الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
1579 مالك ، عن ابن شهاب ، عن صفوان بن عبد الله بن صفوان بن أمية : أن صفوان بن أمية قيل له : إنه من لم يهاجر هلك ، فقدم صفوان بن أمية المدينة فنام في المسجد ، وتوسد رداءه ، فجاءه سارق فأخذ رداءه ، فأخذ صفوان السارق فجاء به إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأمر به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن تقطع يده فقال صفوان : إني لم أرد هذا يا رسول الله ، هو عليه صدقة فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : فهلا [ ص: 216 ] قبل أن تأتيني به

التالي السابق


هكذا روى هذا الحديث جمهور أصحاب مالك مرسلا ، ورواه أبو عاصم النبيل ، عن مالك ، عن الزهري ، عن صفوان بن عبد الله بن صفوان ، عن جده قال : قيل لصفوان : من لم يهاجر هلك ، وساق الحديث على ما في الموطأ ، ولم يقل أحد فيما علمت في هذا الحديث ، عن صفوان بن عبد الله بن صفوان ، عن جده غير أبي عاصم .

ورواه شبابة بن سوار ، عن مالك ، عن الزهري ، عن عبد الله بن صفوان ، عن أبيه : أن صفوان إلخ .

حدثنا سعيد بن نصر قال : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا ابن وضاح قال : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال : حدثنا شبابة قال : حدثنا مالك بن أنس ، عن الزهري ، عن عبد الله بن صفوان ، عن أبيه : أن صفوان قيل له : من لم يهاجر هلك ، فدعا براحلته فركبها حتى أتى المدينة فسأل النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : قد قيل لي من لم يهاجر هلك فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : ذهبت الهجرة فارجع إلى بطحاء مكة ، فنام صفوان في المسجد ، وتوسد رداءه ، فأخذ من تحت رأسه ، فجاء بسارقه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فأمر به أن يقطع فقال صفوان بن أمية : يا رسول الله إني لم أرد هذا ردائي عليه صدقة .

فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أفلا قبل أن تأتيني به
.

ورواه أبو علقمة الفروي ، عن مالك كما رواه شبابة بن سوار عنه بإسناده سواء .

حدثنا بحديث شبابة بن سوار ، عن مالك ، خلف بن قاسم .

حدثني أبو عيسى العباس بن أحمد الأزدي ، وأبو محمد الحسن [ ص: 217 ] بن رشيق ، ونصر بن علي البزار قالوا : حدثنا أبو العلاء محمد بن أحمد بن جعفر الكوفي قال : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا شبابة بن سوار المدائني حدثنا مالك بن أنس ، عن ابن شهاب فذكره ، وقد ذكر الطحاوي حديث شبابة ، عن محمد بن أحمد بن جعفر ، عن أبي بكر بن أبي شيبة ، عن شبابة ، عن مالك ، عن ابن شهاب ، عن عبد الله بن صفوان ، عن أبيه فذكره .

هكذا ابن شهاب ، عن عبد الله بن صفوان ، عن أبيه .

وقال الطحاوي : جائز أن يسمع ابن شهاب هذا الحديث من عبد الله بن صفوان بن أمية ، عن أبيه ، ومن صفوان بن عبد الله ، عن جده ، وذلك غير مستنكر لابن شهاب في أحاديثه عن غير هذين ممن يحدث عنه .

وغير مستنكر سماعه من عبد الله بن صفوان ; لأن عبد الله بن صفوان قتل مع عبد الله بن الزبير في اليوم الذي قتل فيه من سنة ثلاث وسبعين ، قال : والزهري يومئذ سنه أربع عشرة سنة ; لأن مولده كان في السنة التي قتل فيها الحسين بن علي رضي الله عنه ، وهي سنة إحدى وستين قال : فإن قال قائل : قد يجوز أن يكون عبد الله بن صفوان هذا هو عبد الله بن صفوان بن عبد الله قيل له : ما نعلم لصفوان بن عبد الله ابنا أخذ عنه شيئا من العلم ، وإنما عبد الله بن صفوان هذا هو عبد الله بن صفوان بن أمية .

[ ص: 218 ] قال أبو عمر :

قد روى هذا الحديث عطاء ، وطاوس ، عن صفوان بن أمية ، ورواه حماد بن سلمة ، عن قتادة ، وقيس بن سعد ، وحبيب المعلم ، وحميد بن قيس كلهم ، عن عطاء .

ورواه حماد أيضا ، عن عمرو بن دينار ، عن طاوس جميعا ، عن صفوان بن أمية : أنه كان نائما في المسجد تحت رأسه خميصة ، فجاء لص فانتزعها من تحت رأسه ، وذكر الحديث .

ولم يسمعه عطاء من صفوان بن أمية ; لأن شعبة وسعد بن أبي عروبة روياه عن قتادة ، عن عطاء ، عن طارق بن المرقع ، عن صفوان بن أمية : أن رجلا سرق برده فرفعه ، إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فأمر بقطعه ، فقال : يا رسول الله قد تجاوزت عنه قال : أفلا قبل أن تأتيني به أبا وهب فقطعه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .

أخبرناه عبد الله بن محمد بن يحيى ، وعبد الرحمن بن عبد الله بن خالد قالا : حدثنا أحمد بن جعفر بن مالك قال : حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل قال : حدثنا أبي قال : حدثنا محمد بن جعفر قال : حدثنا شعبة ، عن قتادة ، عن عطاء ، عن طارق بن المرقع ، عن صفوان بن أمية فذكره حرفا بحرف .

وذكره النسائي ، عن عبد الله بن أحمد بن حنبل بإسناده مثله سواء .

[ ص: 219 ] وأخبرنا قاسم بن محمد قال : حدثنا خالد بن سعد قال : حدثنا أحمد بن عمرو قال : حدثنا محمد بن سنجر قال : حدثنا مسلم بن إبراهيم قال : حدثنا وهب ، عن عطاء ، عن ابن طاوس ، عن أبيه ، عن صفوان أنه قيل له : إنه لا يدخل الجنة إلا من قد هاجر ، فقال لا أترك منزلي حتى آتي النبي - صلى الله عليه وسلم - فأتاه برجل فقال : يا رسول الله إن هذا سرق خميصة لي ، والرجل معه ، فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بقطعه فقال : يا رسول الله إني قد وهبتها له قال : فهلا قبل أن تأتيني به قال : فقلت يا رسول الله إنهم يقولون : لا يدخل الجنة إلا من قد هاجر فقال لا هجرة بعد فتح مكة ، ولكن جهاد ونية ، وإذا استنفرتم فانفروا .

وطاوس سماعه من صفوان بن أمية ممكن ; لأنه أدرك زمن عثمان .

وذكر يحيى القطان ، عن زهير ، عن ليث ، عن طاوس قال : أدركت سبعين شيخا من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .

وقد قيل : إن طاوسا توفي ، وهو ابن بضع وسبعين سنة ، في سنة ست ومائة .

قال : فإذا كان سنه هذا فغير ممكن سماعه من صفوان بن أمية ; لأن صفوان توفي سنة ست وثلاثين .

وقيل : كانت وفاته بمكة عند خروج الناس إلى الجمل .

[ ص: 220 ] وقد روي هذا الحديث ، عن طاوس ، وعكرمة ، عن ابن عباس ، ذكره البزار من حديث الأشعث بن سوار ، عن عكرمة ، عن ابن عباس .

ومن حديث زكرياء بن إسحاق ، عن عمرو بن دينار ، عن طاوس ، عن ابن عباس ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وهذا لفظ حديث الأشعث ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : كان صفوان بن أمية نائما في المسجد ، فجاءه رجل ، فأخذ رداءه من تحت رأسه فاتبعه فأدركه ، فأتى به النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : هذا سرق ردائي من تحت رأسي ، فأمر به أن يقطع فقال : إن ردائي لم يبلغ أن يقطع فيه هذا ، قال : أفلا قبل أن تأتيني به .

قال البزار : ورواه جماعة ، عن عكرمة مرسلا .

وحدثنا محمد بن إبراهيم قال : حدثنا محمد بن معاوية قال : حدثنا أحمد بن شعيب قال : حدثنا أحمد بن عثمان بن حكيم قال : حدثنا عمرو قال : حدثنا أسباط ، عن سماك ، عن حميد ابن أخت صفوان ، عن صفوان بن أمية قال : كنت نائما في المسجد على خميصة لي ثمنها ثلاثون درهما ، فجاء رجل فاختلسها مني ، فأخذ الرجل فأتي به النبي - صلى الله عليه وسلم - فأمر به أن يقطع ، فأتيته فقلت : تقطعه من أجل ثلاثين درهما ، أنا أمتعه ثمنها قال : فهلا كان قبل أن تأتيني به .

[ ص: 221 ] وفي حديث مالك من الفقه ، والمعاني : أن الهجرة كانت قبل الفتح مفترضة .

وفيه إباحة النوم في المسجد .

وفيه توطي الثياب وتوسدها .

وفيه أن ما جعله الإنسان تحت رأسه فهو حرز له ، وما سرق من حرز فيه القطع .

واختلف العلماء في السارق من حرز ، فأما فقهاء الأمصار بالحجاز ، والعراق ، والشام ، فإنهم اعتبروا جميعا الحرز في وجوب القطع باتفاق منهم على ذلك .

وقالوا : من سرق من غير حرز فلا قطع عليه ، بلغ المقدار أو زاد ، والحجة لما ذهب إليه الفقهاء في ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم - : لا قطع في حريسة جبل حتى يأويها المراح .

وأجمعوا أن السارق من مال المضاربة والوديعة لا قطع عليه .

وقال - صلى الله عليه وسلم - : لا قطع على خائن ولا مختلس .

وأجمعوا على ذلك ، وفي إجماعهم على أن لا قطع على خائن ولا مختلس دليل على مراعاة الحرز .

وقال أهل الظاهر ، وبعض أهل الحديث ، وأحمد بن حنبل في رواية عنه : كل سارق يقطع ، سرق من حرز ، وغير حرز لأن الله أمر بقطع السارق أمرا مطلقا ، وبين النبي - صلى الله عليه وسلم - المقدار ، ولم يذكر الحرز .

[ ص: 222 ] قال أبو عمر :

الحجة عليهم ما ذكرنا ، وبالله توفيقنا .

واختلف الفقهاء في أبواب من معاني الحرز يطول ذكرها ، فجملة قول مالك ، والشافعي ، وأبي حنيفة ، والثوري ، والأوزاعي ، وأصحابهم أن السارق من غير حرز لا قطع عليه .

وجملة قول مالك ، والشافعي في الحرز : أن الحرز كل ما يحرز به الناس أموالهم إذا أرادوا التحفظ بها ، وهو يختلف باختلاف الشيء المحروز ، واختلاف المواضع ، فإذا ضم المتاع في السوق إلى موضع ، وقعد عليه صاحبه فهو حرز .

وكذلك إذا جعل في ظرف فأخرج منه ، وعليه من يحرزه .

أو كانت إبل قطر بعضها إلى بعض ، أو أنيخت في صحراء حيث ينظر إليها ، أو كانت غنما في مراحها ، أو متاعا في فسطاط ، أو بيتا مغلقا على شيء أو مقفولا عليه .

وكل ما تنسبه العامة إلى أنه حرز على اختلاف أزمانها وأحوالها .

قال الشافعي : ورداء صفوان كان محرزا باضطجاعه عليه ، فقطع النبي - صلى الله عليه وسلم - سارقه .

قال : ويقطع النباش إذا أخرج الكفن من جميع القبر ; لأن هذا حرز مثله .

مذهب المالكيين ، والشافعيين في هذا الباب متقارب جدا .

ولا سبيل إلى إيراد مسائل السرقة على اختلاف أنواع الحرز ، وقد ذكرنا هاهنا جملا تكفي ، ومن أراد الوقوف على الفروع نظر في كتب الفقهاء ، وبان له ما ذكرناه ، وبالله التوفيق .

[ ص: 223 ] واختلفوا أيضا في السارق يرفع إلى الحاكم سرقته بيده ، فيحكم عليه بالقطع لثبوت سرقته بإقراره أو ببينة عدول قامت عليه ، فيهب له المسروق منه ما سرقه ، هل يقطع أم لا ؟ فقال مالك ، وأهل المدينة ، والشافعي ، وأهل الحجاز : يقطع لأن الهبة إنما وقعت بعد وجوب الحد فلا يسقط ما قد وجب لله .

كما أنه لو غصب جارية ثم نكحها قبل أن يقام عليه الحد لم يسقط ذلك الحد عنه .

قال الطحاوي : ويختلفون في هذه المسألة لو كانت الهبة قبل أن يؤتى بالسارق إلى الإمام ، فقال أهل الحجاز منهم مالك ، والشافعي : يقطع ، ووافقهم على ذلك ابن أبي ليلى .

وقال أبو يوسف : في هذا لا يقطع .

وأما أبو حنيفة ، ومحمد بن الحسن فقالا : لا يقطع في شيء من ذلك ، مع وقوع مالكه على السرقة قبل أن يرفع إلى الإمام ، وبعد أن يرفع إليه .

وحجة أبي يوسف قوله - صلى الله عليه وسلم - : فهلا قبل أن تأتيني به ، وهذا يدل على أنه لو وهب للسارق رداءه قبل أن يأتيه به لما قطع - والله أعلم - .

قال أبو عمر :

الحجة قائمة لمالك والشافعي على أبي حنيفة بالحديث المذكور في هذا الباب ; لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قطع يد السارق الذي سرق ثوب صفوان بن أمية بعد أن وهبه له ، وقال : هلا قبل أن تأتيني به .

[ ص: 224 ] ومعنى قوله عندهم : فهلا قبل أن تأتيني به هلا كان ما أردت من العفو عنه قبل أن تأتيني به ; فإن الحدود إذا لم أوت بها ، ولم أعرفها لم أقمها ، وإذا أتتني لم يجز العفو عنها ، ولا لغيري ; هذا معناه - والله أعلم - .

وقد احتج الشافعي بالزاني توهب له الأمة التي زنى بها ، أو يشتريها ، أن ملكه الطارئ لا يزيل الحد عنه ، فكذلك السرقة .

ومن حجة أبي حنيفة في قوله متى وهب السرقة صاحبها للسارق سقط الحد قوله - صلى الله عليه وسلم - : تعافوا عن الحدود بينكم فما بلغني من حد فقد وجب .

قال : فهذا الحد قد عفي عنه بالهبة ، وقد حصلت ملكا للسارق قبل أن يبلغ السلطان ، فلم يبلغ الحد السلطان إلا وهو معفو عنه .

قال : وما حصل ملكا للسارق استحال أن يقطع فيه ; لأنه إنما يقطع في ملك غيره لا في ملك نفسه .

ومن حجتهم أيضا أن الطارئ من الشبهة في الحدود بمنزلة ما هو موجود في الحال قياسا على الشهادات ، وبالله التوفيق .

قال أبو عمر :

لا أعلم بين أهل العلم اختلافا في الحدود إذا بلغت إلى السلطان ، لم يكن فيها عفو لا له ولا لغيره ، وجائز للناس أن يتعافوا الحدود ما بينهم ما لم يبلغ السلطان ، وذلك محمود عندهم [ ص: 225 ] وفي هذا كله دليل على أن لصاحب السرقة في ذلك ما ليس للسلطان ، وذلك ما لم يبلغ السلطان ، فإذا بلغ السارق إلى السلطان لم يكن للمسروق منه شيء من حكمه في عفو ولا غيره ، لأنه لا يتبعه بما سرق منه إذا وهبه له .

ألا ترى أنهم قد أجمعوا على أن السارق لو أقر بسرقة عند الإمام يجب في مثلها القطع سرقها من رجل غائب أنه يقطع وإن لم يحضر رب السرقة ، ولو كان لرب السرقة في ذلك مقال لم يقطع حتى يحضر فيعرف ما عنده فيه .

وقد اختلفوا في السارق تدعى عليه السرقة في ثوب هو بيده يدعيه لنفسه ، وصاحب السرقة غائب .

فقال أبو حنيفة ، والشافعي ، وأصحابهما : لا يخاصمه في ذلك أحد إلا رب الثوب ، ولا يسمع من غيره في ذلك بينة ، ولا خصومة في ذلك بينه وبين من يدعي عليه حتى يأتي رب الثوب أو وكيله في ذلك .

وقال ابن أبي ليلى ، ومالك : كل من خاصمه في ذلك من الناس كان خصما له ، وسمعت بينته ، فإن قبلت قطع ، وإن لم يأت بمدفع ، وهذه المسائل كلها في معنى الحديث فلذلك ذكرناها وبالله التوفيق .

[ ص: 226 ]



الخدمات العلمية