الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
1337 [ ص: 335 ] حديث حادي عشر لنافع عن ابن عمر

. مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر أنه قال : كنا في زمان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نبتاع الطعام فيبعث علينا من يأمرنا بانتقاله من المكان الذي ابتعناه فيه إلى مكان سواه قبل أن نبيعه .

التالي السابق


هكذا روى مالك هذا الحديث لم يختلف عليه فيه ، ولم يقل جزافا ، وروى غيره عن نافع عن ابن عمر فقال فيه : كنا نبتاع الطعام جزافا ، وقد ذكرنا مذهب مالك في الفرق بين الطعام المبيع على الكيل ، والطعام المبيع على الجزاف ، وأن ما بيع عنده وعند أكثر أصحابه من الطعام جزافا فلا بأس أن يبيعه مشتريه قبل أن يقبضه ، وقبل أن ينقله ، ومعنى نقله في هذا الحديث قبضه ، ومعنى قبضه عند مالك استيفاؤه ، وذلك عنده في المكيل والموزون ، دون الجزاف . وجعل [ ص: 336 ] مالك رحمه الله قوله حتى يستوفيه تفسيرا لقوله حتى يقبضه ، والاستيفاء عنده وعند أصحابه لا يكون إلا بالكيل أو الوزن ، وذلك عندهم فيما يحتاج إلى الكيل أو الوزن مما بيع على ذلك ، قالوا : وهو المعروف من كلام العرب في معنى الاستيفاء بدليل قول الله عز وجل ( الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون ) وقوله ( فأوف لنا الكيل وتصدق علينا ) و ( وأوفوا الكيل إذا كلتم ) قالوا فما بيع من الطعام جزافا لا يحتاج إلى كيله فلم يبق فيه إلا التسليم ، وبالتسليم يستوفى فأشبه العقار ، والعروض ، فلم يكن ببيعه بأس قبل القبض بعموم قول الله عز وجل ( وأحل الله البيع ) .

هذا جملة ما احتج به أصحاب مالك ; لقوله في ذلك ( وجعل بعضهم هذا الحديث من باب تلقي السلع ، وقال : إنما جاء النهي في ذلك لئلا يترابحوا فيه بينهم فيغلو السعر على أهل السوق ، فلذلك قيل لهم : حولوا عن مكانه ، وانقلوه ; يعني إلى أهل السوق ، وهذا تأويل بعيد فاسد لا يعضده أصل ، ولا يقوم عليه دليل ) ولا أعلم أحدا تابع مالكا من جماعة فقهاء الأمصار على تفرقته بين ما اشتري جزافا من الطعام ، وبين ما اشتري منه كيلا إلا الأوزاعي فإنه قال : من اشترى طعاما جزافا فهلك [ ص: 337 ] قبل القبض فهو من مال المشتري ، وإن اشتراه مكايلة فهو من مال البائع ، وهو نص قول مالك ، وقد قال الأوزاعي : من اشترى ثمرة لم يجز له بيعها قبل القبض ، وهذا تناقض ، وأحسن ما يحتج به لمالك في قوله هذا ما حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله قال : حدثنا تميم بن محمد قال : حدثنا عيسى بن مسكين ، وحدثنا عبد الوارث بن سفيان قال : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا محمد بن وضاح قالا جميعا : حدثنا سحنون عن ابن وهب قال : أخبرنا عمرو بن الحارث ، وغيره عن المنذر بن عبيد المدني عن القاسم بن محمد عن ابن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى أن يبيع أحد طعاما اشتراه بكيل حتى يستوفيه .

قال أبو عمر : فقوله بكيل دليل على أن ما خالفه بخلافه ، والله أعلم .

ولم يفرق سائر الفقهاء بين الطعام المبيع جزافا ، والطعام المبيع كيلا أنه لا يجوز لمبتاعه أن يبيع شيئا منه قبل القبض فقبض ما بيع كيلا أو وزنا أن يكال على مبتاعه أو يوزن عليه فأتى ما اشترى جزافا أن ينقله مبتاعه ، ويحوله من موضعه ، ويبين به إلى نفسه فيكون ذلك قبضا له كسائر العروض ، والمصيبة عند جميعهم فيه إن هلك قبل القبض من بائعه ، ولا يجوز بيعه قبل قبضه ، وممن قال بهذا سفيان الثوري ، وأبو حنيفة وأصحابه ، والشافعي ومن اتبعه ، وأحمد [ ص: 338 ] بن حنبل ، وإسحاق ، وداود بن علي ، والطبري ، وأبو عبيد ، وروي ذلك عن سعيد بن المسيب ، والحكم ، وحماد ، والحسن البصري .

وحجة من ذهب هذا المذهب عموم نهي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ربح ما لم يضمن ، وقوله لحكيم بن حزام إذا ابتعت بيعا فلا تبعه حتى تقبضه ، ولما قدمنا ذكره في الباب قبل هذا عن ابن عباس وجابر ، وغيرهما ، ولأن الصحابة كانوا يؤمرون إذا ابتاعوا الطعام جزافا أن لا يبيعوه حتى يقبضوه وينقلوه من موضعه .

وقد ذكر أمر الجزاف في هذا الحديث عن نافع حفاظ متقنون ، ورواه أيضا سالم عن ابن عمر قالوا : فلا وجه للفرق بين شيء من ذلك قرأت على عبد الوارث بن سفيان أن القاسم بن أصبغ حدثهم قال : حدثنا محمد بن وضاح قال : حدثنا عبد الرحمن بن إبراهيم دحيم قال : حدثنا الوليد : حدثنا الأوزاعي عن الزهري عن سالم عن أبيه قال : رأيت الذين يشترون الطعام مجازفة يضربون على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يبيعوه حتى يؤدوه إلى رحالهم .

قال أبو عمر : أخطأ محمد بن كثير في هذا الحديث فرواه عن الأوزاعي عن الزهري عن حمزة عن ابن عمر ، والحديث محفوظ لسالم عن ابن عمر ليس لحمزة فيه طريق .

[ ص: 339 ] أخبرنا عبد الله بن محمد بن عبد المؤمن قال : حدثنا محمد بن بكر قال : أنبأنا أبو داود قال : حدثنا الحسن بن علي قال : حدثنا عبد الرزاق قال : أنبأنا معمر عن الزهري عن سالم عن ابن عمر قال : رأيت الناس يضربون على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا اشتروا الطعام جزافا أن يبيعه المشتري حتى ينقله إلى رحله ، وحدثنا عبد الوارث بن سفيان قال : حدثنا قاسم قال : حدثنا مطلب قال : حدثنا أبو صالح قال : حدثنا الليث قال : حدثني يونس عن ابن شهاب قال : أخبرني سالم عن ابن عمر أنه قال : رأيت الناس في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا ابتاعوا طعاما جزافا يضربون في أن يبيعوه مكانهم حتى يئووه إلى رحالهم .

وحدثنا عبد الوارث قال : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا بكر بن حماد قال : حدثنا مسدد قال : حدثنا يحيى عن عبيد الله قال : حدثنا نافع عن ابن عمر قال : كانوا يتبايعون الطعام جزافا في السوق فيبيعونه في مكانهم فنهاهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يبيعوه في مكانه حتى ينقلوه [ ص: 340 ] وحدثنا عبد الوارث أيضا قال : حدثنا قاسم قال : حدثنا محمد بن عبد السلام قال : حدثنا محمد بن بشار قال : حدثني يحيى بن سعيد قال : حدثنا عبيد الله قال : أخبرني نافع عن ابن عمر قال : كانوا يتبايعون الطعام جزافا في أعلى السوق فنهاهم النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يبيعوه حتى ينقلوه .

وقال أبو عمر : إذا آواه إلى رحله ، ونقله فقد قبضه ، وإنما كانوا يضربون على ذلك لئلا يبيعوه قبل قبضه ، وبيع الطعام جزافا في الصبرة ، ونحوها أمر مجتمع على إجازته ، وفي السنة الثابتة في هذا الحديث دليل على إجازة ذلك ، ولا أعلم فيه اختلافا فسقط القول فيه ، إلا أن مالكا لم يجز لمن علم مقدار صبرته وكدسه كيلا أن يبيعه جزافا حتى يعرف المشتري مبلغه ، فإن فعل فهو غاش ، ومبتاع ذلك منه بالخيار إذا علم كالعيب سواء .

وهذا موضع اختلف العلماء فيه ، فقال منهم قائلون : لا يضره علمه بكيله ، وجائز له بيعه جزافا ، وإن علم كيله ، وكتم ذلك على عموم قوله تعالى ( وأحل الله البيع ) فكل بيع حلال على ظاهر هذه الآية ، إلا أن تمنع منه سنة ، ولم [ ص: 341 ] ترد سنة في المنع من هذا ، بل قد وردت السنة في إجازة بيع الطعام جزافا ، ولم تختلف العلماء في ذلك ، ولم يفرق أكثرهم بين العالم بذلك والجاهل ، قالوا : فلا وجه للفرق بين علم كيل طعامه ، وبين من جهله في ذلك ، قالوا : وإنما الغش في بيع الطعام جزافا أن لا يكون الموضع الذي هو عليه مستويا ، ونحو ذلك من الغش المعروف ، فأما علم البائع بمقدار كيله فليس بغش ، وممن قال لا بأس أن يبيع الإنسان طعاما قد علم مقداره مجازفة ممن لم يعلم مقداره الشافعي ، وأبو حنيفة ، وأصحابه ، والثوري ، والحسن بن حي ، وداود ، وأحمد بن حنبل ، والطبري ، وروي ذلك عن الحسن البصري على اختلاف عنه ، ولم يختلف قول مالك في هذه المسألة أن البائع إذا علم بكيل طعامه ، وكتم المشتري كان ذلك عيبا ، وكان المشتري بالخيار بين التمسك والرد ، وجميع الطعام ، والإدام ، في ذلك سواء ، وعلم الكيل والوزن في ذلك سواء ، لم يختلف قولمالك في شيء من ذلك .

واختلف قول مالك في المسألة الأولى من هذا الباب ، فالمشهور عنه ما قدمنا ذكره ، وقد حكى أبو بكر بن أبي [ ص: 342 ] يحيى الوقار عن مالك أنه قال : لا يبع ما اشتري من الطعام ، والإدام جزافا قبل قبضه ونقله ، واختاره الوقار ، وهو الصحيح عندي في هذه المسألة ; لثبوت الخبر بذلك عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وعمل أصحابه ، وعليه جمهور أهل العلم .

وحدثنا عبد الله بن محمد قال : حدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا محمد بن عوف الطائي قال : حدثنا أحمد بن خالد الوهبي قال : حدثنا محمد بن إسحاق عن أبي الزناد عن عبيد بن حنين عن ابن عمر قال : ابتعت زيتا في السوق ، فلما استوفيته لقيني رجل فأعطاني به ربحا ، فأردت أن أضرب على يده ، فأخذ رجل من خلفي بذراعي ، فالتفت فإذا أنا بزيد بن ثابت ، فقال : لا تبعه حيث ابتعته حتى تحوزه إلى رحلك ، فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى أن تباع حيث تبتاع السلع حتى يحوزها التجار إلى رحالهم .

عم في هذا الحديث السلع ، فظاهره حجة لمن جعل الطعام وغيره سواء على ما ذكرنا عنهم في الباب قبل هذا ، ولكنه [ ص: 343 ] يحتمل أن يكون أراد السلع المأكولة والمؤتدم بها ; لأن على الزيت خرج الخبر ، وجاء في هذا الحديث : فلما اشتريته لقيني رجل فأعطاني به ربحا ، الحديث ، وهذا يحتمل أن يكون اشتراه جزافا بظرفه فحازه إلى نفسه كما كان في ذلك الظرف قبل أن يكيله أو ينقله ، والدليل على ذلك إجماع العلماء على أنه لو استوفاه بالكيل أو الوزن إلى آخره لجاز له بيعه في موضعه .

وفي إجماعهم على ذلك ما يوضح لك أن قوله فلما استوفيته على ما ذكرنا ، أو يكون لفظا غير محفوظ في هذا الحديث ، والله أعلم ، أو يكون زيد بن ثابت رآه قد باعه في الموضوع الذي ابتاعه فيه ، ولم يعلم باستيفائه له فنقل الحديث من أجل ما ذكره زيد فيه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - .

ولما أجمعوا على أنه لو قبضه ، وقد ابتاعه جزافا ، وحازه إلى رحله وبان به ، وهما جميعا في مكان واحد أنه جائز له حينئذ بيعه علم أن العلة في انتقاله من مكان إلى مكان سواه ، قبضه على ما يعرف الناس من ذلك ، وأن الغرض منه القبض ، وقلما يمكن قبضه إلا بانتقاله ، والأمر في ذلك بين لمن فهم ولم يعاند ، وأما مسألة المجازفة فقد تابع مالكا على القول بكراهة ما كره من ذلك الليث بن سعد ، وقد روي ذلك عن ( جماعة من التابعين ) .

[ ص: 344 ] أخبرنا أحمد بن عبد الله بن محمد قال : حدثني أبي قال : حدثنا محمد بن قاسم قال : حدثنا محمد بن عبد السلام الخشني قال : قرأت على محمود بن خالد قال : حدثنا عمرو بن عبد الواحد قال : حدثنا الأوزاعي قال : حدثني ابن أبي جميل قال : سألت مجاهدا ، وطاوسا ، وعطاء بن أبي رباح ، والحسن بن أبي الحسن عن الرجل يأتي الطعام فيشتريه في البيت من صاحبه مجازفة لا يعلم كيله ، ورب الطعام يعلم كيله فكرهوه كلهم .

وقال مالك في الجوز : إذا علم صاحبه عدده ، ولم يعلمه المشتري لم يبعه مجازفة قال : وأما القثاء ، ونحوه فله أن يبيعه مجازفة ، وإن علم البائع عدده ، ولم يعلمه المشتري ; لأن ذلك يختلف ، وتابعه على ذلك الليث ، وقال الأوزاعي : إذا اشترى شيئا مما يكال عند حمله إلى بلد يوزن فيه فهو لم يبعه جزافا ، وإن كان حيث حمله لا يكال ولا يوزن فلا بأس أن يباع جزافا بذلك .

[ ص: 345 ] ولا يجوز عند مالك ، وأصحابه بيع شيء له بال جزافا نحو الرقيق والدواب والمواشي والبز ، وغير ذلك ; لما له قدر وبال ; لأن ذلك يدخله الخطر والقمار ، وهذا عندهم خلاف ما يعد ويكال ويوزن من الطعام والإدام ، وغيره ; لأن ذلك تحويه العين ، ويتقارب فيه النظر بالزيادة اليسيرة ، والنقصان اليسير ، وكان إسماعيل بن إسحاق يحتج في كراهيته لمن علم كيل طعامه أو وزنه ومقداره أن يبيعه مجازفة ممن لا يعلم ذلك ، ويكتم عليه فيه بأن قال : المجازفة مفاعلة ، وهي من اثنين ، ولا تكون من واحد فلا يصح حتى يستوي علم البائع ، والمبتاع فيما يبتاعه مجازفة ، وهذا قول لا يلزم ، وحجة تحتاج إلى حجة تعضدها ، وليس هذا سبيل الاحتجاج ، والذي كرهه له مالك ; لأنه داخل عنده في باب القمار ، والمخاطرة ، والغش ، والله أعلم .

وروى العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من غشنا فليس منا .

[ ص: 346 ] أخبرنا عبد الله بن محمد بن يحيى : حدثنا محمد بن بكير حدثنا أبو داود : حدثنا أحمد بن حنبل : حدثنا سفيان بن عيينة عن العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مر برجل يبيع طعاما ، فسأله ; كيف تبيع ؟ فأخبره ، فأومأ بيده ; أن أدخل يدك فيه ، فأدخل يده فيه فإذا هو مبلول فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من غش فليس منا .

وحدثنا عبد الوارث ، وسعيد قالا : حدثنا قاسم : حدثنا ابن وضاح حدثنا أبو بكر : حدثنا خالد بن مخلد : حدثنا سليمان بن بلال عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : من غشنا فليس منا .




الخدمات العلمية