الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
5396 - وعن حذيفة - رضي الله عنه - قال : قلت : يا رسول الله ! أيكون بعد هذا الخير شر ، كما كان قبله شر ؟ قال : " نعم " ، قلت : فما العصمة ؟ قال : " السيف " ، قلت : وهل بعد السيف بقية ؟ قال " نعم " تكون إمارة أقذاء ، وهدنة على دخن " . قلت : ثم ماذا ؟ قال : " ثم ينشأ دعاة الضلال ، فإن كان لله في الأرض خليفة جلد ظهرك ، وأخذ مالك ، فأطعه ، وإلا فمت وأنت عاض على جذل شجرة " ، قلت : ثم ماذا ؟ قال : " ثم يخرج الدجال بعد ذلك ، معه نهر ونار ، فمن وقع في ناره ، وجب أجره ، وحط وزره ، ومن وقع في نهره ، وجب وزره ، وحط أجره " . قال : قلت : ثم ماذا ؟ قال : ثم ينتج المهر فلا يركب حتى تقوم الساعة " ، وفي رواية : قال : " هدنة على دخن ، وجماعة على أقذاء " ، قلت : يا رسول الله ! الهدنة على الدخن ما هي ؟ قال : " لا ترجع قلوب أقوام على الذي كانت عليه " ، قلت : بعد هذا الخير شر ؟ قال : " فتنة عمياء صماء ، عليها دعاة على أبواب النار ، فإن مت يا حذيفة ! وأنت عاض على جذل خير لك من أن تتبع أحدا منهم " . رواه أبو داود .

التالي السابق


5396 - ( وعن حذيفة ، قال : قلت : يا رسول الله ! أيكون بعد هذا الخير ) أي : الإسلام والنظام التام ، المشار إليه بقوله تعالى اليوم أكملت لكم دينكم ، والمعنى : أيوجد ويحدث بعد وجود هذا الخير ( شر ، كما كان قبله ) أي : قبل الخير من الإسلام ، وهو زمن الجاهلية ( شر ؟ قال : " نعم " ) أي : لأن ما وراء كل كمال زوال ، إلا كمال ذي الجلال والجمال ، ( قلت : فما العصمة ؟ ) أي : فما طريق النجاة ، من الثبات على الخير ، والمحافظة عن الوقوع في ذلك الشر ؟ ( قال : " السيف " ) أي : تحصل العصمة باستعمال السيف ، أو طريقها أن تضربهم بالسيف . قال قتادة : المراد بهذه الطائفة هم الذين ارتدوا بعد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - في زمن خلافة الصديق - رضي الله عنه - كذا ذكره الشراح ، ويمكن أن يشمل ما وقع من معاوية مع علي - رضي الله عنهما - فإن الحق كان مع علي ، وأن العصمة كانت بالمقاتلة مع معاوية ; كما يدل عليه حديث عمار : " تقتلك الفئة الباغية " ، وقد قال تعالى : فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله ، ( قلت : وهل بعد السيف فتنة ؟ ) أي : من الشر أو من الخير . قال شارح : أي : هل يبقى الإسلام بعد محاربتنا إياهم ؟ ( قال : " نعم ، تكون إمارة " ) بكسر الهمزة أي : ولاية وسلطة ، ( " على أقذاء " ) في النهاية : الأقذاء جمع قذى ، والقذى جمع قذاة ، وهي ما يقع [ ص: 3391 ] في العين والماء والشراب من تراب أو تبن أو وسخ أو غير ذلك ، أراد أن اجتماعهم يكون على فساد في قلوبكم ، فشبهه بقذى العين ونحوها ، قال القاضي - رحمه الله : أي : إمارة مشوبة بشيء من البدع وارتكاب المناهي ، ( " وهدنة " ) بضم الهاء أي : صلح ( " على دخن " ) بفتحتين أي : مع خداع ونفاق وخيانة . وفي الفائق : هدن أي : سكن ، ضربه مثلا لما بينهم من الفساد الباطن تحت الصلاح الظاهر ، اهـ .

ويمكن أن يكون المعنى : ثم يكون اجتماع الناس على من جعل أميرا بكراهية نفس لا بطيب قلب ، يقال : فعلت كذا وفى العين قذى ، أي : فعلته على كراهة وإغماض عين ، كما أن العين التي يقع فيها القذى ظاهرها صحيح وباطنها صريخ ، وأصل الدخن هو الكدورة واللون الذي يضرب إلى السواد ، فيكون فيه إشعار إلى أنه صلاح مشوب بالفساد ; فيكون إشارة إلى صلح الحسن مع معاوية وتفويض الملك إليه واستقرار أمر الإمارة عليه ، وبه يظهر أن معاوية بصلح الحسن لم يصر خليفة ، خلافا لمن توهم خلاف ذلك ، والله تعالى أعلم .

( قلت : ثم ماذا ؟ ) أي : ماذا يكون ( قال : " ثم تنشأ " ) أي : تظهر ( " دعاة الضلال " ) أي : جماعة يدعون الناس إلى البدع أو المعاصي ، ( " فإن كان لله في الأرض خليفة " ) أي : موجودا فيها ، ولو من صفته أنه ( " جلد ظهرك " ) أي : ضربك بالباطل ( " وأخذ مالك " ) أي : بالغصب ، أو ما لك من المنصب ، والنصيب بالتعدي ( " فأطعه " ) أي : ولا تخالفه ; لئلا تثور فتنة ( " وإلا " ) أي : وإن لم يكن لله في الأرض خليفة ( " فمت " ) : أمر من مات يموت ، إشارة إلى ما قيل : موتوا قبل أن تموتوا ، وكأنه عبر عن الخمول والعزلة بالموت ، فإن غالب لذة الحياة تكون بالشهرة والخلطة والخلوة ، ( " وأنت عاض " ) : بتشديد الضاد والجملة حالية أي : حال كونك آخذا بقوة وماسكا بشدة ( " على جذل شجرة " ) : بكسر الجيم وتفتح أي : أصلها ، قال القاضي : أي : فعليك بالعزلة والصبر على غصص الزمان والتحمل لمشاقه وشدائده ، وعض جذل الشجرة وهو أصلها كناية عن مكابدة الشداد من قولهم : فلان يعض بالحجارة لشدة الألم ، ويحتمل أن يكون المراد منه أن ينقطع عن الناس ، ويتبوأ أجمة ويلزمها إلى أن يموت أو ينقلب الأمر من قولهم : عض الرجل بصاحبه إذا لزمه ولصق به ، ومنه : عضوا عليها بالنواجذ ، وقيل : هذه الجملة قسيمة قوله : فأطعه ، ومعناه : إن لم تطعه أدتك المخالفة إلى ما لا تستطيع أن تصبر عليه ، ويدل على المعنى الأول قوله في الرواية الأخرى : فتنة عمياء صماء عليها دعاة على أبواب النار ، فإن مت يا حذيفة وأنت عاض على جذل خير لك من أن تتبع أحدا منهم . قال الطيبي - رحمه الله : على الوجه الأول لفظه خبر ومعناه الأمر ، وهو قسيم لقوله : فإن كان لله في الأرض خليفة ، على الثاني هو مسبب من قوله : فأطعه ، هذا وفي نسخة : قمت بصيغة الخطاب من القيام بدل فمت . قال السيد جمال الدين - رحمه الله : قم خبر بمعنى الأمر .

( قلت ثم ماذا ؟ ) أي : من الفتن ( قال : " ثم يخرج الدجال " ) أي : زمن المهدي ( " بعد ذلك " ) أي : بعد ما ذكر من وقوع أنواع الشرور والفتن ( " ومعه نهر " ) : بسكون الهاء وفتحها أي : نهر ماء ( " ونار " ) أي : خندق نار ، قيل : إنهما على وجه التخيل من طريق السحر والسيمياء ، وقيل : ماؤه في الحقيقة نار وناره ماء . ( " فمن وقع في ناره " ) أي : من خالفه حتى يلقيه في ناره ، وأضاف النار إليه إيماء إلى أنه ليس بنار حقيقة بل سحرا ( " وجب أجره " ) أي : ثبت وتحقق أجر الواقع ( " وحط " ) أي : ورفع وسومح ( " وزره " ) أي : إثمه السابق ، ( " ومن وقع في نهره " ) أي : حيث وافقه في أمره ( " وجب وزره " ) أي : اللاحق ( " وحط أجره " ) أي : بطل عمله السابق ، ( " قال : قلت : ثم ماذا ؟ قال : " ثم ينتج " ) : بصيغة المجهول أي ثم يولد ( " المهر " ) : بضم وسكون هاء أي : ولد الفرس . قال التوربشتي - رحمه الله : ينتج من النتج لا من النتاج وهو الولادة ولا من الإنتاج ، يقال : نتجت الفرس أو الناقة على بناء ما لم يسم فاعله نتاجا ، ونتجها أهلها نتجا ، [ ص: 3392 ] والإنتاج اقتراب ولادتها ، وقيل : استبانة حملها ، ( " فلا يركب " ) : بكسر الكاف من قولهم : أركب المهر إذا حان وقت ركوبه ، وفي نسخة فتح الكاف أي : " فلا يركب المهر لأجل الفتن أو لقرب الزمن ، ( " حتى تقوم الساعة " ) قيل : المراد به زمن عيسى - عليه الصلاة والسلام - فلا يركب المهر لعدم احتياج الناس فيه إلى محاربة بعضهم بعضا ، أو المراد أن بعد خروج الدجال لا يكون زمان طويل حتى تقوم الساعة ، أي : يكون حينئذ قيام الساعة قريبا قدر زمان إنتاج المهر وإركابه ، وهذا هو الظاهر ، والله تعالى أعلم بالسرائر .

( وفي رواية ) أي : بدل : تكون إمارة على أقذاء إلخ ، ( قال : " هدنة على دخن " ) أي : صلح مع كدورة ، وصفاء مع ظلمة ، ( " وجماعة على أقذاء " ) أي : واجتماع على أهواء مختلفة أو عيوب مؤتلفة ، ( قلت : يا رسول الله ! الهدنة على الدخن ما هي ؟ قال ؟ " لا ترجع قلوب أقوام " ) : برفع قلوب وهو الأصح ، وبنصبه بناء على أن رجع لازم أو متعد ، أي : لا تصير قلوب جماعات أو لا ترد الهدنة قلوبهم ( " على الذي " ) أي : على الوجه الذي أو على الصفاء الذي ( " كانت " ) أي : تلك القلوب ( " عليه " ) أي : لا تكون قلوبهم صافية عن الحقد والبغض كما كانت صافية قبل ذلك ، ( قلت : بعد هذا ) أي : يقع بعد هذا ( الخير شر ؟ قال : " فتنة " ) أي : نعمة يقع شر هو فتنة عظيمة وبلية جسيمة ( " عمياء " ) أي : يعمى فيها الإنسان عن أن يرى الحق ( " صماء " ) أي : يصم أهلها عن أن يسمع فيها كلمة الحق أو النصيحة . قال القاضي - رحمه الله : المراد بكونها عمياء صماء أن تكون بحيث لا يرى منها مخرجا ، ولا يوجد دونها مستغاثا ، أو أن يقع الناس فيها على غرة من غير بصيرة ، فيعمون فيها ويصمون عن تأمل قول الحق واستماع النصح . أقول : ويمكن أن يكون وصف الفتنة بهما كناية عن ظلمتها ، وعدم ظهور الحق فيها ، وعن شدة أمرها وصلابة أهلها ، وعدم التفات بعضهم إلى بعض في المشاهدة والمكانة وأمثالها ، ( " عليها " ) أي : على تلك الفتنة ( " دعاة " ) أي : جماعة قائمة بأمرها وداعية للناس إلى قبولها ( " على أبواب النار " ) حال أي : فكأنهم كائنون على شفا جرف من النار يدعون الخلق إليها حتى يتفقوا على الدخول فيها ، ( " فإن مت " ) بضم الميم وكسرها ( " يا حذيفة ! وأنت عاض على جذل " ) أي : والحال أنك على هذا المنوال من اختيار الاعتزال والقناعة بأكل قشر الأشجار والمنام فوق الأحجار ( " خير لك من أن تتبع " ) : بتشديد التاء الثانية وكسر الموحدة ، ويجوز تخفيفها وفتح الباء ، ( " أحدا منه " ) أي : من أهل الفتنة ، أو من دعاتهم . ( رواه أبو داود ) ، والنسائي ، ذكره ميرك .




الخدمات العلمية