه لأهله . وكان أبو بردة بن نيار ذبح قبل الصلاة ، فقال : يا رسول الله : إن عندي جذعة خيرا من مسنة ، فقال : اجعلها مكانه ، ولن تجزئ أو توفي عن أحد بعدك .

[ ص: 184 ] وذكر الطحاوي حديث ابن جريج ، عن أبي الزبير عن جابر المذكور في هذا الباب ، وقال : لا حجة فيه ; لأنه قد خالفه حماد بن سلمة ، فرواه عن أبي الزبير ، عن جابر : أن رجلا ذبح قبل أن يصلي النبي - صلى الله عليه وسلم - عتودا جذعا ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : لا تجزئ عن أحد بعدك ، ونهى أن يذبحوا قبل أن يصلي .

فجعل ذبح أبي بردة كان قبل الصلاة لا قبل ذبح الإمام بعد الصلاة كما قال ابن جريج .

ومن حجتهم - أيضا - ما حدثناه سعيد بن نصر ، وعبد الوارث بن سفيان قالا : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا إسماعيل بن إسحاق قال : حدثنا سليمان بن حرب قال : حدثنا حماد بن زيد ، عن أيوب ، عن محمد بن سيرين ، عن أنس بن مالك ، وقفه مرة ، ورفعه أخرى ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى ، ثم خطب ، فقال : من ذبح قبل الصلاة أعاد ذبحا ، فقام رجل من الأنصار ، فقال : يا رسول الله إن جيراني إما قال : بهم حاجة أو قال : فاقة ، فذبحت قبل الصلاة ، وعندي عناق لهي أحب إلي من شاتي لحم قال : فرخص له ، فإن كانت رخصته عدت ذلك الرجل ، فلا علم لي ، ثم انكفأ إلى كبشين أملحين ، فذبحهما ، وتفرق الناس إلى غنيمة ، فتجزعوها .

وحدثنا عبد الوارث قال : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا إسحاق بن الحسن الحربي حدثنا موسى بن داود حدثنا سفيان الثوري ، عن الأسود بن قيس ، عن جندب قال : خرجنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - [ ص: 185 ] يوم أضحى ، فرأى قوما قد ذبحوا ، وقوما لم يذبحوا ، فقال : من كان ذبح قبل صلاتنا فليعد ، ومن لم يذبح ، فليذبح باسم الله .

وذكره الشافعي قال أخبرنا سفيان بن عيينة قال : حدثنا الأسود بن قيس قال : سمعت جندب بن عبد الله البجلي قال : شهدت العيد مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وأن ناسا ذبحوا قبل الصلاة ، فقال : من كان منكم ذبح قبل الصلاة فليعد ذبيحته ، ومن لم يكن ذبح ، فليذبح على اسم الله .

قالوا : فهذه الآثار كلها تدل على اعتبار الصلاة ، ومراعاتها دون ما سواها .

وأما قوله في حديث مالك : لا أجد إلا جذعا ، فإن الجذع الذي أراد أبو بردة كان عناقا أو عتودا ، وقد بان ذلك في الأحاديث التي ذكرنا من غير رواية مالك ، وهو أمر مجتمع عليه عند أهل العلم أن الجذع المذكور في حديث أبي بردة هذا كان عناقا أو عتودا على ما جاء في حديث البراء ، وحديث جابر ، وأنس بن مالك ، والعناق ، والعتود ، والجفرة لا تكون إلا من ولد المعز خاصة ، ولا تكون من ولد الضأن ، وهذا ما لا خلاف فيه بين أهل اللغة ، وفيها قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأبي بردة : لا تجزئ عن أحد بعدك ، وهو أمر مجتمع عليه عند العلماء أن الجذع من المعز لا تجزئ اليوم عن أحد ; لأن أبا بريدة خص بذلك .

قال أهل اللغة : الجفر ، والجفرة ، والعريض ، والعتود هذه كلها لا يكون إلا في أولاد المعز خاصة ، وهي كلها أسماء تقع على الجدي ، [ ص: 186 ] والجدي الذكر ، والأنثى عناق من أولاد المعز خاصة ، والجفرة منها ما كان يرضع وينال من الكلأ ، فيجتمع فيه الرعي واللبن ، واختلف في سن الجذع من الضأن ، فقيل : ابن سبعة أشهر أو ثمانية ، وقيل : ابن عشرة ، وقيل : ما بين الستة أشهر إلى العشر أشهر ، وقيل : ما بين ثمانية أشهر إلى سنة ، وأول سن تقع من البهائم فهو جذع ، والسن الثانية إذا وقعت فهو ثني ، والسن الثالثة إذا وقعت فهو رباع ، فإذا استوت أسنانه فهو قارح من ذوات الحافر ، ومن الإبل بازل ، ومن الغنم ضالع .

قالوا : وأما أولاد الضأن ، فهي الخروف ، والبذح ، والحمل ، ويقال : رخل ، فإذا أتى عليه الحول ، فالذكر كبش ، والأنثى نعجة وضانية ، وإذا أتى على ولد المعز الحول ، فالذكر تيس ، والأنثى عنز ، والسخلة ، والبهمة يقال في أولادهما جميعا .

أخبرنا إبراهيم بن شاكر قال : حدثنا محمد بن إسحاق القاضي قال : حدثنا أحمد بن مسعود الزبيري قال : حدثنا محمد بن عبد الله بن الحكم ، وأخبرنا أحمد بن محمد قال : حدثنا الميمون بن حمزة الحسيني قال : حدثنا أبو جعفر أحمد بن محمد بن سلامة الطحاوي قال : حدثنا إسماعيل بن يحيى المزني قالا : حدثنا محمد بن إدريس الشافعي قال أخبرنا عبد الوهاب بن عبد المجيد ، عن داود بن أبي [ ص: 187 ] هند ، عن عامر الشعبي ، عن البراء بن عازب : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قام يوم النحر خطيبا ، فحمد الله ، وأثنى عليه ، ثم قال : لا يذبحن أحد حتى نصلي قال : فقام خالي ، فقال : يا رسول الله هذا يوم اللحم فيه معدوم ، وإني ذبحت نسيكتي فأطعمت أهلي وجيراني ، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - متى فعلت ؟ قال : قبل الصلاة قال : فأعد ذبحا آخر . فقال : عندي عناق لبن هي خير من شاتي لحم ، فقال : هي خير نسيكتيك ، ولن تجزئ جذعة عن أحد بعدك .

قال عبد الوهاب : أظن أنها ماعز قال الشافعي : هي ماعزة كما قال عبد الوهاب ، إنما يقال للضانية رخل .

قال الشافعي : وقول النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث : هي خير نسيكتيك ; لأنك ذبحتهما تنوي نسيكتين ، فلما ذبحت الأولى قبل وقت الذبح كانت الأخرى هي النسيكة ، والأول غير نسيكة ، وإن نويت بها النسيكة . وقوله : لن تجزئ عن أحد بعدك أنها له خاصة .

وقوله : عناق لبن يعني عناقا تقتنى للبن .

وأخبرنا إبراهيم بن شاكر قال : حدثنا محمد بن أحمد بن يحيى قال : قال : أخبرنا أحمد بن بهزاد بن مهران السيرافي قال : حدثنا الربيع بن سليمان في كتاب البويطي ، عن الشافعي - قال : قال الشافعي : ولا يذبح أحد حتى يذبح الإمام إلا أن يكون ممن لا يذبح ، فإذا صلى وفرغ من الخطبة حل الذبح قال : وينبغي للإمام أن يحضر ضحيته المصلى ، فيذبح حين يخلو من الخطبة ، فإن لم يفعل ، فليتوخ الناس قدر [ ص: 188 ] انصرافه ، وذبحه ، ومن ذبح قبل الإمام فلا ضحية له ، وأحب له أن يضحي بغيرها ، فإن لم يفعل ، فلا شيء عليه ، ولا ضحية له .

قال أبو عمر :

ومثل قول الشافعي في هذا كله قول مالك ، وقال أحمد بن حنبل : إذا انصرف الإمام فاذبح ، وهو قول إبراهيم .

وقال إسحاق : إذا فرغ الإمام من الخطبة فاذبح ، واعتبر الطبري قدر مضي وقت صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - وخطبته بعد ارتفاع الشمس ، وحكى المزني نحوه عن الشافعي .

قال أبو عمر : لا أعلم خلافا بين العلماء أن من ذبح قبل الصلاة ، وكان من أهل المصر أنه غير مضح ، وكذلك لا أعلم خلافا أن الجذع من المعز ومن كل شيء يضحى به غير الضأن لا يجوز ، وإنما يجوز من ذلك كله الثني فصاعدا ، ويجوز الجذع من الضأن بالسنة المسنونة ، والذي يضحى به بإجماع من المسلمين الأزواج الثمانية ، وهي الضأن ، والمعز ، والإبل ، والبقر ، وقد اختلف الفقهاء في الأفضل من ذلك ، وقد ذكرنا ذلك في باب سمي من هذا الكتاب .

وأما حديث عاصم بن كليب ، عن أبيه ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : إن الجذع يوفي مما يوفي منه الثني ، فهذا إنما هو في الضأن ; بدليل حديث البراء وغيره في قصة أبي بردة بن نيار أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال له في العناق ، وهي من المعز : إنها لن تجزئ عن أحد بعدك .

وأما الأضحية بالجذع من الضأن ، فمجتمع عليها عند جماعة الفقهاء .

[ ص: 189 ] وأخبرنا عبد الوارث بن سفيان قال : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا ابن وضاح قال : حدثنا سحنون قال : حدثنا ابن وهب قال : أخبرني عمرو بن الحارث أن بكير بن الأشج حدثه أن معاذ بن خبيب حدثه عن عقبة بن عامر الجهني قال : ضحينا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بجذع من الضأن .

وأما قوله : في حديث مالك : فأمره أن يعيد بضحية أخرى ، فبهذا احتج من ذهب إلى أن الضحية واجبة فرضا ; لأن ما لم يكن واجبا فرضا لم يؤمر فيه بالإعادة ، وهذا موضع اختلف العلماء فيه ، فقال أبو حنيفة : الضحية واجبة ، وقال أبو يوسف : ليست بواجبة ، وقال محمد بن الحسن : الأضحى واجب على كل مقيم في الأمصار إذا كان موسرا ، هكذا ذكره الطحاوي عنهم في كتاب الخلاف ، وذكر عنهم في مختصره قال أبو حنيفة : الأضحية واجبة على المقيمين الواجدين من أهل الأمصار وغيرهم ، ولا تجب على المسافرين قال : ويجب على الرجل من الأضحية على ولده الصغير مثل الذي يجب عليه عن نفسه ، قال : وخالفه أبو يوسف ، ومحمد ، فقالا : ليست الأضحية بواجبة ، ولكنها سنة ، غير مرخص لمن وجد السبيل إليها في تركها قال : وبه نأخذ .

وقال إبراهيم النخعي : الأضحى واجب على أهل الأمصار ما خلا الحاج ، وحجة من ذهب إلى إيجابه أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبا بردة بن نيار بأن يعيد الضحية إذ أفسدها قبل وقتها ، وقال له في الجذعة : [ ص: 190 ] العناق لا يجزئ عن أحد بعدك ، ومثل هذا إنما يقال في الفرائض الواجبة لا في التطوع .

وقال الطحاوي : فإن قيل : لأنه كان أوجبها فأتلفها ، فأوجب عليه إعادتها ، قيل له : لو أراد هذا ، لتعرف قيمة المتلفة ليأمره بمثلها ، فلما لم يعتبر ذلك دل على أنه لم يقصد إلى ما ذكرت .

واحتجوا - أيضا - بما حدثناه سعيد بن نصر ، وعبد الوارث بن سفيان ، قالا : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا ابن وضاح قال : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال : حدثنا زيد بن الحباب قال : حدثنا عبد الله بن عياش قال : حدثني عبد الرحمن الأعرج ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : من كان له سعة فلم يضح ، فلا يشهد مصلانا .

وحدثنا عبد الوارث قال : حدثنا قاسم قال : حدثنا أبو يحيى بن أبي ميسرة قال : حدثنا عبد الله بن يزيد المقرئ قال : حدثنا عبد الله بن عياش بن عباس القتباني قال : حدثنا عبد الرحمن بن هرمز الأعرج ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فذكر مثله .

قالوا : وهذه غاية في تأكيدها ووجوبها .

قال أبو عمر : هذا حديث رواه ابن وهب ، عن عبد الله بن عياش القتباني هذا ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة موقوفا لم يرفعه كذا هو في موطئه ; [ ص: 191 ] وكذلك رواه عبيد الله بن أبي جعفر ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة موقوفا ، وعبيد الله بن أبي جعفر ، فوق عبد الله بن عياش .

حدثنا عبد الوارث بن سفيان قال : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا محمد بن إسماعيل الترمذي قال : حدثنا ابن أبي مريم قال : أخبرنا يحيى بن أيوب ، عن عبيد الله بن أبي جعفر ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة قال : وأخبرنا الليث بن سعد ، وبكر بن مضر قالا : أخبرنا عبيد الله بن أبي جعفر ، عن ابن هرمز قال : سمعت أبا هريرة - وهو في المصلى - يقول : من قدر على سعة فلم يضح فلا يقربن مصلانا .

قال أبو عمر : الأغلب عندي في هذا الحديث أنه موقوف على أبي هريرة ، - والله أعلم - .

وقال مالك : على الناس كلهم أضحية المسافر والمقيم ، ومن تركها من غير عذر فبئسما صنع .

وقال الثوري ، والشافعي : ليست بواجبة ، وقال الثوري : لا بأس بتركها ، وقال الشافعي : هي سنة وتطوع ، ولا يجب لأحد قدر عليها تركها ، وتحصيل مذهب مالك أن الضحية سنة مؤكدة لا ينبغي تركها ، وهي على كل مقيم ومسافر إلا الحاج بمنى ، ويضحى عنده عن اليتيم والمولود ، وعن كل حر واجد .

[ ص: 192 ] وقال الشافعي : هي سنة على جميع الناس ، وعلى الحاج بمنى - أيضا - ، وليست بواجبة .

وقول أبي ثور في هذا كقول الشافعي ، وكان ربيعة والليث يقولان : لا نرى أن يترك المسلم الموسر المالك لأمره الضحية .

وروي عن سعيد بن المسيب ، وعطاء ، وعلقمة ، والأسود : أنهم كانوا لا يوجبونها ، وهو قول أحمد بن حنبل ، وروي عن الشعبي : أن الصدقة أفضل من الأضحية ، وقد روي عن مالك مثله ، وروي عنه - أيضا - أن الضحية أفضل ، والصحيح عنه ، وعن أصحابه في مذهبه : أن الضحية أفضل من الصدقة إلا بمنى ، فإن الصدقة بثمن الأضحية بمنى أفضل ; لأنه ليس بموضع أضحية ، وقد روي عنه أن الصدقة بثمن الأضحية بمنى أفضل .

وقال ربيعة ، وأبو الزناد ، وأبو حنيفة ، وأصحابه ، وأحمد بن حنبل : الضحية أفضل من الصدقة ، وقال أبو ثور : الصدقة أفضل من الأضحية .

قال أبو عمر : الضحية عندنا أفضل من الصدقة ; لأن الضحية سنة وكيدة كصلاة العيد ، ومعلوم أن صلاة العيد أفضل من سائر النوافل ، وكذلك صلوات السنن أفضل من التطوع كله .

وقد روي في فضل الضحايا آثار حسان ، فمنها ما رواه سعيد بن داود بن أبي زنبر ، عن مالك ، عن ثور بن زيد ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ما من نفقة بعد صلة الرحم أعظم [ ص: 193 ] عند الله من إهراق الدم .

حدثناه خلف بن القاسم ، حدثنا أحمد بن محمد بن عثمان بن أبي التمام ، قال : حدثنا كثير بن معمر الجوهري ، حدثنا محمد بن علي بن داود البغدادي ، حدثنا سعيد بن داود بن أبي زنبر ، حدثنا مالك بن أنس ، فذكره بإسناده إلى آخره ، وهو غريب من حديث مالك .

وأخبرنا عبد الوارث بن سفيان ، قال : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا محمد بن الجهم السمري ، قال : حدثنا نصر بن حماد ، قال : حدثنا محمد بن راشد ، عن سليمان بن موسى ، عن عطاء بن أبي رباح ، عن عائشة قالت : يا أيها الناس ضحوا ، وطيبوا بها أنفسا ، فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : ما من عبد توجه بأضحيته إلى القبلة إلا كان دمها ، وفرثها ، وصوفها حسنات محضرات في ميزانه يوم القيامة ، فإن الدم ، وإن وقع في التراب ، فإنما يقع في حرز الله حتى يوفيه صاحبه يوم القيامة .

وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : اعملوا يسيرا تجزوا كثيرا .

قال أبو عمر : احتج الشافعي في سقوط وجوب الضحية بحديث أم سلمة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : إذا دخل العشر عشر ذي الحجة ، فأراد أحدكم أن يضحي ، فلا يأخذن من شعره ولا من أظفاره .

قال في قوله : فأراد أن يضحي دليل على أنها غير واجبة ، وهذا الحديث رواه شعبة ، عن [ ص: 194 ] مالك بن أنس ، عن عمر بن مسلم ، عن سعيد بن المسيب ، عن أم سلمة ، وكان مالك لا يحدث به أصحابه ; لأنه كان لا يأخذ بما فيه من معنى المنع من حلق الشعر وقطع الظفر لمن أراد الضحية ، وإنما لم يأخذ به لحديث عائشة : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يبعث بهديه ، ثم لا يحرم عليه شيء مما يحرم على المحرم حتى ينحر الهدي .

وقد ذكرنا هذا المعنى مجودا في باب عبد الله بن أبي بكر .

وذكر عمران بن أنس قال : سألت مالكا عن حديث أم سلمة هذا ، فقال : ليس من حديثي قال : فقلت لجلسائه : قد رواه عنه شعبة ، وحدث به عنه ، وهو يقول : ليس من حديثي ، فقالوا : إنه إذا لم يأخذ بالحديث قال فيه ليس من حديثي .

وقد رواه عن مالك جماعة ، وروي من غير حديث مالك من وجوه قد ذكرناها في باب عبد الله بن أبي بكر ، والحمد لله .

وروى الشعبي عن أبي سريحة الغفاري قال : رأيت أبا بكر ، وعمر ، وما يضحيان .

وقال ابن عمر في الضحية : ليست بحتم ، ولكنها سنة ومعروف .

وقال أبو مسعود الأنصاري : إني لأدع الأضحى ، وأنا موسر مخافة أن يرى جيراني أنها حتم علي .

وقال عكرمة : كان ابن عباس يبعثني يوم الأضحى بدرهمين أشتري له لحما ، ويقول : من لقيت ، فقل هذه أضحية ابن عباس ، وهذا - أيضا - محمله عند أهل العلم لئلا يعتقد فيها [ ص: 195 ] للمواظبة عليها أنها واجبة فرضا ، وكانوا أئمة يقتدي بهم من بعدهم ممن ينظر في دينه إليهم ; لأنهم الواسطة بين النبي - صلى الله عليه وسلم - وبين أمته ، فساغ لهم من الاجتهاد في ذلك ما لا يسوغ اليوم لغيرهم ، والأصل في هذا الباب أن الضحية سنة مؤكدة ; لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فعلها ، وواظب عليها أو ندب أمته إليها ، وحسبك أن من فقهاء المسلمين من يراها فرضا لأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المضحي قبل وقتها بإعادتها ، وقد بينا ما في ذلك ، والحمد لله .

وأما وقت الأضحى ، فإن العلماء مجمعون على أن يوم النحر يوم أضحى ، وأجمعوا على أن قوله - عز وجل - ( ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام ) إنما قصد به أيام الذبح والنحر .

واختلفوا في تعيينها ، فقالت طائفة : هي أيام العشر ، وروي هذا عن ابن عباس ، وإليه ذهب الشافعي ، والطبري ، وفرقة ، واحتج بعض من ذهب إلى هذا بأنه جائز أن يكون مراد الله من قوله في أيام معلومات بعض تلك الأيام ، وهو يوم النحر كما قال - عز وجل - ( الحج أشهر معلومات ) يريد بعض الأشهر ، وأقلها كما قال - عز وجل - ( وجعل القمر فيهن نورا )

، وليس القمر في السبع السماوات ، وإنما هو في بعضهن .

[ ص: 196 ] وقال الآخرون : الأيام المعلومات هي أيام الذبح وذلك يوم النحر ، ويومان بعده ، وروي ذلك عن علي ، وابن عمر ، وابن عباس - أيضا - وعلى هذا القول أكثر الناس .

وأما تمهيد أقوال العلماء في مدة أيام النحر ، فإنهم أجمعوا على أنه لا يكون أضحى قبل طلوع الفجر من يوم النحر لا لحضري ولا لبدوي ، واختلفوا فيما بعد ذلك ، فروي عن ابن سيرين أن الأضحى يوم واحد : يوم النحر وحده .

وعن سعيد بن جبير وجابر بن زيد أن الأضحى في الأمصار يوم واحد ، وبمنى ثلاثة أيام .

وعن قتادة : النحر يوم النحر ، وستة أيام بعده .

وعن الحسن : الأضحى إلى هلال المحرم .

قال أبو عمر : هذه أقاويل كلها شاذة ، وقال مالك ، وأبو حنيفة ، وأصحابهما ، والثوري ، وأحمد بن حنبل ، وأكثر أهل العلم : الأضحى يوم النحر ، ويومان بعده .

وروي عن علي ، وابن عمر ، وابن عباس ، وأنس مثله .

وقال الشافعي ، والأوزاعي : الأضحى يوم النحر ، وثلاثة أيام بعده .

وروي ذلك ، عن علي بن أبي طالب - أيضا - ، وهو قول عطاء ، وروي - أيضا - مثله عن ابن عباس ، والحسن ، عن اختلاف عنهما ، وهو قول عمر بن عبد العزيز .

[ ص: 197 ] حدثنا أحمد بن قاسم ، حدثنا محمد بن معاوية ، حدثنا أحمد بن الحسن الصوفي ، حدثنا الهيثم بن خارجة ، حدثنا إسماعيل بن عياش ، عن عمرو بن مهاجر أن عمر بن عبد العزيز قال : الأضحى يوم النحر ، وثلاثة أيام بعده .

وروى إسماعيل بن عياش - أيضا - عن سليمان بن موسى ، عن نافع بن جبير بن مطعم ، عن أبيه ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : كل فجاج مكة منحر ، وكل أيام التشريق ذبح ، واحتج بهذا أصحاب الشافعي .

وأما أهل الحديث ، فإنهم يقولون : إنه مما انفرد بوصله إسماعيل بن عياش ، ولم يتابع على ذلك ، وإنما هو مرسل .

وقال أحمد بن حنبل : الصحيح فيه مرسل ، قال أحمد : وقد روي : الأضحى يوم النحر ، ويومان بعده عن غير واحد من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - .

حدثنا إبراهيم بن شاكر ، قال : حدثنا عبد الله بن محمد بن عثمان ، قال : حدثنا سعيد بن عثمان ، قال : حدثنا أحمد بن عبد الله بن صالح ، قال : حدثنا عبيد الله بن موسى ، قال : حدثنا ابن أبي ليلى ، عن أبي المنهال ، عن زر ، عن علي رضي الله عنه قال : الأيام المعدودات يوم النحر ، ويومان بعده ، اذبح في أيها شئت ، وأفضلها أولها .

وقال الطحاوي : مثله لا يكون رأيا ، فدل أنه توقيف - والله أعلم .




الخدمات العلمية