الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
844 [ ص: 123 ] حديث ثاني عشر من مراسيل ابن شهاب .

مالك عن ابن شهاب : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعث عبد الله بن حذافة أيام منى يطوف يقول : إنما هي أيام أكل وشرب وذكر لله .

التالي السابق


قال أبو عمر : قوله : " أيام منى " يريد الأيام التي يقيم الناس فيها بمنى في حجهم ، وهي ثلاثة أيام بعد يوم النحر ، إلا لمن تعجل في يومين منها وهي أيام التشريق ، وهي الأيام المعدودات التي أمر الله عباده المؤمنين بذكر الله فيها ، ومعنى ذلك عند أهل العلم ذكر الله مع رمي الجمار هناك ، وفي سائر الأمصار تكبير أدبار الصلوات والله أعلم ، وسنبين ذلك ( كله ) في موضعه من هذا الكتاب إن شاء الله .

ويقال : سميت منى لاجتماع الناس بها ، والعرب تقول لكل مكان يجتمع الناس فيه منى ، لما يمنى فيه من الدماء .

[ ص: 124 ] هكذا هو في الموطأ عند جميع رواته عن مالك ، واختلف فيه أصحاب ابن شهاب عليه ، فرواه معمر عن الزهري ، عن مسعود بن الحكم الأنصاري ، عن رجل من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - عبد الله بن حذافة السهمي أن يركب راحلته أيام منى فيصيح في الناس لا يصومن أحد ، فإنها أيام أكل وشرب قال : فلقد رأيته على راحلته ينادي بذلك .

ذكره عبد الرزاق عن معمر ، ورواه صالح بن أبي الأخضر عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة .

حدثناه عبد الوارث بن سفيان قال : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا محمد بن الجهم قال : حدثنا روح بن عبادة قال : حدثنا صالح قال : حدثنا ابن شهاب عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعث عبد الله بن حذافة يطوف في منى لا تصوموا هذه الأيام فإنها أيام أكل وشرب وذكر لله .

ورواه يونس بن يزيد وابن أبي ذئب وعبد الله بن عمر العمري عن الزهري : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعث عبد الله بن حذافة مرسلا هكذا ، كما رواه مالك سواء ، وهو الصحيح في حديث ابن شهاب هذا والله أعلم .

[ ص: 125 ] وقد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - النهي عن صيام أيام منى من حديث علي بن أبي طالب ، ومن حديث عمرو بن العاص ، ومن حديث بشر بن سحيم وعقبة بن عامر وأنس بن مالك وأبي هريرة وامرأة من الأنصار وجماعة ، وإنما ذكرنا هاهنا حديث ابن شهاب خاصة ، فربما أردفناه بما خف علينا ونشطنا إليه من غير رواية ابن شهاب .

أخبرنا يعيش بن سعيد وعبد الوارث بن سفيان قالا : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا مضر بن محمد قال : حدثنا يحيى بن معين قال : حدثنا هشيم قال : أخبرنا عمر بن أبي سلمة عن أبيه عن أبي هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أيام التشريق أيام طعم وذكر لله .

ورواه أبو عوانة عن عمر بن أبي سلمة بإسناده مثله سواء .

وحدثنا عبد الوارث قال : حدثنا محمد بن الجهم قال : حدثنا روح بن عبادة قال : حدثنا الربيع بن صبيح ومرزوق أبو عبد الله الشامي قالا : حدثنا يزيد الرقاشي عن أنس [ ص: 126 ] بن مالك قال : نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن صوم أيام التشريق .

وحدثنا أحمد بن محمد قال : حدثنا وهب بن مسرة قال : حدثنا محمد بن وضاح قال : حدثنا موسى بن معاوية وأبو بكر بن أبي شيبة قالا : حدثنا وكيع بن الجراح ، عن موسى بن علي بن رباح ، عن أبيه ، عن عقبة بن عامر ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : إن يوم عرفة ويوم النحر وأيام التشريق عندنا أهل الإسلام وهي أيام أكل وشرب .

قال أبو عمر : هذا حديث في جمع يوم عرفة مع أيام التشريق في النهي عن صيامها ، لا يأتي إلا بهذا الإسناد ، وسيأتي القول في صوم يوم عرفة ، وما جاء في ذلك عن السلف في باب أبي النضر ، وهو الحديث الثالث لمالك عن أبي النضر في كتابنا هذا ، ويأتي في الحديث الخامس عشر عن أبي النضر القول في معنى أيام منى ; لأن مالكا روى عن أبي النضر سليمان بن يسار : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن صيام أيام منى ، فذكرنا هنالك الآثار أيضا في ذلك ، وذكرنا ثم ما بلغنا [ ص: 127 ] عن الفقهاء وأهل اللغة في تعيين أيام منى وعددها واشتقاق معناها ، وذكرنا معنى أيام التشريق في باب يزيد بن الهادي ، كل ذلك ممهدا مبسوطا - إن شاء الله ، ونذكر هاهنا في باب يزيد بن الهادي أيضا اختلاف العلماء في صوم أيام التشريق ، وبالله العون والتوفيق .

وأما صيام أيام التشريق فلا خلاف بين فقهاء الأمصار فيما علمت أنه لا يجوز لأحد صومها تطوعا .

وقد روي عن الزبير وابن عمر والأسود بن يزيد وأبي طلحة ما يدل على أنهم كانوا يصومون أيام التشريق تطوعا ، وفي أسانيد أخبارهم تلك ضعف ، وجمهور العلماء من الفقهاء وأهل الحديث على كراهية ذلك .

ذكر ابن عبد الحكيم عن مالك فقال : لا بأس بسرد الصوم إذا أفطر يوم الفطر ويوم النحر وأيام التشريق لنهي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن صيامها ، وقال في موضع آخر : ولا يتطوع أحد بصيام أيام منى لنهي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن صيام أيام منى .

واختلفوا في المتمتع إذا لم يجد الهدي ولم يكن صام الثلاثة الأيام في الحج قبل يوم النحر ، فقال الشافعي والكوفيون : [ ص: 128 ] لا يصوم المتمتع ولا غيره أيام التشريق ، ولا يصومها أحد بحال متطوع ولا غير متطوع ، وإن صامها المتمتع لم تجز عنه . وقال المزني : وقد كان الشافعي قال مرة : إن صامها المتمتع أجزأت عنه ، ثم رجع عن ذلك .

قال أبو عمر : قوله بالعراق إن المتمتع لم يصم الثلاثة أيام في الحج ما بين أن يهل بالحج إلى يوم عرفة صام أيام التشريق ، وهو قول مالك والأوزاعي وإسحاق .

وروي ذلك عن ابن عمر وعائشة وعروة وعبيد بن عمير والزهري ، وقال أحمد بن حنبل : أرجو أن لا يكون به بأس أن يصومها المتمتع إذا لم يكن صام قبلها ، قال : وربما جبنت عنه .

وقال الشافعي بمصر : لا يصوم أحد أيام منى لا متمتع ولا غيره ، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه والثوري ، وروي ذلك عن علي بن أبي طالب ، قال علي : يصوم بعد أيام التشريق . وبه قال الحسن وعطاء ، وروي عن ابن عباس وطاوس ومجاهد وسعيد بن جبير : إذا فات المتمتع الصوم في العشر لم يجزه إلا الهدي .

وقال ابن القاسم عن مالك : لا ينبغي لأحد أن يصوم أيام الذبح الثلاثة ، ولا يقضي فيها صياما واجبا من نذر ولا قضاء [ ص: 129 ] رمضان ، ولا يصومها إلا المتمتع وحده الذي لم يصم ولم يجد الهدي . قال : وأما آخر أيام التشريق فيصام إن نذره رجل أو نذر صيام ذي الحجة ، فأما قضاء رمضان أو غيره ، فلا يفعل إلا أن يكون قد صام قبل ذلك صياما متتابعا فمرض ثم صح ، وقوي على الصيام في هذا اليوم ، فيبني على الصيام الذي كان صامه في الظهار أو قتل النفس ، وأما قضاء رمضان خاصة فإنه لا يصومه فيه .

قال أبو عمر : لا أعلم أحدا من أهل العلم غير مالك وأصحابه فرقوا بين اليومين الأولين من أيام التشريق في الصيام خاصة وبين اليوم الثالث منها ، وجمهور علماء من أهل الرأي والأثر لا يجيزون صوم يوم الثالث من أيام التشريق في قضاء رمضان ، ولا في نذر ، ولا في غير ذلك من وجوه الصيام إلا للمتمتع وحده ، فإنهم اختلفوا في ذلك ولم يختلفوا فيما ذكرت لك لنهي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن صيام أيام منى ، وعن صيام أيام التشريق وهي أيام منى ، وأقل ما يقع عليه أيام ثلاثة ، وليس في حديث ذكر صيام أيام الذبح ، إنما ذلك النهي عن صيام أيام التشريق .

ولا خلاف بين العلماء أن أيام التشريق هي الأيام المعدودات ، وهي أيام منى ، وهي ثلاثة أيام بعد يوم النحر ، كل هذه الأسماء واقعة على هذه الأيام ولم يختلفوا في ذلك .

[ ص: 130 ] واختلف العلماء في الأيام المعلومات ، فقال مالك وأصحابه : هي يوم ( النحر ) ويومان بعده ، وهي أيام الذبح عنده ، وهو قول ابن عمر روى نافع ، عن ابن عمر قال : المعلومات يوم النحر ويومان بعده من أيام التشريق ، والأيام المعدودات الثلاثة ليس منها يوم النحر ، وهذا كله قول مالك سواء ، وقول أبي يوسف قال أبو يوسف : إلى هذا أذهب لقول الله - عز وجل - : ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام فهي أيام الذبح يوم النحر ويومان بعده على ما قال ابن عمر .

وقال أبو حنيفة : والشافعي الأيام المعلومات أيام العشر ، والمعدودات أيام التشريق ، وهو قول عبد الله بن عباس ، وبه قال إبراهيم النخعي وغيره ، وإليه ذهب الطبري .

وأما اختلاف العلماء في أيام الذبح ، فقال مالك وأبو حنيفة والثوري وأحمد بن حنبل وأصحابهم : أيام الذبح يوم النحر ويومان بعده .

وروي ذلك عن علي بن أبي طالب وابن عمر وابن عباس ، وقال الأوزاعي والشافعي : أيام التشريق كلها الثلاثة أيام أضحى ، والأضحى عندهما أربعة أيام : يوم النحر ، وثلاثة أيام [ ص: 131 ] التشريق بعده ، وهو قول الحسن البصري وعطاء بن أبي رباح ، وروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : كل فجاج مكة منحر ، وكل أيام التشريق ذبح ، وهو حديث في إسناده اضطراب ، وسنزيد هذه المسألة في أيام الذبح خاصة بيانا في باب يحيى بن سعيد إن شاء الله .




الخدمات العلمية