الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
840 [ ص: 93 ] حديث رابع لجعفر بن محمد

مالك عن جعفر بن محمد عن أبيه ، عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا نزل بين الصفا والمروة مشى حتى إذا انصبت قدماه في بطن المسيل سعى حتى يخرج منه .

التالي السابق


هكذا قال يحيى عن مالك في هذا الحديث : إذا نزل بين الصفا والمروة . وغيره من رواة الموطأ ، يقول : إذا نزل من الصفا مشى ، حتى انصبت قدماه في بطن المسيل سعى حتى يخرج منه . ولا أعلم لرواية يحيى وجها ، إلا أن تحمل على ما رواه الناس ; لأن ظاهر قوله : نزل بين الصفا والمروة - يدل على أنه كان راكبا فنزل بين الصفا والمروة ، وقول غيره : نزل من الصفا . والصفا جبل لا يحتمل إلا ذلك ، وقد يمكن أن يكون شبه على يحيى رواية ابن جريج عن أبي الزبير عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طاف في حجة الوداع على راحلته بالبيت وبين الصفا والمروة ليراه الناس وليشرف لهم ليسألوه ; لأن الناس غشوه .

وهذا خبر لم يذكر فيه : وبين الصفا والمروة - غير ابن جريج وإنما المحفوظ في هذا حديث ابن شهاب عن عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم طاف بالبيت على راحلته يستلم الركن بمحجنه ، وهذا الحديث وإن كان ثابت الإسناد عندهم صحيحا ، فإن العلماء قد أجمعوا على أنه لم يكن لغير عذر وضرورة .

واختلفوا في العذر ، فقال سعيد بن جبير وطائفة : كان شاكيا صلى الله عليه وسلم .

وقال آخرون : بل كان ذلك منه لشدة ما غشيه من السائلين ليشرف لهم ويعلمهم [ ص: 94 ] ويفهمهم ، وذلك في حين طوافه بالبيت ، لا بين الصفا والمروة ، وقد وهم فيه ابن جريج حين ذكر فيه الصفا والمروة ; لأن ذلك كان منه في طواف الإفاضة ، والله أعلم .

وحديث ابن جريج حدثناه عبد الله بن محمد حدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا أحمد بن حنبل قال : حدثنا يحيى عن ابن جريج أخبرني أبو الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله يقول : طاف النبي عليه السلام في حجة الوداع على راحلته بالبيت وبين الصفا والمروة ليراه الناس وليسألوه ، فإن الناس غشوه .

قال أبو عمر : قوله في هذا الحديث : " وبين الصفا والمروة " تدفعه الآثار المتواترة عن جابر بمثل رواية مالك هذه ; لأن قوله " انصبت قدماه في بطن المسيل " يدفع أن يكون راكبا .

أخبرنا محمد بن إبراهيم قال : أخبرنا محمد بن معاوية قال : حدثنا أحمد بن شعيب قال : حدثنا يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا يحيى بن سعيد ، قال : حدثنا جعفر بن محمد قال : حدثنا أبي ، قال : حدثنا جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نزل - يعني على الصفا - حتى إذا انصبت قدماه في الوادي رمل حتى إذا صعد مشى .

والوجه عند أهل العلم في طواف رسول الله صلى الله عليه وسلم راكبا أنه كان في طواف الإفاضة ، وحينئذ ألظ الناس به يسألونه ، وفي حديث طاوس بيان ذلك .

روى ابن عيينة عن عبد الله بن طاوس عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه أن [ ص: 95 ] يهجروا بالإفاضة ، وأفاض في نسائه ليلا فطاف على راحلته ، وفي حديث أم سلمة أنها اشتكت يومئذ ، فقال لها رسول الله : طوفي راكبة من وراء الناس .

ومما يدل على كراهة الطواف راكبا من غير عذر أني لا أعلم خلافا بين علماء المسلمين أنهم لا يستحبون لأحد أن يطوف بين الصفا والمروة على راحلة راكبا ، ولو كان طوافه راكبا لغير عذر لكان ذلك مستحبا عندهم ، أو عند من صح عنده ذلك منهم .

وقد روينا عن عائشة وعروة بن الزبير كراهية أن يطوف أحد بين الصفا والمروة راكبا ، وهو قول جماعة الفقهاء ، فأما مالك فلا أحفظ له فيه نصا ، إلا أنه قال : من طاف بالبيت محمولا ، أو راكبا من غير عذر لم يجزه وأعاد ، وكذلك السعي بين الصفا والمروة عندي في قوله ، بل السعي أوكد ماشيا لما ورد فيه من اشتداد رسول الله صلى الله عليه وسلم في سعيه ماشيا على قدميه .

وقال مالك : إنه إن سعى أحد حاملا صبيا بين الصفا والمروة أجزأه عن نفسه وعن الصبي إذا نوى ذلك .

وقال مالك في الطائف بالبيت محمولا : إن رجع إلى بلاده كان عليه أن لا يهريق دما .

وقال الليث بن سعد : الطواف بالبيت وبين الصفا والمروة ، سواء ، لا يجزئ واحد منهما راكبا ، إلا أن يكون له عذر ، وكذلك قال أبو ثور : من سعى بين الصفا والمروة راكبا لم يجزه ، وعليه أن يعيد .

وقال مجاهد : لا يركب إلا من ضرورة ، وهو قول مالك .

وقال الشافعي : لا ينبغي له أن يطوف بالبيت ، ولا يسعى راكبا ، فإن فعل فلا دم عليه من عذر كان ذلك ، أو من غير عذر . وذكر أن أنس بن مالك وعطاء طافا راكبين .

وقال أبو حنيفة : إن سعى راكبا بين الصفا والمروة أعاد ما دام بمكة ، وإن رجع إلى الكوفة فعليه دم ، وكذلك [ ص: 96 ] إن طاف بالبيت راكبا عنده .

وقال هشام بن عبيد الله عن محمد بن الحسن : لو طاف بأمه حاملا لها أجزأه عنه وعنها ، وكذلك لو استأجرت امرأة رجلا يطوف بها كان الطواف لهما جميعا ، وكانت الأجرة له .

قال أبو عمر : قول مالك والليث بن سعد وأبي ثور أسعد بظاهر الحديث وأقيس في قول من أوجب السعي بين الصفا والمروة فرضا .

وأما قول من قال : إن رسول الله كان شاكيا فحجته في ذلك حديث عكرمة عن ابن عباس حدثنا عبد الله بن محمد قال : حدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا مسدد قال : حدثنا خالد بن عبد الله قال : حدثنا يزيد بن أبي زياد ، عن عكرمة عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم مكة ، وهو يشتكي ، فطاف على راحلته كلما أتى على الركن استلم بمحجن ، فلما فرغ من طوافه أناخ فصلى ركعتين ، ومثل هذا قوله صلى الله عليه وسلم لأم سلمة حين اشتكت إليه : طوفي من وراء الناس وأنت راكبة

وقد اختلف الفقهاء في السعي [ ص: 97 ] بين الصفا والمروة على الهيئة المذكورة فيه ، هل هو من فروض الحج ، أو من سننه ؟ فالذي ذهب إليه مالك والشافعي ومن اتبعهما ، وقال بقولهما - أن ذلك فرض ، لا ينوب عنه الدم ، ولا بد من الإتيان به كالطواف بالبيت الطواف الواجب ، سواء ، وهو قول أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وأبي ثور وداود .

وقال أبو حنيفة وأصحابه والثوري : السعي بين الصفا والمروة ليس بواجب ، فإن تركه أحد من الحجاج حتى يرجع إلى بلاده جبره بالدم ; لأنه سنة من سنة الحج وسنن الحج تجبر بالدم إذا سقط الإتيان بها ، هذا قول الثوري .

وروي عن قتادة والحسن البصري مثله .

وأما أبو حنيفة وأصحابه ، فقالوا : إن ترك أربعة أشواط من السعي بين الصفا والمروة فعليه دم ، وإن ترك أقل كان عليه لكل شوط إطعام مسكين نصف صاع من حنطة ، قالوا : وإن ترك ذلك في العمرة ، أو في الحج ناسيا فعليه دم .

وقال قوم : هو فرض في العمرة ، وليس بفرض في الحج .

وقال طاوس : من ترك السعي بينهما فعلى عمرة . واختلف فيه قول عطاء .

وروي عن ابن عباس وابن الزبير وأنس بن مالك وابن سيرين أنه تطوع ، وحجة أبي حنيفة ومن قال بقوله في السعي بين الصفا والمروة أنه ليس بفرض قول رسول الله صلى الله عليه وسلم الحج عرفات ، فمن أدركها فقد أدرك الحج ، قالوا : فصار ما سواه ينوب عنه الدم . قالوا : وإنما السعي بين الصفا والمروة تبع للطواف كما أن المبيت بالمزدلفة تبع للوقوف بعرفة ، فلما ناب عن المبيت بجمع الدم ، فكذلك ينوب عن السعي الدم .

قال أبو عمر : أما الوقوف بعرفة ففرض مجتمع عليه .

وأما المبيت ، أو حضور المزدلفة للصلاة والذكر بها فمختلف في فرضه ، وإن كان مالك وأبو حنيفة والشافعي لا يرونه فرضا .

وسيأتي ذكر حكم الوقوف بعرفة والمبيت بجمع في باب شهاب عن سالم إن شاء الله .

والحجة لمن [ ص: 98 ] أوجب السعي بين الصفا والمروة فرضا على من لم يوجبه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فعله ، وقال : خذوا عني مناسككم فصار بيانا لمجمل الحج ، فالواجب أن يكون فرضا كبيانه لركعات الصلوات ، وما كان مثل ذلك إذ لم يتفق على أنه سنة أو تطوع ، وقد قال الله عز وجل : إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما ، فإن احتج محتج بقراءة ابن مسعود وما في مصحفه ، وذلك قوله : " فلا جناح عليه أن لا يطوف بهما " ، قيل له : ليس فيما سقط من مصحف الجماعة حجة ; لأنه لا يقطع به على الله عز وجل ، ولا يحكم بأنه قرآن إلا بما نقلته الجماعة بين اللوحين .

وأحسن ما روي في تأويل هذه الآية ما ذكره هشام بن عروة عن أبيه ، عن عائشة قالت : كانت مناة على ساحل البحر وحولها الفروث والدماء مما يذبح بها المشركون ، فقالت الأنصار : يا رسول الله إنا كنا إذا أحرمنا بمناة في الجاهلية لم يحل لنا في ديننا أن نطوف بين الصفا والمروة ، فأنزل الله عز وجل إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما ، قال عروة : أما أنا فلا أبالي ألا أطوف بين الصفا والمروة . قالت عائشة : لم يا ابن أختي ؟ ، قال : لأن الله يقول : فلا جناح عليه أن يطوف بهما فقالت عائشة : لو كان كما تقول لكان : فلا جناح عليه ألا يطوف بهما ، فلعمري ما تمت حجة أحد ، ولا عمرته إن لم يطف بين الصفا والمروة . ورواه الزهري عن عروة عن عائشة مثله .

وقال فيه معمر عن الزهري : فذكرت ذلك لأبي بكر بن عبد الرحمن بن هشام فقال : هذا العلم . وقد روى مالك هذا الحديث عن هشام بن عروة بمعنى واحد .

[ ص: 99 ] وسنذكره في باب هشام من هذا الكتاب إن شاء الله .

وروى ابن جريج عن عطاء عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال لها : طوافك بالبيت وبين الصفا والمروة يجزئك ، أو يكفيك لحجك وعمرتك .

قال أبو عمر : ولو لم يكن واجبا لما قال : يجزئك ، والله أعلم .

فقد تبين بما ذكرته عائشة مخرج نزول الآية على أي شيء كان ، وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك بطوافه بين الصفا والمروة ، وقوله اسعوا بينهما ، فإن الله كتب عليكم السعي وكتب بمعنى أوجب كقول الله كتب عليكم الصيام وكقول رسول الله في الخمس الصلوات كتبهن الله على العباد ومثله كثير .

أخبرنا عبد الوارث بن سفيان قال : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا أحمد بن زهير قال : حدثنا سريج بن النعمان قال : حدثنا عبد الله بن المؤمل عن عطاء عن صفية [ ص: 100 ] بنت شيبة ، عن حبيبة بنت أبي تجراة ، قالت : رأيت رسول الله يطوف بين الصفا والمروة والناس بين يديه ، وهو وراءهم ، وهو يسعى حتى أرى ركبتيه من شدة السعي ، وهو يقول : اسعوا ، فإن الله كتب عليكم السعي هكذا قال عن عبد الله بن المؤمل عن عطاء وبين عطاء وعبد الله بن المؤمل في هذا الحديث عمر بن عبد الرحمن بن محيصن السهمي .

أخبرنا عبيد بن محمد قال : حدثنا عبد الله بن مسرور قال : حدثنا عيسى بن مسكين قال : أخبرنا محمد بن سنجر قال : أخبرنا الفضل بن دكين قال : حدثنا عبد الله بن المؤمل عن عمر بن عبد الرحمن السهمي عن عطاء عن صفية بنت شيبة ، عن حبيبة بنت أبي تجراة امرأة من أهل اليمن قالت : لما سعى النبي صلى الله عليه وسلم بين الصفا والمروة دخلنا في دار آل أبي حسين في نسوة من قريش ، فرأيت النبي عليه السلام يسعى بين الصفا والمروة في بطن الوادي ، وهو يقول : اسعوا ، فإن الله كتب عليكم السعي حتى إن ثوبه يديره من شدة السعي ، وكذلك رواه الشافعي عن عبد الله بن المؤمل .

أخبرنا أحمد بن عبد الله بن محمد [ ص: 101 ] بن علي قال : حدثنا الميمون بن حمزة الحسيني قال : أخبرنا أبو جعفر الطحاوي قال : حدثنا المزني قال : حدثنا الشافعي قال : أخبرنا عبد الله بن المؤمل العابدي ، عن عمر بن عبد الرحمن بن محيصن عن عطاء بن أبي رباح عن صفية بنت شيبة ، قالت : أخبرتني ابنة أبي تجراة إحدى نساء بني عبد الدار ، قالت : دخلت مع نسوة من قريش دار أبي حسين ننظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو يسعى بين الصفا والمروة ، فرأيته يسعى ، وإن مئزره ليدور من شدة السعي حتى أقول إني لأرى ركبتيه ، وسمعته يقول : اسعوا ، فإن الله كتب عليكم السعي وذكره أبو بكر بن أبي شيبة فأخطأ في إسناده إما هو ، وإما محمد بن بشر .

حدثنا سعيد بن نصر قال : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا محمد بن وضاح قال : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال : حدثنا محمد بن بشر قال : حدثنا عبد الله بن المؤمل قال : حدثنا عبد الله بن أبي حسين عن عطاء عن حبيبة بنت أبي تجراة ، قالت : نظرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فذكر الحديث بمعنى ما تقدم ، سواء ، ولكنه أخطأ في موضعين من الإسناد : أحدهما أنه جعل في موضع عمر بن عبد الرحمن عبد الله بن أبي حسين والآخر أنه أسقط صفية بنت شيبة من الإسناد ، فأفسد إسناد هذا الحديث ، ولا أدري ممن هذا ؟ أمن أبي بكر أم من محمد بن بشر ؟ ، ومن أيهما كان فهو خطأ ، لا شك فيه .

وقد رواه محمد بن سنان العوفي عن عبد الله بن المؤمل فجعله بالطواف بالبيت ، ذكر أبو جعفر العقيلي قال : حدثنا محمد بن أيوب قال : أخبرنا محمد بن سنان العوفي قال : أخبرنا عبد الله بن المؤمل المكي قال : أخبرنا عمر بن عبد الرحمن بن محيصن السهمي عن صفية بنت شيبة ، عن امرأة ، يقال لها حبيبة بنت أبي تجراة ، قالت : دخلت المسجد أنا ونسوة معي من قريش ، قالت : والنبي عليه [ ص: 102 ] السلام يطوف بالبيت ، قالت : وإنه ليسعى حتى إني لأرثي له ، وهو يقول لأصحابه : اسعوا فإن الله كتب عليكم السعي ، هكذا قال : يطوف بالبيت ، وأسقط من إسناد الحديث عطاء والصحيح في إسناد هذا الحديث ومتنه ما ذكره الشافعي وأبو نعيم إلا أن قول أبي نعيم : امرأة من أهل اليمن ، ليس بشيء ، والصواب ما قال الشافعي والله أعلم .

فإن قال قائل : إن عبد الله بن المؤمل ليس ممن يحتج بحديثه لضعفه ، وقد انفرد بهذا الحديث ، قيل له : هو سيئ الحفظ ، فلذلك اضطربت الرواية عنه ، وما علمنا له خربة تسقط عدالته ، وقد روى عنه جماعة من جلة العلماء ، وفي ذلك ما يرفع من حاله ، والاضطراب عنه لا يسقط حديثه ; لأن الاختلاف على الأئمة كثير ، ولم يقدح ذلك في روايتهم ، وقد اتفق شاهدان عدلان عليه ، وهما الشافعي وأبو نعيم وليس من لم يحفظ ولم يقم - حجة على من أقام وحفظ .

ومما يشد حديث عبد الله بن المؤمل هذا حديث المغيرة بن حكيم عن صفية بنت شيبة ، فإنه يبين صحة ما قاله عبد الله بن المؤمل .

أخبرنا عبد الله بن محمد الجهني قال : أخبرنا حمزة بن محمد قال : أخبرنا أحمد بن شعيب قال : أخبرنا قتيبة بن سعيد قال : حدثنا حماد بن زيد عن بديل ، عن المغيرة بن حكيم عن صفية بنت شيبة ، عن امرأة قالت : رأيت النبي عليه السلام يسعى في بطن المسيل ، ويقول : لا يقطع الوادي إلا شدا ، وقد ذكر أبو جعفر العقيلي قال : [ ص: 103 ] حدثنا محمد بن موسى النهرتيري ، قال : أخبرنا يوسف بن موسى القطان قال : أخبرنا مهران بن أبي عمر الرازي قال : أخبرنا سفيان عن مثنى بن الصباح عن المغيرة بن حكيم عن صفية بنت شيبة ، عن تملك ، قال العقيلي : يعني الشيبية ، قالت : نظرت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأنا في غرفة لي بين الصفا والمروة ، وهو يقول : يا أيها الناس إن الله كتب عليكم السعي فاسعوا .

قال أبو عمر : فهذا القول مع قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لعائشة طوافك بالبيت وبين الصفا والمروة يكفيك لحجتك وعمرتك يوضح وجوب السعي ، وبالله التوفيق .

وقد ذكرنا اختلاف أصحابنا فيمن ترك الرمل في الطواف بالبيت ، أو ترك الهرولة في السعي بين الصفا والمروة فيما تقدم من كتابنا هذا ، والذي عليه أكثر الفقهاء أن ذلك خفيف ، لا شيء فيه ، وذلك - والله أعلم - لما ذكره عبد الرزاق ، عن الثوري عن عبد الكريم الجزري عن سعيد بن جبير قال : رأيت ابن عمر يمشي بين الصفا والمروة ، ثم قال : إن مشيت فقد رأيت رسول الله يمشي ، وإن سعيت فقد رأيت رسول الله يسعى .

وروى سفيان أيضا ، عن عطاء [ ص: 104 ] بن السائب عن كثير بن جمهان ، عن ابن عمر مثله ، سواء ، وزاد : وأخبرنا شيخ كبير .

قال أبو عمر : لا ينبغي لأحد قوي على السعي والهرولة والاشتداد تركه ، ومن كان شيخا ضعيفا ، أو مريضا فالله أعذر بالعذر ، ويجزئه المشي ; لأن السعي العمل ، وقد عمله بالمشي .

واختلف العلماء فيمن قدم السعي بين الصفا والمروة على الطواف بالبيت ، فقال عطاء بن أبي رباح : يجزئه ، ولا يعيد السعي ، ولا شيء عليه . وكذلك قال الأوزاعي وطائفة من أهل الحديث ، واختلف في ذلك عن الثوري فروي عنه مثل قول الأوزاعي وعطاء .

وروي عنه أنه يعيد السعي .

وقال مالك والشافعي وأبو حنيفة وأصحابهم : لا يجزئه ، وعليه أن يعيد ، إلا أن مالكا وأبا حنيفة قالا : يعيد الطواف والسعي جميعا .

وقال الشافعي : يعيد السعي وحده ليكون بعد الطواف ، ولا شيء عليه ، واختلفوا والمسألة بحالها إذا خرج من مكة فأبعد أو وطئ النساء ، فقال مالك : يرجع فيطوف ويسعى ، وإن كان وطئ النساء اعتمر وأهدى ، يعني إذا كان وطؤه بعد رميه جمرة العقبة وبعد الوقوف بعرفة .

وقال الشافعي : يرجع حيث كان فيسعى ويهدي ، ولا معنى للعمرة هاهنا .

وروي عن أبي حنيفة مثل قول الشافعي سواء .

وروي عنه إذا بلغ بلاده أهدى وأجزأه .

قال أبو عمر : لا فرق عند مالك والشافعي بين من نسي السعي بين الصفا والمروة وبين من قدم السعي على الطواف ، وعليه أن يأتي بالسعي [ ص: 105 ] عندهما أبدا ، وإن أبعد ، على ما قدمنا من اختلافهما في إعادة الطواف معه ، فإن وطئ كان عليه هدي بدنة عند الشافعي مع الإتيان بالسعي ، وكان عليه عند مالك أن يطوف ويسعى ويعتمر ويهدي ، وكذلك من نسي الطواف الواجب بالبيت ، سواء عندهما كمن نسي السعي بين الصفا والمروة على أصل كل واحد منهما ، لا فرق بين شيء من ذلك عندهما ، وعند من قال بقولهما ، قال مالك في موطئه : من نسي السعي بين الصفا والمروة في عمرة فلم يذكر حتى يستبعد من مكة أنه يرجع فيسعى ، وإن أصاب النساء فليرجع ، فليسع بين الصفا والمروة حتى يتم ما بقي عليه من تلك العمرة ، ثم عليه عمرة أخرى والهدي .

قال أبو عمر : إنما أوجب مالك في هذه المسألة العمرة والهدي ليكون سعيه في إحرام صحيح ، لا في إحرام فاسد بالوطء ، وليكون طوافه بالبيت في إحرام صحيح ، لا في إحرام فاسد ، والله أعلم .




الخدمات العلمية