الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
3 [ ص: 331 ] حديث سادس وعشرون لزيد بن أسلم مرسل ، وهو أول

حديث من مراسيل عطاء بن يسار

مالك ، عن زيد بن أسلم ، عن عطاء بن يسار ، قال : جاء رجل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فسأله عن وقت صلاة الصبح ، قال : فسكت عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، حتى إذا كان من الغد ، صلى الصبح ( حين طلع الفجر ، ثم صلى الصبح ) من الغد بعد أن أسفر ، ثم قال : أين السائل عن وقت الصلاة ؟ قال : هأنذا يا رسول الله ، فقال : ما بين هذين وقت .

التالي السابق


قال أبو عمر :

لا خلاف عن مالك في إرسال هذا الحديث كما رواه يحيى سواء ، وقد يتصل معناه من وجوه شتى : من حديث أبي موسى الأشعري ، وحديث جابر ، وحديث عبد الله بن عمرو ، وحديث بريدة الأسلمي ; إلا أن في هذه الأحاديث كلها سؤال السائل [ ص: 332 ] رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن مواقيت الصلوات جملة ، وإجابته إياه في الصبح بمثل ( معنى ) حديث مالك هذا .

وقد روى أنس بن مالك عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، مثل حديث عطاء بن يسار هذا سواء في صلاة الصبح وحدها ، لم يشرك معها غيرها ; رواه جماعة عن حميد الطويل ، عن أنس ; منهم حماد بن سلمة وغيره : أخبرنا أحمد بن عبد الله بن محمد بن علي ، أن أباه أخبره قال : أخبرنا أحمد بن خالد ، قال : أخبرنا علي بن عبد العزيز ، قال : أخبرنا حجاج بن منهال ، قال : أخبرنا حماد بن سلمة ، عن حميد الطويل ، عن أنس بن مالك أن رجلا سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن وقت صلاة الفجر ، فقال : صلها معنا غدا ، فصلاها النبي - صلى الله عليه وسلم - بغلس ، فلما كان اليوم الثاني أخر حتى أسفر ، ثم قال : أين السائل عن وقت هذه الصلاة ؟ فقال الرجل : أنا يا نبي الله ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : أليس قد حضرتها معنا أمس واليوم ؟ قال : بلى ، قال : فما بينهما وقت .

وحدثنا محمد بن إبراهيم بن سعيد ، قال : أخبرنا محمد بن معاوية ، قال : أخبرنا أحمد بن شعيب ، قال : أخبرنا علي بن حجر ، [ ص: 333 ] قال : أخبرنا إسماعيل ، قال : حدثنا حميد ، عن أنس أن رجلا أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فسأله عن وقت صلاة الغداة ، فلما أصبحنا من الغد ، أمر حين انشق الفجر أن تقام الصلاة ، فصلى بنا ، فلما كان من الغد ، أسفر ، ثم أمر فأقيمت الصلاة ، فصلى بنا ، ثم قال : أين السائل عن وقت الصلاة ؟ ما بين هذين وقت .

وهذا إسناد صحيح متصل بلفظ حديث عطاء بن يسار ومعناه .

وقد روي من حديث جابر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مثله .

وبلغني أن سفيان بن عيينة حدث بهذا الحديث ، عن زيد بن أسلم ، عن عطاء بن يسار ، عن أنس بن مالك ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وما أدري كيف صحة هذا عن سفيان ؟ وأما الحديث عن زيد بن أسلم ، فالصحيح فيه أنه من مرسلات عطاء ، والله أعلم .

وفي هذا الحديث من الفقه تأخير البيان عن وقت السؤال إلى وقت آخر يجب فيه فعل ( ذلك ، إذا كان لعلة جائز عند أكثر أهل العلم ) .

وأما تأخير البيان عن حين تكليف الفعل والعمل حتى ينقضي وقته فغير جائز عند الجميع ، وهذا باب طال فيه الكلام بين أهل النظر من أهل الفقه ; فمن أجاز تأخير البيان في هذا الباب ، احتج من جهة الأثر بهذا الحديث وما أشبهه ، وبقوله - صلى الله عليه وسلم - في حجته : خذوا عني مناسككم ، ( والمناسك ) لم تتم إلا في [ ص: 334 ] أيام ، وقد كان يمكنه أن يعلمهم ذلك قولا ، في مدة أقرب من مدة تعليمه إياهم عملا ; وكذلك قد كان قادرا على أن يبين للسائل ميقات تلك الصلاة ، وسائر الصلوات بقوله في مجلسه ذلك ، ولكنه أخر ذلك ليبين ذلك له عملا ; ولم يمتنع من ذلك لما يخاف عليه من اخترام المنية ; لأن الله عز وجل قد كان أنبأه - والله أعلم - أنه لا يقبضه حتى يكمل به الدين ، ويبين للأمة على لسانه ما يتوصل به إلى معرفة الأحكام ; وكذلك فعل - صلى الله عليه وسلم - ، ولله الحمد كثيرا .

وقد يكون البيان بالفعل أثبت أحيانا فيما فيه عمل من القول ، وقد قال - صلى الله عليه وسلم - : ليس الخبر كالمعاينة . رواه ابن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ولم يروه ( غيره والله أعلم ) .

ومعلوم أن الصدر الأول لم يخبروا بما سمعوا من الأخبار ضربة واحدة ، بل كانوا يخبرون بالشيء على حسب الحال ، ونزول النوازل ; وكذلك الأخبار المستفيضة أيضا ، لم تقع ضربة واحدة ، والكلام في هذا الباب يطول جدا ، وليس هذا موضعه ; وفيما لوحنا به منه كفاية وتنبيه ، إن شاء الله تعالى .

وفي هذا الحديث أيضا أن أول وقت صلاة الصبح طلوع الفجر ، وإن وقتها ممدود إلى آخر الإسفار حتى تطلع الشمس .

[ ص: 335 ] فأما أول وقتها ، فلا خلاف بين علماء المسلمين أنه طلوع الفجر ، على ما في هذا الحديث وغيره ; وهو إجماع ، فسقط الكلام فيه . والفجر هو أول بياض النهار الظاهر المستطير في الأفق ، المستنير المنتشر ، تسميه العرب الخيط الأبيض ، قال الله عز وجل : حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ; يريد بياض النهار من سواد الليل .

قال أبو دؤاد الإيادي :


فلما أضاءت لنا سدفة ولاح من الصبح خيط أنارا

وقال آخر :


قد كاد يبدو أو بدت تباشره وسدف الليل البهيم ساتره

وقد سمته أيضا الصديع ، ومنه قولهم : انصدع الفجر .

قال بشر بن أبي خازم ، أو عمرو بن معدي كرب :


به السرحان مفترشا يديه كأن بياض لبته الصديع

[ ص: 336 ] وشبهه الشماخ بمفرق الرأس ، فقال :


إذا ما الليل كان الصبح فيه أشق كمفرق الرأس الدهين

ويقولون للأمر الواضح : هذا كفلق الصبح ، وكانبلاج الفجر ، وتباشير الصبح .

قال الشاعر :


فوردت قبل انبلاج الفجر وابن ذكاء كامن في كفر

وذكاء : الشمس ، فسمى الصبح ابن ذكاء ، والكفر : ظلمة الليل ، ويقال لليل : كافر ، لتغطيته الأشياء بظلمته .

وأما آخر وقتها ، فكان مالك فيما حكى عنه ابن القاسم يقول : آخر وقت ( صلاة ) الصبح الإسفار ، كأنه ذهب إلى هذا الحديث ; لأنه صلاها في اليوم الثاني حين أسفر ، ثم قال : ما بين هذين وقت ، فكان ظاهر قوله : إن ما عدا هذين فليس بوقت ; ومعنى قوله : ما بين هذين وقت ، يريد هذين وما بينهما وقت .

وأما الشافعي ، والثوري ، وجمهور الفقهاء ، وأهل الآثار ، فإنهم قالوا : آخر صلاة الصبح أن تدرك منها ركعة قبل طلوع [ ص: 337 ] الشمس ، وروي مثل ذلك عن مالك أيضا ، فبان بذلك أن قوله في رواية ابن القاسم عنه : آخر وقت صلاة الصبح الإسفار ، أنه أراد الوقت المستحب ، ويوضح ذلك أيضا أنه لا خلاف عنه ، ولا عن أصحابه أن مقدار ركعة قبل طلوع الشمس عندهم وقت في صلاة الصبح لأصحاب الضرورات ، وأن من أدرك منهم ذلك ، لزمته الصلاة ، لقوله - صلى الله عليه وسلم - : من أدرك ركعة من الصبح قبل أن تطلع الشمس ، فقد أدرك الصبح .

وقيل : إن هذا الحديث أيضا دليل على أن أول الوقت وآخره سواء ، وبهذا نزع من قال : ( أن لا ) فضل لأول الوقت على آخره ، لقوله - صلى الله عليه وسلم - : ما بين هذين وقت . قال بذلك قوم من أهل الظاهر ، وخالفهم جماعة من الفقهاء ، ونزعوا بأشياء ، سنذكر بعضها في هذا الباب إن شاء الله .

والذي في قوله : ما بين هذين وقت مما لا يحتمل تأويلا ، سعة الوقت ، وبقي التفضيل بين أوله وآخره موقوفا على الدليل .

واختلف الفقهاء في الأفضل في وقت صلاة الصبح ، فذهب العراقيون ; أبو حنيفة وأصحابه ، والثوري ، والحسن بن حي ، وغيرهم ، إلى أن الإسفار بها أفضل من التغليس في الأزمنة كلها ; [ ص: 338 ] في الشتاء والصيف ، واحتجوا بحديث رافع بن خديج ، وما كان مثله عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في ذلك . وحديث رافع يدور على عاصم بن عمر بن قتادة ، وليس بالقوي ، رواه عنه محمد بن إسحاق ، وابن عجلان ، وغيرهما .

أخبرنا أحمد بن قاسم ( بن عبد الرحمن قراءة مني عليه ) ، أن قاسم بن أصبغ حدثهم ، قال : حدثنا الحرث بن أبي أسامة ، قال : حدثنا أبو نعيم ، قال : حدثنا سفيان ، عن ابن عجلان ، عن عاصم بن عمر بن قتادة ، عن محمود بن لبيد ، عن رافع بن خديج ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أسفروا بالفجر ، فكلما أسفرتم فهو أعظم للأجر . وهذا أحسن أسانيد هذا الحديث .

وقد رواه بقية بن الوليد ، عن شعبة عن داود البصري ، عن [ ص: 339 ] زيد بن أسلم ، عن محمود بن لبيد ، عن رافع بن خديج ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وهذا إسناد ضعيف ; لأن بقية ضعيف ، وزيد بن أسلم لم يسمع من محمود بن لبيد .

واحتجوا أيضا بأن علي بن أبي طالب ، وعبد الله بن مسعود ، كانا يسفران بصلاة الصبح .

وكان مالك ، والليث بن سعد ، والأوزاعي ، والشافعي ، يذهبون إلى أن الصبح أفضل ; وهو قول أحمد بن حنبل ، وداود بن علي ، وأبي جعفر الطبري .

والحجة لهم في ذلك ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي الصبح فينصرف النساء ( متلففات بمروطهن ) ، ما يعرفن من الغلس ، وأنه - صلى الله عليه وسلم - لم يزل يغلس بالصبح إلى أن توفي صلوات الله عليه .

حدثنا عبد الله بن محمد ، حدثنا عبد الحميد بن أحمد ، حدثنا الخضر بن داود ، حدثنا أبو بكر الأثرم ، قال : قلت لأحمد بن حنبل : ما معنى قوله : أسفروا بالفجر ؟ فقال : إذا بان الفجر فقد أسفر ; قلت : كان أبو نعيم يقول في حديث رافع بن خديج : أسفروا [ ص: 340 ] بالفجر ، فكلما أسفرتم بها فهو أعظم للأجر ، فقال : نعم كله سواء ; إنما هو إذا تبين الفجر فقد أسفر .

قال أبو بكر : يقال في المرأة إذا كانت متنقبة فكشفت عن وجهها : قد أسفرت عن وجهها ، فإنما هو أن ينكشف الفجر ، وهكذا بلغني عن أبي عبد الله ; يعني أحمد بن حنبل - رحمه الله - .

قال أبو عمر :

صح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وأبي بكر ، وعمر ، وعثمان ، أنهم كانوا يغلسون ; ومحال أن يتركوا الأفضل ، ويأتوا الدون ، وهم النهاية في إتيان الفضائل ; ولا معنى لقول من احتج بأنه - صلى الله عليه وسلم - لم يخير بين أمرين قط ، إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثما ; لأنه معلوم أن الإسفار أيسر على الناس من التغليس ، وقد اختار التغليس لفضله .

وجاء عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : أول الوقت رضوان الله ، وآخره عفو الله . فكان العفو إباحة ، والفضل كله في رضوان الله .

وسئل عليه السلام عن أفضل الأعمال وأحبها إلى الله ؟ فقال : الصلاة في أول وقتها .

[ ص: 341 ] حدثنا سعيد بن نصر ، قال : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا إسماعيل بن إسحاق ( القاضي ) ، قال : حدثنا عبد الواحد بن غياث ، قال : حدثنا قزعة بن سويد ، قال : حدثنا عبد الله بن عمر ، عن القاسم بن غنام ، عن بعض أمهاته ، عن أم فروة ، قالت : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، يقول : إن أحب الأعمال إلى الله عز وجل الصلاة لأول وقتها . وهذا أحسن أسانيد هذا الحديث . وقد روي عن ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - معناه ، ولا يصح إسناده .

وأصح دليل على تفضيل أول الوقت مما قد نزع به ابن خواز بنداد وغيره ، قوله عز وجل : فاستبقوا الخيرات .

[ ص: 342 ] فوجبت المسابقة إليها ، وتعجيلها ، وجوب ندب وفضل ; للدلائل القائمة على جواز تأخيرها .

ومما يدل على أن أول الوقت أفضل أيضا ما حدثناه أحمد بن قاسم بن عيسى ، قال : حدثنا عبيد الله بن محمد بن حبابة البغدادي ( ببغداد ) ، قال : حدثنا عبد الله بن محمد بن عبد العزيز البغوي ، قال : حدثني جدي ، قال : حدثنا يعقوب بن الوليد ، عن ابن أبي ذئب ، عن المقبري ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إن أحدكم ليصلي الصلاة ( وما فاته وقتها ) ، ولما فاته من وقتها أعظم أو أفضل من أهله وماله .

وقوله في هذا الحديث : ولما فاته من وقتها ، دليل على أنه لم يفته وقتها كله - والله أعلم - ; لأن من حقها التبعيض .

ولا خلاف بين المسلمين أن من صلى صلاته في شيء من وقتها ، أنه غير حرج إذا أدرك وقتها ; ففي هذا ما يغني عن الإكثار ، ولكنهم اختلفوا في الأفضل من ذلك على ما ذكرناه ، ومعلوم أن من بدر إلى أداء فرضه في أول وقته ، كان قد سلم مما يلحق المتواني من العوارض ، ولم تلحقه ملامة ; وشكر له بداره إلى طاعة ربه .

وقد أجمع المسلمون على تفضيل تعجيل المغرب ; من قال : إن وقتها ممدود إلى مغيب الشفق ، ومن قال : إنه ليس لها إلا وقت واحد ، كلهم يرى تعجيلها أفضل .

[ ص: 343 ] وأما الصبح ، فكان أبو بكر الصديق ، وعمر الفاروق ، يغلسان بها ; فأين المذهب عنهما ؟

وبذلك كتب عمر إلى عماله : أن صلوا الصبح ، والنجوم بادية مشتبكة . وعلى تفضيل أوائل الأوقات جمهور العلماء ، وأكثر أئمة الفتوى .

وسيأتي شيء من هذا ( المعنى في ) الباب الذي بعد هذا إن شاء الله تعالى ، وبالله التوفيق .




الخدمات العلمية