الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
1884 [ ص: 93 ] الحديث الثاني عشر لزيد بن أسلم مسند ثابت

مالك ، عن زيد بن أسلم ، عن عطاء بن يسار ، عن رجل من بني أسد ، قال : نزلت أنا وأهلي ببقيع الغرقد ، فقال لي أهلي : اذهب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فاسأله لنا شيئا نأكله ، وجعلوا يذكرون من حاجتهم ، فذهبت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فوجدت عنده رجلا يسأله ، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : لا أجد ما أعطيك ، فتولى الرجل وهو مغضب ، ويقول : لعمري أنك لتعطي من شئت ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إنه ليغضب علي أن لا أجد ما أعطيه ، من سأل منكم وله أوقية ، أو عدلها ، فقد سأل إلحافا ، قال الأسدي : فقلت للقحة لنا خير من أوقية ، قال : والأوقية أربعون درهما ، فرجعت ولم أسأله ، فقدم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد ذلك بشعير وزبيب فقسم لنا منه حتى أغنانا الله .

التالي السابق


هكذا رواه مالك وتابعه هشام بن سعد وغيره ، وهو حديث صحيح ، وليس حكم الصاحب إذا لم يسم ، كحكم من دونه إذا لم [ ص: 94 ] يسم عند العلماء ; لارتفاع الجرح عن جميعهم ، وثبوت العدالة لهم ، قال الأثرم : قلت لأبي عبد الله أحمد بن حنبل : إذا قال رجل من التابعين : حدثني رجل من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ولم يسمه ، فالحديث صحيح ؟ قال : نعم .

وقد روى عمارة بن غزية ، عن عبد الرحمن بن أبي سعيد الخدري ، عن أبيه ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - نحو هذا الحديث الذي رواه عطاء بن يسار ، عن الأسدي ، قال أبو سعيد : استشهد أبي يوم أحد ، وتركنا بغير مال ، فأصابتنا حاجة شديدة ، فقالت لي أمي : أي بني ! ائت النبي - صلى الله عليه وسلم - فاسأله لنا شيئا ، قال : فجئت وهو في أصحابه جالس ، فسلمت وجلست ، فاستقبلني ، وقال : من استغنى أغناه الله ، ومن استعف أعفه الله ، ومن استكف كفاه الله ، قال : قلت : ما يريد غيري ، فرجعت ، ولم أكلمه في شيء ، فقالت لي أمي ما [ ص: 95 ] فعلت ، فأخبرتها الخبر ، فرزقنا الله شيئا ، فصبرنا وبلغنا حتى ألحت علينا حاجة هي أشد منها ، فقالت لي أمي : ائت النبي - صلى الله عليه وسلم - فسله لنا شيئا ، قال : فجئته ، وهو في أصحابه جالس ، فاستقبلني ، فأعاد القول الأول وزاد فيه : من سأل وله أوقية ، أو قيمة أوقية ، فهو ملحف ، فقلت إن لي ناقة خيرا من أوقية ، فرجعت ولم أسأله .

هكذا روي هذا الحديث عن أبي سعيد ، ورواه مالك ، عن ابن شهاب ، عن عطاء بن يزيد الليثي ، عن أبي سعيد الخدري بغير هذا اللفظ ، والمعنى واحد ، إلا أنه لم يذكر فيه : من سأل ، وله أوقية إلى آخره . وإنما هذا موجود من رواية مالك ، عن زيد بن أسلم ، عن عطاء بن يسار ، عن رجل من بني أسد على ما تقدم في هذا الباب .

وهذا الحديث من حديث ابن شهاب محفوظ كما رواه مالك ، وليس يحفظ حديث أبي سعيد الخدري المذكور فيه الأوقية إلا بالإسناد المذكور ، عن عمارة بن غزية ، عن عبد الرحمن بن أبي سعيد ، عن أبيه ، وهو لا بأس به . وقد احتج به أحمد بن حنبل ، وسنذكر قوله في ذلك إن شاء الله تعالى .

وفي حديث زيد بن أسلم هذا من الفقه معرفة بعض ما كان عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الحلم ، وما كان القوم فيه من الصبر على الإقلال ، وقلة ذات اليد .

[ ص: 96 ] وأما قول الرجل فيه : والله إنك لتعطي من شئت ، فيحتمل أن يكون من الأعراب الجفاة الذين لا يدرون حدود ما أنزل الله على رسوله ، وفي هذا دليل على ما قال مالك : إن من تولى تفريق الصدقات لم يعدم من يلومه ، قال : وقد كنت أتولاها لنفسي ، فأوذيت ، فتركت ذلك ، وقد يجوز أن يكون منع النبي عليه السلام للرجل الذي منعه حين سأله من الصدقة ; لأنه كان غنيا لا تحل له ، أو ممن لا يجوز له أخذها لمعان الله ورسوله أعلم بها .

وفيه أن السؤال مكروه لمن له أوقية من فضة .

والأوقية إذا أطلقت فإنما يراد بها الفضة دون الذهب وغيره ، هذا قول العلماء ، ألا ترى إلى حديث أبي سعيد الخدري : ليس فيما دون خمس ذود صدقة ، وليس فيما دون خمسة أوسق صدقة ، ولا فيما دون خمس أواق صدقة . فلم يختلف العلماء أنه لم يعن بذلك إلا الفضة دون غيرها ، وما علمت أن أحدا قال في الأوقية المذكورة في هذا الحديث : أنه أريد بها غير الفضة ، وفي ذلك كفاية .

والأوقية أربعون درهما ، وهي بدراهمنا اليوم ستون درهما أو نحوها ، فمن سأل وله هذا الحد ، والعدد ، والقدر من الفضة ، أو ما يقوم مقامها ، ويكون عدلا منها ، فهو ملحف سأل إلحافا [ ص: 97 ] والإلحاف في كلام العرب : الإلحاح ، لا خلاف بين أهل اللغة في ذلك ، والإلحاح على غير الله مذموم ; لأنه قد مدح الله بضده ، فقال : لا يسألون الناس إلحافا ، ولهذا قلت : إن السؤال لمن ملك هذا المقدار مكروه ، ولم أقل : إنه حرام لا يحل ، لأن ما لا يحل يحرم الإلحاح فيه وغير الإلحاح ، ويحرم التعرض له وفيه ، وما علمت أحدا من أهل العلم إلا وهو يكره السؤال لمن ملك هذا المقدار من الفضة ، أو عدلها من الذهب ، فغير جائز لأحد ملك أربعين درهما ، أو عدلها من الذهب ، أن يسأل على ظاهر الحديث .

وما جاء من غير مسألة ، فجائز له أن يأكله ، إن كان من غير الزكاة ، وهذا ما لا أعلم فيه خلافا ; فإن كان من الزكاة ، ففيه من الاختلاف ما نبينه ، إن شاء الله .

ولا تحل الزكاة لغني إلا لخمسة على ما ذكرنا في باب ربيعة .

وأما غير الزكاة من التطوع كله ، فذلك جائز للغني والفقير .

وقد جعل بعض أهل العلم الأربعين درهما حدا بين الغنى والفقر ، فقال : إن الصدقة - يعني الزكاة - لا يحل أخذها لمن ملك أربعين درهما ، لأنه غني إذا ملك ذلك ، وأظنه ذهب إلى هذا الحديث ، والله أعلم .

وهذا باب اختلف العلماء فيه ، ونحن نذكره هاهنا ، وبالله توفيقنا .

[ ص: 98 ] فأما مالك - رحمه الله - ، فروى عنه ابن القاسم : أنه سئل هل يعطى من الزكاة من له أربعون درهما ؟ فقال : نعم ، وهو المشهور من مذهب مالك .

وروى الواقدي ، عن مالك : أنه قال : لا يعطى من الزكاة من له أربعون درهما .

قال أبو عمر :

هذا يحتمل أن يكون قويا مكتسبا حسن التصرف في هذه المسألة ، وفي الأولى ضعيفا عن الاكتساب ، أو من له عيال ، والله أعلم .

وقد قال مالك في صاحب الدار التي ليس فيها فضل عن سكناه ، ولا في ثمنها فضل إن بيعت يعيش فيه بعد دار تحمله أنه يعطى من الزكاة ، قال : وإن كانت الدار في ثمنها ما يشترى له به مسكن ، ويفضل له فضل يعيش به أنه لا يعطى من الزكاة ، والخادم عنده كذلك .

وقوله أيضا هذا في الدار ، والخادم ، يحتمل التأويلين جميعا إلا أن المعروف من مذهبه أنه لا يحد في الغنى حدا لا يجاوزه إلا على قدر الاجتهاد ، والمعروف من أحوال الناس ، وكذلك يرد ما يعطى المسكين الواحد من الزكاة أيضا إلى الاجتهاد من غير توقيف .

[ ص: 99 ] فأما الثوري ، وأبو حنيفة ، والشافعي ، وأبو ثور ، وأبو عبيد ، وأحمد بن حنبل ، والطبري ، فكلهم يقولون فيمن له الدار والخادم وهو لا يستغني عنهما : أنه يأخذ من الزكاة وتحل له ، ولم يفسروا هذا التفسير الذي فسره مالك .

إلا أن الشافعي ، قال في كتاب الكفارات : من كان له مسكن لا يستغني عنه هو وأهله ، وخادم أعطي من كفارة اليمين ، والزكاة ، وصدقة الفطر ، قال : وإن كان مسكنه يفضل عن حاجته وحاجة أهله ، الفضل الذي يكون بمثله غنيا ، لم يعط من ذلك شيئا ; فهذا القول ضارع قول مالك ; إلا أن مالكا ، قال : يفضل له من ذلك فضل يعيش به ، ولم يقل كم يعيش به ، والشافعي قال : يفضل له من ذلك فضل يكون به غنيا .

وروى سعيد بن أبي عروبة ، عن قتادة ، عن الحسن ، قال : يعطى من الزكاة من له المسكن والخادم ، ورواه الربيع عن الحسن .

وفسره أبو عبيد على نحو ما قال الشافعي .

وعن إبراهيم النخعي نحو قول الحسن في ذلك .

وعن سعيد بن جبير مثله .

واختلفوا في المقدار الذي تحرم به الصدقة لمن ملكه من الذهب ، والفضة ، وسائر العروض .

[ ص: 100 ] فأما مالك فقد ذكرنا قوله في الأربعين درهما ، ولا اختلاف عنه في ذلك .

وكان الحسن البصري يقول : من له أربعون درهما فهو غني ، وحجة من ذهب إلى أن يحد في هذا أربعين درهما حديث الأسدي المذكور في هذا الباب ، وهو حديث ثابت .

وقد رواه عبد الله بن عمرو بن العاص أيضا : حدثنا يعيش بن سعيد بن محمد ، قال : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا محمد بن غالب التمتام ، قال : حدثنا إبراهيم بن بشار ، قال : حدثنا سفيان ، عن داود بن شابور ، عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، قال : من سأل وله أربعون درهما أو قيمتها ، فهو الملحف .

[ ص: 101 ] وذكر كلاما فيه تغليظ على السائل إذا ملك ذلك ، وقد ذكرنا حديث أبي سعيد الخدري بمثل ذلك أيضا .

وقال أبو حنيفة وأصحابه : لا تحل الصدقة لمن له مائتا درهم ، ولا بأس أن يأخذها من له أقل منها ، ويكرهون أن يعطى إنسان واحد من الزكاة مائتي درهم ، فإن أعطيها أجزأت عن المعطي عندهم ، ولا بأس أن يعطى أقل من مائتي درهم ، وهو قول ابن شبرمة .

وروى هشام عن أبي يوسف في رجل له على رجل مائة وتسعة وتسعون درهما ، فيتصدق عليه من زكاة بدرهمين أنه يقبل واحدا ويرد واحدا ، ففي هذا إجازة أن يقبل تمام المائتين وكراهة أن يقبل ما فوقها .

وحجتهم في ذلك قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أمرت أن آخذ الصدقة من أغنيائكم ، وأردها في فقرائكم . والغني من له مائتا درهم ، لوجوب الزكاة عليه فيها ; لأنها لا تؤخذ إلا من غني .

وكان الثوري ، والحسن بن صالح ، وابن المبارك ، وأحمد بن حنبل ، وإسحاق بن راهويه ، يقولون : لا يعطى من الزكاة من له خمسون درهما ، أو عدلها من الذهب ; واحتجوا في ذلك بحديث عبد الله بن مسعود في ذلك عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : من سأل وهو غني ، جاءت يوم القيامة مسألته خدوشا ، أوخموشا ، أو كدوحا في وجهه ، قيل : وما غناه ، أو ما الغنى [ ص: 102 ] يا رسول الله ؟ قال خمسون درهما أو عدلها من الذهب ، وهذا الحديث إنما يدور على حكيم بن جبير ، وهو متروك الحديث ; هكذا رواه جماعة أصحاب الثوري ، منهم ابن المبارك وغيره ، عن الثوري ، عن حكيم بن جبير ، عن محمد بن عبد الرحمن بن يزيد ، عن ابن مسعود .

[ ص: 103 ] إلا يحيى بن آدم فإنه : جعل فيه مع حكيم بن جبير ، زبيد الإيامي ولا يجوز عند الثوري ، وأحمد بن حنبل ، والحسن بن صالح ، ومن قال بقولهم : أن يعطى أحد من الزكاة أكثر من خمسين درهما ; لأنه الحد بين الغني والفقير عندهم ، والزكاة إنما جعلها الله للفقراء والمساكين وحرمها على الأغنياء ، إلا الخمسة الذين ذكرهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وسيأتي ذكرهم في كتابنا هذا في موضعه إن شاء الله تعالى .

وقال عبيد الله بن الحسن : من لا يكون له ما يقيمه ويكفيه سنة ، فإنه يعطى من الزكاة ، وما أعلم لهذا القول وجها إلا أن يكون صاحبه عساه أخذه من حديث ابن شهاب عن مالك بن أوس بن الحدثان عن عمر بن [ ص: 104 ] الخطاب أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يدخر مما أفاء الله عليه قوت سنة ثم يجعل ما سوى ذلك في الكراع ، والسلاح ، مع قول الله عز وجل : ووجدك عائلا فأغنى .

وقال الشافعي : يعطى الرجل على قدر حاجته حتى يخرجه ذلك من حد الفقر إلى حد الغنى كان ذلك تجب فيه الزكاة ، أو لا تجب فيه الزكاة ، ولا أحد حد في ذلك حدا ، ذكره المزني ، والربيع جميعا عنه ، ولا خلاف عنه في ذلك ، وكان الشافعي يقول أيضا : قد يكون الرجل بالدرهم غنيا مع كسبه ، ولا يغنيه الألف مع ضعفه في نفسه ، وكثرة عياله .

وقال الطبري : لا يأخذ من الزكاة من له خمسون درهما ، أو عدلها ذهبا ، إذا كان على التصرف بها قادرا حتى يستغني عن الناس ; فإذا كان كذلك حرمت عليه الصدقة .

وأما إذا صرف الخمسين درهما في مسكن ، أو خادم ، أو ما لا يجد منه بدا ، وليس له سواها ، وكان على التصرف بها غير قادر حلت له الزكاة بحديث ابن مسعود عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في الخمسين درهما ، وذكر حديث قبيصة بن المخارق : لا تحل المسألة لمن له سداد من عيش أو قوام من عيش ، فكأنه جعل السداد الخمسين درهما المذكورة في حديث ابن مسعود ، والله تعالى أعلم بهذا الظاهر من معنى قوله هذا .

[ ص: 105 ] قال أبو عمر :

ليس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ولا عن أصحابه في هذا الباب شيء يرفع الإشكال ، ولا ذكر أحد عنه ولا عنهم في ذلك نصا غير ما جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من كراهية السؤال وتحريمه لمن ملك مقدارا ما ، في آثار كثيرة مختلفة الألفاظ والمعاني ، فجعلها قوم من أهل العلم حدا بين الغني والفقير .

وأبى ذلك آخرون ، وقالوا : إنما فيها تحريم السؤال أو كراهيته .

فأما من جاءه شيء من الصدقات عن غير مسألة ، فجائز له أخذه وأكله ، ما لم يكن غنيا الغنى المعروف عند الناس فتحرم عليه حينئذ الزكاة دون التطوع .

ولا خلاف بين علماء المسلمين أن الصدقة المفروضة لا تحل لغني ، إلا ما ذكر في حديث أبي سعيد الخدري على ما يأتي ذكره إن شاء الله في موضعه من كتابنا هذا .

واختلفوا في الصدقة التطوع هل تحل للغني ؟ فمنهم من يرى التنزه عنها ، ومنهم من لم ير بها بأسا ، إذا جاءت من غير مسألة ; لقوله - صلى الله عليه وسلم - لعمر : ما جاءك من غير مسألة فكله وتموله ، فإنما هو رزق ساقه الله إليك ، مع إجماعهم على أن السؤال لا يحل لغني معروف الغنى .

[ ص: 106 ] وأكثر من كره صدقة التطوع ، إنما كرهها من أجل الامتنان ، ورأوا التنزه عن التطوع من الصدقات ، لما يلحق قابضها من ذل النفس والخضوع لمعطيها ، ونزعوا أو بعضهم بالحديث : إن الصدقة أوساخ الناس يغسلونها عنهم ، فرأوا التنزه عنها ، ولم يجيزوا أخذها لمن استغنى عنها - بالكفاف - ما لم يضطروا إليها ; حتى لقد قال سفيان - رحمه الله - جوائز السلطان ، أحب إلي من صلات الإخوان ; لأنهم يمنون .

قال أبو عمر :

ويحتمل مع هذا أنه رأى أن له في بيت المال حقا .

والآثار المروية عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في كراهته السؤال مطلقا ، أو لمن ملك مقدارا ما ، كثيرة جدا ; منها حديث الأسدي المذكور في هذا الباب ، عن زيد بن أسلم ، ومنها حديث أبي سعيد على ما تقدم ، وفيها جميعا ذكر الأوقية أو عدلها . وحديث ابن مسعود في الخمسين درهما ، أو عدلها من الذهب ، وحديث سهل بن الحنظلية ، أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، يقول : من سأل وعنده ما يغنيه ، فإنما يستكثر من نار جهنم ، فقالوا : يا رسول الله ! وما يغنيه ؟ قال : ما [ ص: 107 ] يغذيه في أهله وما يعشيهم . وحديث عبد الحميد بن جعفر ، عن أبيه ، عن رجل من مزينة ، أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يخطب ، وهو يقول : من استغنى أغناه الله ، ومن استعف أعفه الله ، ومن سأل الناس وله عدل خمسة أوساق سأل إلحافا .

وحديث قبيصة بن المخارق أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال له : يا قبيصة ! إن المسألة لا تحل إلا لأحد ثلاثة : رجل تحمل حمالة فحلت له المسألة ، فسأل حتى يصيبها ، أو يمسك ، ورجل أصابته جائحة ، فاجتاحت ماله ، فحلت له المسألة ، فسأل حتى يصيب قواما من عيش ، أو قال : سدادا من عيش ، ورجل أصابته فاقة حتى يقول ثلاثة من ذوي الحجا من قومه : لقد أصابت فلانا الفاقة ، فقد حلت له المسألة ، فسأل حتى يصيب قواما أو سدادا من عيش ، ثم يمسك ، وما سواهن من المسألة يا قبيصة سحت ، يأكلها صاحبها سحتا .

وروى الفراسي أنه قال لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أأسأل يا رسول الله ؟ قال : لا ، وإن كنت لا بد سائلا ، فسل الصالحين وذكر الحديث .

[ ص: 108 ] وروى عوف بن مالك الأشجعي : أنهم بايعوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهم سبعة أو ثمانية ، فأخذ عليهم أن يعبدوا الله ، ولا يشركوا به شيئا ، ويصلوا الصلوات الخمس ، ويسمعوا ويطيعوا ، ولا يسألوا الناس شيئا . قال : فلقد كان بعض أولئك النفر يسقط سوطه ، فما يسأل أحدا يناوله .

وروى ثوبان عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : من تكفل لي أن لا يسأل الناس شيئا ، تكفلت له بالجنة ، وروى عمر بن الخطاب ، وغيره ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : إذا أعطيت شيئا من غير أن تسأله ، فكل وتصدق .

وعنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : من آتاه الله شيئا من غير مسألة ، ولا استشراف فليأكل وليتمول ، فإنما هو رزق [ ص: 109 ] ساقه الله إليه ، وهذا معناه أن يكون فقيرا ، أو يكون الشيء الذي جاءه من غير مسألة ليس من الزكاة إن كان غنيا ، بدليل قوله - صلى الله عليه وسلم - : لا تحل الصدقة لغني ، ولا لذي مرة سوي . ويروى لذي مرة قوي .

رواه عبد الله بن عمرو بن العاص ، ورواه أيضا عبيد الله بن عدي بن الخيار ، عن رجلين من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - . وهذه كلها آثار مشهورة صحاح معروفة عند أهل الحديث ، موجودة في المسانيد ، والمصنفات ، وأمهات الدواوين .

ذكرها أبو داود وغيره ، كرهت الإتيان بأسانيدها ; لاشتهارها ، والسؤال عند أهل العلم مكروه لمن يجد منه بدا على كل حال .

[ ص: 110 ] روينا عن ابن عباس من وجوه أنه أوصاه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وكان في وصيته له : إذا سألت فاسأل الله ، وإذا استعنت فاستعن بالله .

وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : لأن يأخذ أحدكم حبلا فيحتطب على ظهره ، خير له من أن يسأل الناس ، أعطوه أو منعوه .

قال أبو عمر :

وما زال ذوو الهمم والأخطار من الرجال يتنزهون عن السؤال .

ولقد أحسن أبو الفضل أحمد بن المعذل بن غيلان العبدي الفقيه المالكي ، حيث يقول :


التمس الأرزاق عند الذي ما دونه إن سئل من حاجب من يبغض التارك عن سؤله
جودا ومن يرضى عن الطالب ومن إذا قال جرى قوله
بغير توقيع إلى كاتب

[ ص: 111 ] قال أبو عمر :

كان أحمد بن المعذل شاعرا فقيها ناسكا ، وكان أخوه عبد الصمد شاعرا ماجنا ، ولأحمد قصيدته المشهورة في فضل الرباط .

ومن أحسن ما قيل نظما في الرضى والقناعة وذم السؤال ، قول بعض الأعراب :


علام سؤال الناس والرزق واسع وأنت صحيح لم تخنك الأصابع
وللعيش أوكار وفي الأرض مذهب عريض وباب الرزق في الأرض واسع
فكن طالبا للرزق من رازق الغني وخل سؤال الناس فالله صانع

وقال مسلم بن الوليد :


أقول لمأفون البديهة طائر مع الحرص لم يغنم ولم يتمول
سل الناس إني سائل الله وحده وصائن عرضي عن فلان وعن فل

وقال عبيد بن الأبرص :


من يسأل الناس يحرموه وسائل الله لا يخيب

[ ص: 112 ] ومن قصيدة للحسين بن حميد :


وسائل الناس إن جادوا وإن بخلوا فإنه برداء الذل مشتمل

وقال أبو العتاهية فأحسن :


أتدري أي ذل في السؤال وفي بذل الوجوه إلى الرجال
يعز علي التنزه من رعاه ويستغني العفيف بغير مال
تعالى الله يا سلم بن عمرو أذل الحرص أعناق الرجال
وما دنياك إلا مثل فيء أظلك ثم آذن بالزوال
إذا كان النوال ببذل وجهي فلا قربت من ذاك النوال
معاذ الله من خلق دنيء يكون الفضل فيه علي لا لي
توق يدا تكون عليك فضلا فصانعها إليك عليك عالي
يد تعلو بجميل فعل كما علت اليمين على الشمال
[ ص: 113 ] وجوه العيش من سعة وضيق وحسبك والتوسع في الحلال
وتنكر أن تكون أخا نعيم وأنت تصيف في فيء الظلال
وأنت تصيب قوتك في عفاف وريك إن ظمئت من الزلال
متى تمسي وتصبح مستريحا وأنت الدهر لا ترضى بحال
تكابد جمع شيء بعد شيء وتبغي أن تكون رخي بال
وقد يجزي قليل المال مجزى كثير المال في سد الخلال
إذا كان القليل يسد فقري ولم أجد الكثير فلا أبالي
هي الدنيا رأيت الحب فيها عواقبه التفرق عن تقال
تسر إذا نظرت إلى هلال ونقصك إن نظرت إلى الهلال

[ ص: 114 ] حدثنا عبد الله بن محمد ، قال : حدثنا محمد بن بكر ، قال : حدثنا أبو داود ، قال : حدثنا حفص بن عمر النمري ، قال : حدثنا سعيد عن عبد الملك بن عمير ، عن زيد بن عقبة الفزاري ، عن سمرة بن جندب ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : المسائل كدوح يكدح بها الرجل وجهه ، فمن شاء أبقى على وجهه ، ومن شاء ترك إلا أن يسأل الرجل ذا السلطان ، أو في أمر لا يجد منه بدا .

قال أبو عمر :

حديث سمرة هذا من أثبت ما يروى في هذا الباب ، وهو أصل عندهم في سؤال السلطان ، وقبول جوائزه ، وعمومه يقتضي كل [ ص: 115 ] سلطان لم يخص من السلاطين صفة دون صفة ، وقد كان يعلم كثيرا مما يكون بعده ، ألا ترى إلى قوله : سيكون بعدي أمراء - الحديث ، فما لم يعلم الحرام عندهم بصفته ، جاز قبوله .

حدثنا عبد الوارث بن سفيان ، قال : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا ابن وضاح ، قال : حدثنا عبد الله بن أبي حسان ، حدثنا مسلم ، حدثنا محمد بن مسلم الطائفي ، عن أيوب بن موسى ، عن نافع أن عبد الله بن عمر كان يقبل الجوائز من الأمراء ، وقبل جوائز الأمراء جماعة ; منهم الشعبي ، والحسن البصري ، وإبراهيم النخعي ، وابن شهاب الزهري ، ويحيى بن سعيد ، ومالك بن أنس ، والأوزاعي .

وكان يحيى بن سعيد في ديوان الوليد ، وجماعة من العلماء كانوا في ديوان بني أمية ، وبني العباس - في العطاء .

ذكر الحسن بن علي الحلواني في كتاب المعرفة ، قال : حدثنا ابن عمير ، قال : حدثنا ضمرة ، عن أبي جميلة ، قال : ذكر الوليد بن هشام لعمر بن عبد العزيز ، القاسم بن مخيمرة ، قال : فأرسل إليه ، فلما دخل عليه ، قال له عمر : سل حاجتك ، قال : يا أمير المؤمنين ، قد علمت ما جاء في المسألة ، قال : ليس أنا ذلك ، إنما أنا [ ص: 116 ] قاسم فسل حاجتك ، قال يا أمير المؤمنين : أخذ مني ، قال : قد أمرنا لك بخادم ، فخذها من عند الوليد بن هشام ، هكذا قال الحسن الحلواني .

وحدثنا علي بن حفص ، قال : حدثنا الأشجعي ، عن سفيان ، عن منصور ، قال : خرج إبراهيم النخعي ، وتميم بن سلمة إلى عامل حلوان فأعطاهما ، قال : ففضل تميما على إبراهيم ، فوجد إبراهيم من ذلك في نفسه .

وذكر ابن أبي حاتم حديث أحمد بن منصور الرمادي ، قال : عن القعنبي ، سمعت يحيى بن سليم الطائفي يحدث عن سفيان بن عيينة ، أن محمد بن إبراهيم - يعني الهاشمي - واليا كان على مكة بعث إلى سفيان الثوري مائتي دينار ، فأبى أن يقبلها ، فقلت له : يا أبا عبد الله ، كأنك لا تراها حلالا ، قال : بلى ، ولكني أكره أن أذل .

وقال سفيان : جوائز السلطان أحب إلي من صلة الإخوان ; لأنهم لا يمنون والإخوان يمنون .

[ ص: 117 ] قال الحلواني : وحدثنا عفان ، قال : حدثنا معاذ ، قال : حدثنا ابن عون ، قال : أمر عمر بن عبد العزيز بمال للحسن ، ومحمد ، فلم يقبل محمد ، وقبل الحسن .

قال : وحدثنا زيد بن الحباب عن سلام بن مسكين ، قال : بعث عمر بن عبد العزيز إلى الحسن ، ومحمد بن ثابت البناني ، ويزيد الرقاشي ، ويزيد الضبي بثمانمائة ، وثمانمائة ، وحلة ، وحلة ، فقبلوا كلهم إلا محمد ابن سيرين .

قال : وحدثنا دحيم ، قال : حدثنا الوليد بن مسلم ، قال : حدثنا ابن حاتم ، قال : قدم علينا سليمان بن يسار في زمن الوليد بن عبد الملك ، فدعاه الوليد إلى منزله ، فصنع حماما ودخله ، فأطلى بنورة ، ثم خرج ، وانصرف إلى المنزل فتغدى معه .

أخبرنا محمد بن زكرياء ، قال : أخبرنا أحمد بن سعد ، قال : حدثنا أحمد بن خالد ، قال : حدثنا مروان بن عبد الملك ، قال : حدثنا المفضل بن عبد الرحمن ، قال : حدثنا عبد الله بن داود ، عن الأعمش ، عن حبيب بن أبي ثابت ، قال : رأيت هدايا المختار تأتي ابن عباس ، وابن عمر ، فيقبلانها .

[ ص: 118 ] قال مروان : وحدثنا محمد بن يحيى الأزدي ، قال : حدثنا أبو نصر التمار ، قال : حدثنا سعيد بن عبد العزيز التنوخي ، قال : قال الحسن : لا يرد عطاياهم إلا أحمق أو مراء .

حدثنا محمد بن عبد العزيز ، وكان فاضلا ، قال سمعت ابن عيينة : حدثنا أحمد بن زهير ، حدثنا يحيى بن أيوب ، قال : حدثنا محمد بن عبد العزيز ، وكان فاضلا ، قال : سمعت ابن عيينة يقول : من زعم أن سفيان لم يأخذ من السلطان ؟ أنا أخذت له منهم .

قال أبو عمر :

كان الثوري يحتج بقول ابن مسعود : لك المهنأ ، وعليه المأثم .

وهذا لولا خروجنا بذكره عن معاني هذا الباب لذكرنا من ذلك ما يطول به الكتاب ، فقد جمعه منهم أحمد بن خالد ، وغيره .

وروي عن بكير بن الأشج : أنه كان يقبل هدية امرأة سوداء تبيع المزر بمصر ، قال : لأني كنت أراها تغزل .

وقال الليث : إن لم يكن له مال سوى الخمر ، فليكف عنه .

قال : وأكره طعام العمال من جهة الورع من غير تحريم ، وقال القاسم بن محمد : لو كانت الدنيا كلها حراما لما كان بد من العيش فيها .

[ ص: 119 ] وقال مالك : فكل من عمل للسلطان عملا ، فله رزقه من بيت المال ، قال : فلا بأس بالجائزة يجازى بها الرجل يراه الإمام بجائزته أهلا لعلم ، أو دين عليه ، ونحو ذلك .

قال أبو عمر :

أما من حد في الغنى حدا : خمسين درهما ، أو أربعين درهما ، أو مائتي درهم ، وزعموا أن المرء غني بملكه هذا المقدار على اختلافهم فيه ، ومن قال : إنه لا يعطى أحد من الفقراء أكثر من مائتي درهم ، أو أكثر من خمسين درهما من الزكاة ، فإنه يدخل على كل واحد منهم ما يرد قوله من حديث سهل بن أبي حثمة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ودى الأنصاري المقتول بخيبر بمائة ناقة من إبل الصدقة ، ودفعها إلى أخيه عبد الله بن سهل .

قد نزع لهذا بعض أصحابنا ، وفي ذلك عندي نظر ، فأما من جعل المرء بملكه ما تجب فيه الصدقة غنيا ، لقوله - صلى الله عليه وسلم - : أمرت أن آخذ الصدقة من أغنيائكم ، فإنه يدخل عليه الإجماع على أن من ملك خمسة أوسق من شعير قيمتها خمسة دراهم أو نحوها مما لا يكون غنى عند أحد ، وكان ملكه إياها بزرعه لها في أرضه ، ولم يملك من حصاده غيرها ، أن الصدقة عليه فيها ، وإن لم يملك شيئا سواها ، وهذا عند جميعهم فقير مسكين ، غير غني ، وقد وجبت عليه الصدقة وهذا ينقض ما أصلوه ، وما ذهب إليه مالك والشافعي أولى بالصواب في هذا الباب ، والله أعلم .

[ ص: 120 ] أخبرنا محمد بن عبد الملك ، قال : حدثنا أبو سعيد الأعرابي ، قال : حدثنا سعيد بن نصر ، قال : حدثنا سفيان بن عيينة ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عبيد الله بن عدي بن الخيار عن رجلين ، قالا : أتينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يقسم نعم الصدقة ، فسألناه ، فصعد فينا البصر وصوب ، وقال : ما شئتما ؟ فلا حق فيها لغني ، ولا لقوي مكتسب .

ومن حديث عبد الله بن عمرو بن العاص ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : لا تحل الصدقة لغني ، ولا لذي مرة ، وبعضهم يقول فيه : ولا لذي مرة قوي .

ومن أحسن ما رأيت من أجوبة في معاني السؤال وكراهيته ومذاهب أهل الورع فيه ، ما حكاه الأثرم عن أحمد بن حنبل : أخبرنا عبد الله بن محمد بن عبد المؤمن ، قال : حدثنا عبد الحميد بن أحمد الوراق ، قال : حدثنا الخضر بن داود ، قال : حدثنا أبو بكر الأثرم ، قال : سمعت أبا عبد الله - يعني أحمد بن حنبل - يسأل عن المسألة متى تحل ؟

فقال : إذا لم يكن عنده ما يغذيه ، ويعشيه ، على حديث سهل بن الحنظلية .

قيل : لأبي عبد الله فإن اضطر إلى المسألة ، قال : هي مباحة له إذا اضطر .

[ ص: 121 ] قيل له : فإن تعفف ؟ قال : ذلك خير له .

ثم قال : ما أظن أحدا يموت من الجوع ، الله يأتيه برزقه .

ثم ذكر حديث أبي سعيد الخدري : من استعف أعفه الله ، وحديث أبي ذر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، قال له : تعفف .

قال : وسمعت أبا عبد الله ، وذكر حديث عبيد الله بن عدي بن الخيار ، عن رجلين أتيا النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فسألاه عن الصدقة ، فقال لهما : إن شئتما ؟ ولا حق فيها لغني ولا لقوي مكتسب ، فقال : هذا أجودها إسنادا ، ثم قال : قد يكون قويا ، ولا يكون مكتسبا ، لا يكون في يده حرفة ، ولا يقدر على شيء ، فهذا تحل له الصدقة ، وإن كان قويا إذا كان غير مكتسب ، فإن كان يقدر على أن يكتسب ، فهو مضيق عليه في المسألة ، فإذا غيب عليك أمره فلم تدر أيكتسب أم لا ؟

أعطيته ، وأخبرته بما يحرم عليه .

قال أبو بكر : وسمعته يسأل عن قوله : ذي مرة قوي ، قال : هو الصحيح ، ثم قال : ما أحسنه وأجوده من حديث - يعني حديث عبيد الله بن عدي بن الخيار - ، وقد ذكرناه بسندنا فيه قبل هذا والحمد لله .

[ ص: 122 ] أخبرنا عبد الله بن محمد ، قال : حدثنا عبد الحميد بن أحمد ، قال : حدثنا الخضر بن داود ، قال : حدثنا أبو بكر ، قال : وسمعت أبا عبد الله يقول : لا تحل المسألة إلا لأحد ثلاثة ، على حديث قبيصة بن المخارق : حتى يصيب قواما أو سدادا من عيش ، قيل له : ما السداد ؟ قال : ما يعشيه .

قال أبو عمر :

هذا على نحو جواب مالك في هذا الباب .

قال أبو بكر : وسمعته - يعني أحمد بن حنبل - يسأل عن الرجل الذي لا يجد شيئا : أيسأل أم يأكل الميتة ؟ فقال : أيأكل الميتة ، وهو يجد من يسأله ؟ هذا شنيع ! قال : وسمعته يسأل : هل يسأل الرجل لغيره ؟ فقال : لا ، ولكن يعرض ، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - حين جاءه قوم مجتابي النمار ، فقال : تصدقوا ، ولم يقل : أعطوهم .

قال أبو عمر :

قد قال - صلى الله عليه وسلم - : اشفعوا تؤجروا ، وفيه إطلاق السؤال لغيره ، والله أعلم .

وقال : ألا رجل يتصدق على هذا ، فيصلي معه .

[ ص: 123 ] قال أبو بكر : قيل له - يعني أحمد بن حنبل - فالرجل يذكر الرجل ، فيقول : إنه محتاج ، فقال : هذا تعريض ، وليس به بأس ، فإنما المسألة أن تقول : أعطه ، ثم قال : لا يعجبني أن يسأل المرء لنفسه ، فكيف لغيره ؟ والتعريض هاهنا أعجب إلي .

قلت لأبي عبد الله : رجل سأل وهو ممن تحل له المسألة ، فجاءه رجل بمائة درهم ، فقال : هذا رزق ساقه الله إليه ، فإن كان من الزكاة ، فهذا يضيق على المعطي والمعطى ، فإن كان من عرض ماله ، فلا بأس به .

قال أبو عبد الله : لا يأخذ من الصدقة من له خمسون درهما ، ولا يأخذ منها أكثر من خمسين درهما ، قيل له : وما الأصل في أن لا يعطى أكثر من خمسين ؟ قال : لأنه إذا أخذ خمسين ، صار غنيا ، إلا أن يكون له عيال ، أو يكون غارما ، أو يكون عليه دين .

ثم قال : حديث عبد الله بن مسعود في هذا حديث حسن ، وإليه نذهب في الصدقة .

قلت له : ورواه زبيد ، وهو لحكيم بن جبير فقط ، فقال : رواه زبيد فيما قال يحيى بن آدم : سمعت سفيان يقول : فحدثنا زبيد ، عن محمد بن عبد الرحمن بن يزيد ، قلت لأبي عبد الله : لم يخبر به محمد بن عبد الرحمن ، فقال : لا .

قال : وسمعته ، وذكر حديث أبي سعيد الخدري ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : من سأل وله أوقية ، أو قيمة أوقية ، فهو [ ص: 124 ] ملحف ، فقال : هذا يقوي حديث عبد الله بن مسعود . قيل لأبي عبد الله : حديث عبد الله بن مسعود من حديث من هو ؟ فقال : من حديث عمارة بن غزية ، عن عبد الرحمن بن أبي سعيد ، عن أبيه ، قال : قلت : فإن كان رجل له عيال ، قال : يعطى كل واحد منهم خمسين ، خمسين ، ومن كان له خمسون لم يعط منها شيئا ، وإن كان له دون خمسين بلغ الخمسين ، قيل له : فإن كانت الخمسون لا تكفيه من سنة إلى سنة إنما تكفيه ثلاثة أشهر ، أو نحوها ، وهو يشتهي أن لا يحوجه إلى أحد ، فقال : لا ينبغي أن يعطيه أكثر من خمسين ، فقلت : أنا للذي سأله : إذا فنيت الخمسون أعطاه خمسين أخرى ؟ قال : نعم ، إذا فنيت أعطاه أخرى .

قال أبو عمر :

أما اللقحة المذكورة في حديث هذا الباب : قول الأسدي : فقلت للقحة لنا خير من أوقية ، فاللقحة الناقة اللبون .

[ ص: 125 ] وذكر الحربي عن أبي نصر ، عن الأصمعي ، أنه قال : لقاح الإبل أن تحمل سنة

قال أبو عمر :

قال أحبحة بن الجلاح :

تبوع للحليلة حيث كانت كما يعتاد لقحته الفصيل




الخدمات العلمية