الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
1842 [ ص: 234 ] [ ص: 235 ] حديث ثان لمحمد بن المنكدر .

مالك عن محمد بن المنكدر ، عن أميمة بنت رقيقة قالت : أتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في نسوة بايعنه على الإسلام فقلنا : يا رسول الله ، نبايعك على أن لا نشرك بالله شيئا ، ولا نسرق ، ولا نزني ، ولا نقتل أولادنا ، ولا نأتي ببهتان نفتريه بين أيدينا وأرجلنا ، ولا نعصيك في معروف ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : فيما استطعتن وأطقتن ، قالت : فقلنا : الله ورسوله أرحم بنا من أنفسنا ، هلم نبايعك [ ص: 236 ] يا رسول الله ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إني لا أصافح النساء ، إنما قولي لمائة امرأة كقولي لامرأة واحدة ، أو مثل قولي لامرأة واحدة .

التالي السابق


قال أبو عمر : لا خلاف عن مالك في إسناد هذا الحديث ومتنه عند أحد من رواته عنه فيما علمت ، وهكذا رواه الثوري عن محمد بن المنكدر سمع أميمة بنت رقيقة , مثل حديث مالك ( هذا ) ، سواء إلى آخره ، إلا أنه قال بعد قوله : ( الله ) أرحم بنا من أنفسنا ، قالت : فقلنا يا رسول الله ، ألا تصافحنا ، فقال : إني لا أصافح النساء ، ثم ذكره سواء . ورواه ابن عيينة عن محمد بن المنكدر مختصرا .

في هذا الحديث من الفقه : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يبايع الناس على الإسلام وشروطه وشرائعه ومعالمه على حسب ما ذكرنا في الباب قبل هذا ، وهذه البيعة على حسب ما نص الله في كتابه ، وأنه لا يكلف الله نفسا إلا وسعها ، وكل ما كلفهم وافترض عليهم ففي وسعهم وطاقتهم ذلك كله وأكثر منه ، وأما قول رسول الله [ ص: 237 ] - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث : فيما استطعتن وأطقتن ، فإنما ذلك مردود إلى قولها : " ولا نعصيك في معروف " ، فكل معروف يأمر به يلزمهن إذا أطقن القيام به .

وقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : إذا أمرتكم بشيء فخذوا منه ما استطعتم ، وهذا كله داخل تحت قوله - عز وجل - : لا يكلف الله نفسا إلا وسعها ، وأما المعروف في هذا الحديث فجاء بلفظ النكرة ، فكل ما وقع عليه اسم معروف لزمهم ، وكان - صلى الله عليه وسلم - لا يأمر إلا بمعروف ، وقد قيل : إن المعروف هاهنا أن لا ينحن على موتاهن ، ولا يخلون رجل بامرأة .

ذكر معمر عن قتادة قال : أخذ عليهن أن لا ينحن ، ولا يخلون بحديث الرجال إلا مع ذي محرم .

أخبرنا عبد الوارث بن سفيان قراءة مني عليه أن قاسم بن أصبغ حدثهم قال : حدثنا ابن وضاح قال : حدثنا موسى بن معاوية قال وكيع عن سفيان ، عن منصور ، عن سالم [ ص: 238 ] في قوله : ولا يعصينك في معروف قال : النوح .

قال : وحدثنا وكيع عن يزيد مولى الصهباء عن شهر بن حوشب ، عن أم سلمة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : النوح .

قال : وحدثنا وكيع عن سفيان ، عن زيد بن أسلم ولا يعصينك في معروف قال : لا ينشرن شعرا ، ولا يخدشن وجها ، ولا يدعون ويلا .

قال : وحدثنا وكيع عن أبي جعفر ، عن الربيع ، عن أبي العالية ، في قوله : ولا يعصينك في معروف قال : في كل شيء وافق طاعة . ولم ير لنبيه - عليه - السلام أن يطاع في معصية .

[ ص: 239 ] وقرأت على أحمد بن عبد الله بن محمد ، أن أبا محمد الحسن بن إسماعيل حدثهم ، قال : حدثنا عبد الملك بن بحر ، حدثنا محمد بن إسماعيل بن سالم ، قال : حدثنا سنيد بن داود ، قال : حدثنا حجاج بن محمد ، عن أبي جعفر ، عن أبي العالية ، قال : في كل شيء وافق الطاعة ، فلم يرض لنبيه - صلى الله عليه وسلم - أن يطاع في معصية فكيف بغيره ؟ !

قال سنيد : قال حدثنا حجاج ، عن ابن جريج ، عن عطاء الخراساني ، عن ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - اشترط عليهن فيما يمتحنهن به نياحة الجاهلية أن لا ينحن بها ، ولا يخلون بالرجال في البيوت .

قال : وحدثنا حجاج ، عن ابن جريج عن مجاهد في قوله : ولا يعصينك في معروف قال : لا يخلو الرجل بالمرأة .

قال : حدثنا حجاج ، عن ابن جريج ، عن الزهري ، عن عروة ، عن عائشة قالت : كان المومنات إذا هاجرن إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يمتحنهن بهذه الآية ياأيها النبي إذا جاءك المؤمنات يبايعنك على أن لا يشركن بالله شيئا [ ص: 240 ] ولا , ولا ، ولا . . . قالت عائشة : فمن أقر من المومنات بهذا ، فقد أقر بالمحنة ، فإذا أقررن بذلك قال لهن : انطلقن فقد بايعتكن . قالت عائشة : لا والله ما مست امرأة قط يده ، غير أنه يبايعهن بالكلام .

قال : وحدثنا حجاج ، عن ابن جريج قال : أخبرني موسى بن عقبة عن محمد بن المنكدر أنه سمع أميمة بنت رقيقة تزعم أنها بايعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاشترط عليها ما اشترط على المومنات في كتاب الله ، ثم قال : فيما أطقت يا رقيقة .

قال : وحدثنا حجاج ، عن ابن جريج في قوله : ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن قال : كانت المرأة في الجاهلية تلد الجارية فتأخذ الغلام فتجعله في مكانها وتقول لزوجها : هو ولدك .

قال : وحدثنا سنيد قال : حدثنا هشيم قال : أخبرنا هشام ، عن حفصة بنت سيرين ، عن أم عطية قالت : أخذ علينا [ ص: 241 ] رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا يعصينك في معروف ، ومن المعروف أن لا ينحن ، قالت : فلما وفت امرأة منهن إلا امرأتين : أم سليم ، وابنة الربيع .

قال : وحدثنا هشيم قال : أخبرنا يونس عن الحسن قال : كان فيما أخذ عليهن أن لا يتحدثن مع الرجال إلا أن يكون محرما ، فإن الرجل قد تلاطفه المرأة في الكلام فيمني في فخذه ، حدثنا سعيد بن نصر قال : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا محمد بن وضاح قال : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال : حدثنا أبو معاوية ، عن عاصم ، عن حفصة ، عن أم عطية قالت : لما نزلت إذا جاءك المؤمنات يبايعنك إلى قوله : ولا يعصينك في معروف قالت : وكانت منه النياحة ، فقالت : يا رسول الله ، إلا آل فلان فإنهم كانوا أسعدوني في الجاهلية ، فلا بد أن أسعدهم ، فقال : إلا آل فلان .

وأخبرنا أحمد بن محمد قال : حدثنا أحمد بن الفضل قال : حدثنا أحمد بن الحسن بن عبد الجبار الصوفي سنة اثنتين وثلاثمائة ، [ ص: 242 ] قال : حدثنا يحيى بن معين قال : حدثنا زكرياء بن يحيى بن عمارة ، عن عبد العزيز بن صهيب ، عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ثلاثة لن يزلن في أمتي : التفاخر في الأحساب ، والنياحة ، والأنواء .

زكريا بن يحيى هذا ثقة ، روى عنه أيضا مسلم بن إبراهيم وعبد الأعلى بن حماد وعمرو بن علي .

وأخبرنا عبيد بن محمد قال : حدثنا عبد الله بن مسرور قال : حدثنا عيسى بن مسكين قال : حدثنا محمد بن سنجر قال : حدثنا أسباط عن هشام عن حفصة عن أم عطية قالت : بايعنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أن لا ننوح ، فما وفى منا إلا خمس ، سماهن هشام ، منهن أم سليم .

قال أبو عمر : وفي حديثنا ( المذكور ) في هذا الباب حديث مالك عن محمد بن المنكدر ، عن أميمة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم [ ص: 243 ] في قوله : إني لا أصافح النساء دليل على أنه لا يجوز لرجل أن يباشر امرأة لا تحل له ، ولا يمسها بيده ولا يصافحها .

وقد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : لا يخلون رجل بامرأة ، فإن الشيطان ثالثهم ، وفي قوله : - صلى الله عليه وسلم - : إني لا أصافح النساء دليل على أنه كان يصافح الرجال عند البيعة وغيرها - صلى الله عليه وسلم ، ولو كان لا يرى المصافحة لقال : إني لا أصافح أحدا ، ألا ترى إلى الحديث المروي عن عثمان - رحمه الله - أنه قال : ما تغنيت ، ولا تمنيت ، ولا مسست ذكري بيميني منذ بايعت بها رسول الله صلى الله عليه وسلم .

وقد ذكرنا دخول المصافحة في المبايعة عند ذكرنا حديث البيعة في باب عبد الله بن دينار من هذا الكتاب ، وذكرنا هناك من الآثار في ذلك ما يكفي ، وقد أخبرنا خلف بن قاسم ، حدثنا أحمد بن صالح بن عمر المقرئ ، حدثنا أحمد بن جعفر بن محمد المنادي ، حدثنا جعفر بن شاكر ، حدثنا قبيصة ، حدثنا سفيان ، عن ابن جريج عن عطاء قال : كان النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يصافح النساء ، قال : وقد حدثنا سفيان بن المنصور عن إبراهيم قال : كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصافح النساء وعلى يده ثوب .

[ ص: 244 ] قال : وحدثنا سفيان عن إسماعيل بن أبي خالد ، عن قيس بن أبي حازم ، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا بايع لا يصافح النساء إلا وعلى يده ثوب .

وحدثنا سعيد بن نصر قال : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا محمد بن وضاح قال : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال : حدثنا عيسى بن يونس عن المقدام بن ثابت ، عن شهر بن حوشب ، عن أسماء بنت يزيد قالت : أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - أنا وابنة عم ( لي ) لنبايعه ، فقال : إني لا أصافح النساء .

وحدثنا سلمة بن سعيد قال : حدثنا علي بن عمر الحافظ قال : حدثنا محمد بن سليمان بن محمد الباهلي قال : حدثنا عبد الله بن عبد الصمد بن أبي خراش ، قال : حدثنا عيسى بن يونس عن مقدام بن ثابت أبي المقدام ، عن شهر بن حوشب ، عن أسماء بنت يزيد ، قالت : أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - أنا وابنة عم لي نبايعه ، فقال : إني لا أصافح النساء .

قال أبو الحسن علي بن عمر : مقدام بن ثابت ، أخو عمر بن ثابت ، وأبوهما ثابت بن هرمز يكنى أبا المقدام ، حدث عن سعيد بن المسيب وغيره ، روى عنه الحكم بن عتيبة ، وشعبة والثوري ، وغيرهم ، وله أخ يكنى أبا عبيدة يحدث عن أبي بردة [ ص: 245 ] بن أبي موسى ، ورى عنه ابن أخيه عمر بن ثابت ، ومقدام بن ثابت هذا غريب الحديث ، يحدث عن شهر بن حوشب وأبي هارون العبدي ، ولم يرو عنه هذا عيسى بن يونس ، وقد روى ابن وهب وإبراهيم بن طهمان وسعيد بن داود الزبيري ( جميعا ) عن مالك ، عن ابن شهاب ، عن عروة ، عن عائشة في بيعة النساء قالت : ما مس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيده يد امرأة قط إلا أن يأخذ عليها ، فإذا أخذ عليها فأعطته قال : اذهبي فقد بايعتك .

وهذا ليس في الموطأ عند أحد من رواته فيما علمت .

وقد روى يحيى بن معين عن معن بن عيسى ، عن مالك ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه عن عائشة قالت : لم يصافح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - امرأة قط .

حدثنا خلف بن القاسم ، حدثنا أبو أحمد بن المفسر الدمشقي قال : حدثنا أحمد بن علي قال : حدثنا يحيى بن معين فذكره ، وهذا حديث لا أعلم أحدا حدث به غير ابن معين ، وقد وهم في إسناده وغلط ، ذكره النسائي .

قال : حدثنا معاوية بن صالح قال : حدثنا يحيى بن معين فذكره ، والصواب في الحديث ما في موطأ مالك عن ابن المنكدر .

[ ص: 246 ] وحدثنا عبد الله بن محمد بن يحيى قال : حدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال : حدثنا أبو خالد وابن نمير ، عن الأجلح ، عن أبي إسحاق ، عن البراء أنه قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ما من مسلمين يلتقيان فيتصافحان إلا غفر لهما قبل أن يفترقا .

وروى أبو الحكم العنزي عن البراء ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : إذا التقى المسلمان فتصافحا وحمدا الله واستغفراه غفر لهما .

وحماد بن سلمة عن ( ثابت ) عن أنس قال : لما جاء أهل اليمن قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : قد جاءكم أهل اليمن وهم أول من جاء بالمصافحة .

وحدثنا عبد الوارث بن سفيان قال : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا ابن وضاح قال : حدثنا يعقوب بن كعب قال : حدثنا مبشر بن إسماعيل عن حسان بن نوح عن عبد الله بن بسر [ ص: 247 ] قال : ترون يدي هذه صافحت بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وذكر الحديث .

ومبايعة الرجال كانت كمبايعة النساء على ما في حديث عبادة ذكر البخاري قال : حدثنا أبو اليمان ، حدثنا شعيب عن الزهري قال : أخبرني أبو إدريس عائذ الله بن عبد الله أن عبادة بن الصامت ، وكان قد شهد بدرا ، وهو أحد النقباء قال : إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال وحوله عصابة من أصحابه : بايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئا ، ولا تسرقوا ، ولا تزنوا ، ولا تقتلوا أولادكم ، ولا تأتوا ببهتان تفترونه بين أيديكم وأرجلكم ، ولا تعصوا في معروف ، فمن وفى منكم فأجره على الله ، ومن أصاب من ذلك شيئا فعوفي به فهو كفارة له ، ومن أصاب من ذلك شيئا ثم ستره الله عليه فهو إلى الله ، إن شاء عفا عنه وإن شاء عاقبه . فبايعناه على ذلك .

حدثنا عبد الوارث قال : حدثنا قاسم قال : حدثنا محمد بن الهشيم قال : حدثنا سليمان بن عبد الرحمن الدمشقي قال : حدثنا إسماعيل [ ص: 248 ] بن عياش قال : حدثنا هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عبد الله بن الزبير وعبد الله بن جعفر أنهما بايعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهما ابنا سبع سنين ، فلما رآهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تبسم وبسط يده فبايعهما .

حدثنا سعيد بن نصر قال : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا إسماعيل بن إسحاق قال : حدثنا ابن أبي أويس قال : حدثنا أبي ، عن ابن شهاب أن عروة حدثه أن عائشة حدثته عن بيعة النساء قالت : ما مس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يد امرأة قط إلا أن يأخذ عليها ، فإذا أخذ عليها فأعطته قال : اذهبي فقد بايعتك وسيأتي في حديث عبد الله بن دينار في البيعة ما فيه زيادة بيان وكفاية إن شاء الله تعالى .




الخدمات العلمية