الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
47 [ ص: 102 ] [ ص: 103 ] محمد بن عمارة الحزمي الأنصاري . لمالك عنه حديث واحد من المسند ، وهو محمد بن عمارة بن عمرو بن حزم الأنصاري .

مالك عن محمد بن عمارة ، عن محمد بن إبراهيم ، عن أم ولد لإبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف أنها سألت أم سلمة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت : إني امرأة أطيل ذيلي ، وأمشي في المكان القذر فقالت أم سلمة : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يطهره ما بعده

التالي السابق


( قال أبو عمر : ) ( هكذا هذا الحديث في الموطأ عند جماعة رواته فيما علمت ، وقد رواه الحسين بن الوليد ، عن [ ص: 104 ] مالك فأخطأ فيه . حدثناه خلف بن القاسم : حدثنا الحسن بن رشيق : حدثنا أحمد بن شعيب أخبرنا أحمد بن نصر : حدثنا الحسين بن الوليد : حدثنا مالك عن محمد بن عمارة ، عن محمد بن إبراهيم بن الحارث ، عن حميدة أنها سألت عائشة ، فقالت : إني امرأة أطيل ذيلي ، وأمر بالمكان القذر ، فقالت : سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك فقال : يطهره ما بعده ، هذا خطأ ، وإنما هو لأم سلمة لا لعائشة ، وكذلك رواه الحفاظ في الموطأ وغير الموطأ عن مالك . ورواه إسحاق بن سليمان الرازي عن مالك ( عن محمد بن عمارة ) عن محمد بن إبراهيم عن أم ولد لهود بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف ، وهذا خطأ ، والصواب ما في الموطأ ، والله أعلم ) . حدثنا أحمد بن قاسم بن عيسى المقري ، قال : حدثنا عبيد الله بن محمد بن إسحاق بن حبابة ببغداد ، قال : حدثنا عبد الله بن محمد بن عبد العزيز البغوي قال : حدثنا خلف بن هشام البزار سنة ست وعشرين ومائتين قال : قيل لمالك بن أنس ، وأنا أسمع : أحدثك محمد بن عمارة عن محمد بن إبراهيم عن أم ولد لإبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف أنها سألت أم سلمة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت : إني امرأة أطيل ذيلي ، وأمشي في القذر فقالت : قال رسول [ ص: 105 ] الله - صلى الله عليه وسلم - يطهره ما بعده ؟ قال خلف : قال مالك : نعم . ( في هذا الحديث : أن من سنة المرأة في لبستها أن تطيل ذيلها فلا تنكشف قدماها ; لأنهن كن لا يلبسن الخفين ، والله أعلم ; لأن المرأة أخبرت بأنها تطيل ذيلها فلم ينكر ذلك عليها ، وفي حديث مالك عن أبي بكر بن نافع عن أبيه عن صفية عن أم سلمة : أن المقدار الذي لا تزيد عليه في ذلك ذراع ، وقد مضى القول في قدم المرأة ، هل هي عورة أم لا ؟ في باب ابن شهاب ، وجر المرأة ذيلها معروف مشهور ، قال عبد الرحمن بن حسان بن ثابت في أبيات له :

كتب القتل والقتال علينا وعلى الغانيات جر الذيول

) . اختلف الفقهاء في طهارة الذيل على المعنى المذكور في هذا الحديث ، فقال مالك : معناه في القشب اليابس ، والقذر الجاف الذي لا يتعلق منه بالثوب شيء ، فإذا كان هكذا كان ما بعده من المواضع الطاهرة حينئذ تطهيرا له ، وهذا عنده ليس تطهيرا من نجاسة ; لأن النجاسة عنده لا يطهرها إلا الماء ، وإنما هو تنظيف ; لأن القشب اليابس ليس ينجس ما مسه ، ألا ترى أن المسلمين مجمعون على أن ما سفت الريح من يابس القشب ، والعذرات التي قد صارت غبارا على ثياب الناس ووجوههم لا يراعون ذلك ، ولا يأمرون بغسله ، ولا يغسلونه ; لأنه يابس ، وإنما النجاسة الواجب غسلها ما لصق منها وتعلق بالثوب وبالبدن [ ص: 106 ] فعلى هذا المحمل حمل مالك ، وأصحابه حديث طهارة ذيل المرأة ، وأصلهم أن النجاسة لا يزيلها إلا الماء ، وهو قول زفر بن الهذيل ، والشافعي وأصحابه ، وأحمد وغيره أن النجاسة لا يطهرها إلا الماء ; لأن الله تعالى سماه طهورا ، ولم يقل ذلك في غيره . قال أبو بكر الأثرم : سمعت أبا عبد الله يعني أحمد بن حنبل سئل عن حديث أم سلمة يطهره ما بعده ، قال : ليس هذا عندي على أنه أصابه بول فمر بعده على الأرض أنها تطهره ، ولكنه بالمكان يتقذره فيمر بمكان أطيب منه فيطهره هذا ذلك ، ليس على أنه يصيبه شيء . وقال أبو حنيفة : يجوز غسل النجاسة بغير الماء ، وكل ما زال به عينها فقد طهرها ، وهو قول داود وبه قال جماعة من التابعين ، ومن حجتهم الحديث المذكور في هذا الباب في ذيل المرأة . ومن حجتهم أيضا ما حدثناه عبد الله بن محمد ، قال : حدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا محمد بن عبد الله النفيلي ، وأحمد بن يونس قالا : حدثنا زهير قال : حدثنا عبد الله بن عيسى ، عن موسى بن عبد الله بن يزيد عن امرأة من بني عبد الأشهل ، قالت : قلت : يا رسول الله ، إن لنا طريقا إلى المسجد منتنة ، فكيف نفعل إذا مطرنا أو تطهرنا ؟ قال : أليس بعدها طريق أطيب منها ؟ قالت : قلت : بلى قال : فهذه بهذه . [ ص: 107 ] وحدثنا سعيد بن نصر قال : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا محمد بن وضاح ، قال : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، قال : حدثنا شريك ، عن عبد الله بن عيسى ، عن موسى بن عبد الله بن يزيد ، عن امرأة من بني عبد الأشهل أنها سألت النبي - صلى الله عليه وسلم - : إن بيني وبين المسجد طريقا قذرا ، قال : فبعدها طريق أنظف منها ؟ قالت : نعم قال : فهذه بهذه . ومن حجتهم أيضا قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا وطئ أحدكم بخفيه - أو قال بنعليه - في الأذى فطهورهما التراب - أو قال التراب لهما طهور - وهو حديث مضطرب الإسناد ، لا يثبت ، اختلف في إسناده على الأوزاعي ، وعلى سعيد بن أبي سعيد اختلافا يسقط الاحتجاج به . ومن حجتهم أيضا قول عبد الله بن مسعود كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا نتوضأ من موطئ . وهذا أيضا محتمل للتأويل ليس فيه حجة ، ويلزم داود على أصله أن النجاسة المجتمع عليها لا يحكم بزوالها ، ولا بطهارة موضعها إلا بإجماع ، ولا إجماع في هذه المسألة إلا بما قاله مالك ، والشافعي من الماء الذي جعله الله طهورا ، وخصه بذلك [ ص: 108 ] فهذا وجه النظر عندي في هذه المسألة ، وبالله التوفيق ، والعصمة ، ومن هذا الباب أيضا الأرض تصيبها النجاسة ، هل يتيمم عليها أو يصلى إذا ذهب أثر النجاسة من غير أن تطهر بالماء ؟ فإن العلماء اختلفوا في ذلك ، فقال مالك والشافعي وأصحابهما ، وهو قول زفر : لا يطهرها إلا الماء إذا علم بنجاستها ، وهي عندهم محمولة على الطهارة حتى يستيقن بنجاستها فإذا استوقفت النجاسة فيها لن يطهرها إلا الماء . ولا تجوز الصلاة عليها ، ولا التيمم ، إلا أن مالكا قال : من تيمم عليها أو صلى أعاد في الوقت ، وقد قال : يعيد أبدا . وكذلك اختلف أصحابه فمنهم من قال : يعيد أبدا من تيمم على موضع نجس ، ومنهم من قال : يعيد في الوقت لا غير . ( هذا إنما هو في نجاسة لم تظهر في التراب ، وفيما لم تغيره النجاسة ، وأما من تيمم على نجاسة يراها أو توضأ بماء تغيرت أوصافه أو بعضها بنجاسة فإنه يعيد أبدا ، وكذلك عند جمهور أصحاب مالك من تعمد الصلاة بالثوب النجس أبدا ) ولم يختلف قول مالك ، وأصحابه فيمن صلى بثوب نجس أو على موضع نجس ساهيا أنه يعيد صلاته ما دام في الوقت ، واختلفوا فيمن صلى عامدا على ثوب نجس ، فقال ابن القاسم : يعيد أبدا ، وقال أشهب : [ ص: 109 ] لا يعيد إلا في الوقت ; لأن وجوب غسل النجاسة عندهم بالسنة لحديث ( أسماء ) ، ومثله في غسل النجاسة لقول الله تبارك وتعالى " وثيابك فطهر " ليستدرك فضل السنة في الوقت ، واختلف قولهم فيمن تيمم على موضع نجس ، فقال أكثرهم : يعيد في الوقت ، وبعده لقول الله عز وجل فتيمموا صعيدا طيبا يعني طاهرا ، وقال بعضهم : إلا في الوقت ، وهو قول أشهب قياسا على من صلى بثوب نجس ) ليستدرك فضل السنة في الوقت ، فإذا خرج الوقت لم يستدرك ( بذلك ) ألا ترى أن إعادة الصلاة في جماعة سنة لمن صلى وحده ، فلو أن رجلا صلى وحده في الوقت ، ثم وجد جماعة يصلون تلك الصلاة بعد خروج الوقت لم يؤمر بالدخول معهم ، ولو كانوا يجمعون في وقت تلك الصلاة ، وأقيمت عليه لأمر بالدخول معهم ; ليستدرك فضل السنة في الوقت ، ولا يومر بذلك بعد خروج الوقت . وقال الشافعي وزفر ، والطبري ، وأحمد بن حنبل : يعيد في الوقت وبعده من تيمم على نجس ، أو صلى عليه ، أو بثوب نجس ، وأكثر علماء التابعين بالمدينة ، وغيرها لا يرون إعادة على من صلى بثوب نجس في وقت ولا غيره ، وقد [ ص: 110 ] ذكرناهم في باب هشام ( بن عروة ) ، وقول ربيعة في ذلك كقول مالك : يعيد في الوقت . وقال أبو حنيفة ، وأبو يوسف ، ومحمد : إذا يبست الأرض ، وذهب منها أثر النجاسة جازت الصلاة عليها ، وأما التيمم فلا يتيمم عليها ألبتة . وقال الثوري : إذا جف فلا بأس بالصلاة عليه ، وقال الحسن بن حي : لا يصلي عليه حتى يغسله وإن صلى قبل ذلك لم يجزه ، وقال الشافعي : إذا بال الرجل في موضع من الأرض صب عليه ذنوب من الماء ، وإن بال اثنان لم يطهره إلا ذنوبان ، قال : ولو أشكل عليه الموضع النجس من الأرض تيمم ، وليس عليه أن يتحرى . قال أبو عمر : اختلافهم في قدر النجاسة الذي يجب غسله من الأرض أو الثوب ، وفي الخف يصيبه الروث أو البول ، وفي إعادة الصلاة لمن صلى بثوب نجس أو على موضع نجس ، وفي الثوب تصيبه النجاسة يخفى مكانها يطول ذكره ، وسنذكر ذلك في مواضع من كتابنا هذا إن شاء الله . ومن حجة من رأى الأرض تطهر إذا يبست ما حدثنا عبد الله بن محمد ، قال : حدثنا محمد بن بكر ، قال : حدثنا أبو داود ، قال : حدثنا أحمد بن صالح ، قال : حدثنا عبد الله بن وهب ، قال : أخبرني يونس عن ابن شهاب ، قال : حدثني حمزة بن عبد الله بن عمر ، قال : قال ابن عمر : كنت أبيت في المسجد [ ص: 111 ] على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكنت فتى شابا عزبا ، وكانت الكلاب تبول ، وتقبل وتدبر في المسجد ، فلم يكونوا يرشون شيئا من ذلك . قال أبو عمر : روى عبيد الله بن عمر ، وغيره عن نافع عن ابن عمر مبيته في مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ولم يذكر إقبال الكلاب ولا إدبارها ، وبولها في المسجد ، ولم يذكر إلا مبيته خاصة . ومن حجة من قال : إن الأرض لا يطهرها إلا الماء أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر بصب ذنوب من ماء على بول الأعرابي ، ولو طهرها يبسها لتركها - والله أعلم - حتى تيبس ، ومما يدل على أن الثوب ( ينجس ) إذا باشر النجاسة الرطبة أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أسماء بغسل دم المحيض من ثوبها ، وسيأتي حديثها في موضعه من كتابنا هذا ، وذلك في باب هشام بن عروة ، ونذكر هناك ما للعلماء في ذلك من المذاهب والأقوال والآثار والاعتلال ( إن شاء الله تعالى ) .




الخدمات العلمية