الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
624 [ ص: 257 ] حديث ثالث لزيد بن أسلم متصل صحيح مسند

مالك ، عن زيد بن أسلم ، عن أبيه أنه قال : سمعت عمر بن الخطاب ، وهو يقول : حملت على فرس عتيق في سبيل الله ، وكان الرجل الذي هو عنده قد أضاعه فأردت أن أشتريه منه ، وظننت أنه بائعه برخص فسألت عن ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : لا تشتره ، وإن أعطاكه بدرهم واحد ، فإن العائد في صدقته كالكلب يعود في قيئه .

التالي السابق


روى هذا الحديث ابن عيينة ، عن زيد بن أسلم ، عن أبيه ، عن عمر مثله ، وقال فيه : لا تشتره ، ولا شيئا من نتاجه ذكره الشافعي ، والحميدي ، عن ابن عيينة .

قال أبو عمر :

الفرس العتيق : هو الفاره عندنا ، وقال صاحب العين : عتقت الفرس تعتق قوما إذا سبقت ، وفرس عتيق رائع .

وفي هذا الحديث من الفقه : إجازة تحبيس الخيل في سبيل الله .

[ ص: 258 ] وفيه إن حمل على فرس في سبيل الله ، وغزا به ، ( فله أن يفعل به بعد ذلك ما يفعل في سائر ماله ) ، ألا ترى أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم ينكر على بائعه بيعه ، وأنكر على عمر شراءه ، ولذلك قال ابن عمر : إذا بلغت به وادي القرى فشأنك به .

وقال سعيد بن المسيب : إذا بلغ به رأس مغزاته فهو له .

ويحتمل أن يكون هذا الفرس ضاع حتى عجز عن اللحاق بالخيل ، وضعف عن ذلك ، ونزل عن مراتب الخيل التي يقاتل عليها ، فأجيز له بيعه لذلك .

ومن أهل العلم من يقول : يضع ثمنه ذلك في فرس عتيق إن وجده ، وإلا أعان به في مثل ذلك .

ومنهم من يقول : إنه له كسائر ماله إذا غزا عليه .

وأما اختلاف الفقهاء في هذا المعنى فقال مالك : إذا أعطي فرسا في سبيل الله فقيل له : هو لك في سبيل الله ، فله أن يبيعه ، وإن قيل : هو في سبيل الله ركبه ، ورده .

وقال الشافعي ، وأبو حنيفة : الفرس المحمول عليها في سبيل الله هي لمن يحمل عليها تمليك ، قالوا : ولو قال له : إذا بلغت به رأس مغزاك فهو لك ، كان تمليكا على مخاطرة ، ولم يجز .

وقال الليث بن سعد : من أعطي فرسا في سبيل الله لم يبعه حتى يبلغ مغزاه ، ثم يصنع به ما شاء ، إلا أن يكون حبسا فلا يباع .

وقال : عبيد الله بن الحسن : إذا قال : هو لك في سبيل الله ، فرجع به ، رده حتى يجعله في سبيل الله .

[ ص: 259 ] وسيأتي هذا في باب نافع ، والحمد لله .

وفيه أن كل من يجوز تصرفه في ماله ، وبيعه ، وشرائه ، فجائز له بيع ما شاء من ماله بما شاء من قليل الثمن ، وكثيره ، كان مما يتغابن الناس به ، أو لم يكن ، إذا كان ذلك ماله ، ولم يكن وكيلا ، ولا وصيا لقوله - صلى الله عليه وسلم - في مثل هذا الحديث : ولو أعطاكه بدرهم .

واختلف الفقهاء في كراهية شراء الرجل لصدقته : الفرض والتطوع إذا أخرجها عن يده لوجهها ، ثم أراد شراءها من الذي صارت إليه .

فقال مالك : إذا حمل على فرس ، فباعه الذي حمل عليه ، فوجده الحامل في يد المشتري ، فلا يشتره أبدا ، وكذلك الدراهم ، والثوب .

قال أبو عمر :

ذكره ابن عبد الحكم عنه ، وقال في موضع آخر من كتابه : ومن حمل على فرس فباعه ، ثم وجده الحامل في يد الذي اشتراه ، فترك شراءه أفضل .

قال أبو عمر :

كره ذلك مالك ، والليث ، والحسن بن حي ، والشافعي ، [ ص: 260 ] ولم يروا لأحد أن يشتري صدقته ( فإن اشترى أحد صدقته ) لم يفسخوا العقد ، ولم يردوا البيع ، ورأوا التنزه عنها .

وكذلك قولهم في شراء الإنسان ما يخرجه من كفارة اليمين مثل الصدقة سواء .

قال أبو عمر :

( إنما كرهوا بيعها ) لهذا الحديث ، ولم يفسخوها ; لأنها راجعة إليه بغير ذلك المعنى ، وقد بينا هذا الحديث في قصة هدية بريرة بما تصدق به عليها .

ويحتمل هذا الحديث أن يكون على وجه التنزه ، وقطع الذريعة إلى بيع الصدقة قبل إخراجها ، أو يكون موقوفا على التطوع في التنزه .

وقال أبو حنيفة ، وأصحابه ، والأوزاعي : لا بأس لمن أخرج زكاته ، وكفارة يمينه ، أن يشتريه بثمن يدفعه إليه .

وقال أبو جعفر الطحاوي : المصير إلى حديث عمر في الفرس أولى من قول من أباح شراء صدقته .

وقال قتادة : البيع في ذلك فاسد مردود ; لأني لا أعلم الفيء إلا حراما .

وكل العلماء يقولون : إذا رجعت إليه بالميراث طابت له ( إلا ابن عمر فإنه كان لا يحبسها إذا رجعت إليه بالميراث ) .

[ ص: 261 ] وتابعه الحسن بن حي فقال : إذا رجعت إليه بالميراث ، وجهها فيما كان وجهها فيه إذا كانت صدقة ، وأما الهبة فلا يكره الرجوع فيها اهـ .

قال أبو عمر :

يحتمل فعل ابن عمر في رد ما رجع إليه من صدقاته بالميراث ، أن يكون على سبيل الورع والتبرع ; لأنه كان يرى ذلك واجبا عليه ، وكثيرا ما كان يدع الحلال ورعا .

ولعله لم يصح عنده ما روي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ذلك ، ولم يعلمه ، وقد وردت السنة الثابتة ( عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ) بإباحة ما رده الميراث من الصدقات .

وقد ذكرناها في باب ربيعة في قصة لحم بريرة ، وأوضحنا المعنى في ذلك بما لا وجه لإعادته هاهنا .

وأكل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما أهدي إليه من الصدقة ، وقوله : إن الصدقة تحل لمن اشتراها بماله من الأغنياء يوضح ما ذكرنا ; لأن الصدقة لا تحل لغني إلا لخمسة ، أحدهم : رجل اشتراها بماله ، فكما جاز له أن يشتريها بماله وهي صدقة غيره ، فكذلك شراء صدقته ; لأن الشراء لها ليس برجوع فيها في المعنى على ما بينا في قصة لحم بريرة ، وإنما الرجوع فيها أن يتصرف فيما فعله من صدقته ، أو هبته دون أن يبتاع ذلك [ ص: 262 ] ولكن حديث - عمر - هذا أولى أن يوقف عنده ; لأنه خص المتصدق بها ، فنهى عن شرائها ، وذلك نهي تنزه إن شاء الله .

وأما قوله عليه السلام : لا تحل الصدقة لغني ، إلا لخمسة فسيأتي ذكره فيما يأتي من حديث زيد بن أسلم من كتابنا هذا ، وبالله توفيقنا .




الخدمات العلمية