الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
5422 - وعن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال : إن الساعة لا تقوم حتى لا يقسم ميراث ولا يفرح بغنيمة ، ثم قال : عدو يجمعون لأهل الشام ويجمع لهم أهل الإسلام ، يعني الروم ، فيشرط المسلمون شرطة للموت لا ترجع إلا غالبة ، فيقتتلون ، حتى يحجز بينهم الليل ، فيفيء هؤلاء وهؤلاء ، كل غير غالب ، وتفنى الشرطة ، ثم يتشرط المسلمون شرطة للموت لا ترجع إلا غالبة ، فيقتتلون ، حتى يحجز بينهم الليل ، فيفيء هؤلاء وهؤلاء ، كل غير غالب ، وتفنى الشرطة ، ثم يتشرط المسلمون شرطة للموت لا ترجع إلا غالبة ، فيقتلون حتى يمسوا فيفيء هؤلاء وهؤلاء ، كل غير غالب وتفنى الشرطة فإذا كان يوم الرابع نهد إليهم أهل الإسلام ، فيجعل الله الدبرة عليهم ، فيقتتلون مقتلة لم ير مثلها ، حتى إن الطائر ليمر بجنباتهم فلا يخلفهم حتى يخر ميتا ، فيتعاد بنو الأب كانوا مائة فلا يجدونه بقي منهم إلا الرجل الواحد ، فبأي غنيمة يفرح أو أي ميراث يقسم ؟ فبينما هم كذلك إذ سمعوا ببأس هو أكبر من ذلك ، فجاءهم الصريخ : أن الدجال قد خلفهم في ذراريهم ، فيرفضون ما في أيديهم ، ويقبلون فيبعثون عشر فوارس طليعة ، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : " إني لأعرف أسماءهم وأسماء آبائهم ، وألوان خيولهم ، هم خير فوارس ، أو من خير فوارس ، على ظهر الأرض يومئذ " . رواه مسلم .

التالي السابق


5422 - ( وعن عبد الله بن مسعود قال : إن الساعة لا تقوم حتى لا يقسم ميراث ) أي : من كثرة المقتولين ، وقيل من كثرة المال ، والأول أصح ، كذا في الأزهار ، وقيل : حتى يوجد وقت لا يقسم فيه ميراث ; لعدم من يعلم الفرائض ، وأقول : لعل المعنى أنه يرفع الشرع ، فلا يقسم ميراث أصلا ، أو لا يقسم على وفق الشرع كما هو مشاهد في زماننا ، ويحتمل أن يكون معناه أنه من قلة المال وكثرة الفقراء لا يقسم ميراث بين الورثة ; إما لعدم وجود شيء ، أو لكثرة الديون المستغرقة ، أو لأن أصحاب الأموال تكون ظلمة ، فيرجع مالهم إلى بيت المال ، فلا يبقى لأولادهم نصيب في المال ، ولا لهم خلاق في المال ، والله تعالى أعلم بالحال ، ويريده قوله : ( ولا يفرح ) بصيغة المجهول أي : ولا يفرح أحد ( بغنيمة ) : إما لعدم العطاء أو ظلم الظلمة ، وإما للغش والخيانة ، فلا يتهنأ بها أهل الديانة ، ومن القواعد المقررة أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ، فلا يضره ما ذكره الراوي .

( ثم قال ) أي : ابن مسعود ( عدو ) أي : من الروم أو عدو كثير ، وهو مبتدأ خبره ( يجمعون ) أي : الجيش والسلاح ( لأهل الشام ) أي : لمقاتلة أهل الشام ( ويجمع لهم ) أي : لقتال أهل الشام ( أهل الإسلام ، يعني ) أي : قال الراوي : يريد ابن مسعود بالعدو ( الروم ، فيتشرط المسلمون ) : من باب التفعل استعمل تشرط مكان اشترط ، يقال : اشترط فلان بنفسه لأمر كذا ، أي : قدمها وأعلمها وأعدها ، وأشرط نفسه للشيء أعلمه ، ويروى : فيشترط المسلمون ، أي : يهيئون ويعدون ( شرطة ) : بضم الشين وسكون الراء ، طائفة من الجيش تتقدم للقتال ، وتشهد الواقعة ; سموا بذلك لأنهم كالعلامة للجيش ، وقوله : ( للموت ) أي : للحرب ، وفيه نوع تجري ، ففي القاموس : الشرطة واحد الشرط كصرد ، وهم كتيبة تشهد الحرب وتتهيأ للموت ، وطائفة من أعوان الولاة اهـ . والمراد هنا المعنى الأول ، وقيل : سموا بها لأنهم يشترطون أن يتقدموا ويعدوا أنفسهم للهلكة ، ويؤيده قوله : ( لا ترجع ) أي : تلك الشرطة ( إلا غالبة ) : فالجملة صفة ( شرطة ) كاشفة مبينة موضحة ، والمعنى أن المسلمين يبعثون مقدمتهم على أن لا ينهزموا ، بل يتوقفوا ويتثبتوا إلى أن يقتلوا أو يغلبوا ، ( فيقتتلون ) أي : المسلمون والكفار ( حتى يحجز ) : بضم جيم وتكسر أي : يمنع ( بينهم الليل ) أي : دخوله وظلامه فيتركون القتال ( فيفيء ) : مضارع من الفيء بمعنى الزوال أي : يرجع ( هؤلاء ) أي : المسلمون ( وهؤلاء ) أي : الكافرون ( كل ) أي : من الفريقين ( غير غالب ) أي : وغير مغلوب ( وتفنى ) أي : تهلك وتقتل ( الشرطة ) أي : جنسها من الجانبين ، والحاصل أنه يرجع معظم الجيش ، وصاحب الرايات من الطرفين ، ولم يكن لأحدها غلبة على الآخر ، وتفنى شرطة الطرفين ، وإلا لكانت الغلبة لمن تفنى شرطهم ، وقد قال : كل غير غالب ، هذا وفي بعض النسخ المصححة ( شرطة ) بفتح الشين ، فقال السيد جمال الدين : اعلم أن لفظ الشرطة يحتمل وجهين : إن كان الشين فيها مفتوحة ، فمعناه يشترطون معهم شرطة واحدة ، ومعنى فيئهما زوالها بسبب دخول الليل ، وإن كانت مضمومة ، فالمراد منها طائفة هي خيار الجيش ففيه إشكال ; من حيث أن الشرطة إذا فاءت غير غالبة لم تفن ، إذ لو فنيت غير غالبة ، فكيف قال : فيفيء هؤلاء وهؤلاء كل غير غالب وتفنى الشرطة ، ويمكن أن يقال : كان مع الشرطة جمعا آخر من الجيش ، وهم الراجعون غير غالبين لا الشرطة ، أو كان سائر المسلمين في كل يوم مع الشرطة ذلك اليوم فالراجع سائرهم دونها اهـ .

والمعتمد ما قدمناه ، ثم يؤيد ما قدمناه ما ذكره الطيبي - رحمه الله - حيث قال في الفائق : يقال : شرط نفسه لكذا إذا أعلمها له وأعدها ، فحذف المفعول ، والشرط نخبة الجيش وصاحب رايتهم لا النفر الذين تقدموا وهم الشرطة ، وقوله : فيتشرط فإنه في الحديث كذلك استعمل تشرط مكان اشترط فلان بنفسه لأمر كذا أي : قدمها [ ص: 3415 ] وأعدها وأعلمها ، ولو وجدت الرواية بفتح الشين من الشرط لكان معناها أوضح وأقوم مع قوله : وتفنى الشرطة ، أي : يشترطون فيما بينهم شرطا أن لا يرجعوا إلا غالبة يعني يومهم ذلك ، فإذا حجز بينهم الليل ارتفع الشرط الذي شرطوه ، وإنما أدخل فيه التاء لتدل على التوحيد ، أي : يشترطون شرطة واحدة لا مثنوية فيها ، ولا نعرف ذلك من طريق الرواية ، فقال الطيبي - رحمه الله : إذا وجدت الرواية الصريحة الصحيحة وجب الذهاب إليها ، والانحراف عن التحريف من ضم الشين إلى فتحها ، والتزام التكلف في تأويل التاء ، والعدول عن الحقيقة في نفي الشرطة إلى ذلك المجاز البعيد ، وأي مانع من أن يفرض أن الفئة العظيمة من المسلمين أفرزوا من بينهم طائفة تتقدم الجيش للمقاتلة ، واشترطوا عليها أن لا ترجع إلا غالبة ; فلذلك بذلوا جهدهم ، وصدقوا فيما عاهدوا وقاتلوا حتى قتلوا عن آخرهم ، وهو المراد من قوله : وتفنى الشرطة . قال الجوهري : قد شرط عليه كذا ، واشترط عليه وشرط ، وقوله : فيفيء هؤلاء ، المراد منه الفئتان العظيمتان لا الشرطة .

( ثم يتشرط المسلمون شرطة ) أي : أخرى ( للموت لا ترجع إلا غالبة فيقتتلون ، حتى يحجز بينهم الليل ، فيفيء هؤلاء وهؤلاء ، كل غير غالب ، وتفنى الشرطة ثم يتشرط المسلمون شرطة ) أي : ثالثة ( للموت لا ترجع إلا غالبة ، فيقتتلون حتى يمسوا ) أي : يدخلوا في المساء بأن يدخل الليل ، ففي العبارة تفنن ، ( فيفيء هؤلاء وهؤلاء ، كل غير غالب وتفنى الشرطة فإذا كان يوم الرابع نهد إليهم ) أي : نهض وقام وقصد إلى قتالهم ( بقية أهل الإسلام فيجعل الله الدبرة ) : بفتح المهملة والموحدة اسم من الإدبار ، وروي الدابر وهو بمعنى الأول ، أي : الهزيمة ( عليهم ) أي : على الكفار ، وقال شارح : أي : على الروم ، ( فيقتتلون ) : من باب الافتعال ، هذا هو الصحيح الموجود في أكثر النسخ المعتمدة ، وفي نسخة : فيقتلون بصيغة المجهول من الثلاثي ، وهذا مبني لما توهم من أنه متعلق بقوله : فيجعل الله ، والحال أن الأمر خلاف ذلك ، بل هو متعلق بمجموع ما تقدم ، والله تعالى أعلم ، وقوله : ( مقتلة ) مفعول مطلق من غير بابه أو بحذف زوائده ، ونظيره قوله تعالى : والله أنبتكم من الأرض نباتا ، والمعنى مقاتلة عظيمة ، ( لم ير ) أي : لم يبصر أو لم يعرف ( مثلها ، حتى إن الطائر ) بكسر الهمزة وتفتح ( ليمر ) أي : ليريد المرور ( بجنباتهم ) : بجيم فنون مفتوحتين فموحدة ، أي : بنواحيهم ( فلا ) ، وفي نسخة صحيحة فما ( يخلفهم ) : بكسر اللام المشددة من خلفت فلانا ورائي إذا جعلته متأخرا عنك ، والمعنى : فلا يجاوزهم ( حتى يخر ) : بكسر معجمة وتشديد راء أي : حتى يسقط الطائر ( ميتا ) : بتشديد التحتية ويخفف . قال المظهر : يعني يطير الطائر على أولئك الموتى ، فما وصل إلى آخرهم حتى يخر ويسقط ميتا من نتنهم ، أو من طول مسافة مسقط الموتى . وقال الطيبي - رحمه الله تعالى : والمعنى الثاني ينظر إلى قول البحتري في وصف بركة :


لا يبلغ السمك المحصور غايتها لبعد ما بين قاصيها ودانيها

( فيتعاد ) : بصيغة المعلوم ، وقيل بالمجهول من باب التفاعل ، والمعنى : يعد ( بنو الأب ) أي : جماعة حضروا تلك الحرب كلهم أقارب ( كانوا مائة فلا يجدونه ) : الضمير المنصوب لمائة بتأويل المعدود أو العدد ، أي : فلا يجدون عددهم ، أو لبني الأب ; لأنه ليس بجمع حقيقة لفظا ، بل معنى ، كذا قيل ، والحاصل أن بني الأب بمعنى القوم ، والقوم مفردا للفظ جمع المعنى ، فروعي كل منهما حيث قال : فلا يجدونه ( بقي منهم إلا الرجل الواحد ) : [ ص: 3416 ] وخلاصة المعنى : أنهم يشرعون في عد أنفسهم ، فيشرع كل جماعة في عد أقاربهم ، فلا يجدون من مائة إلا واحدا ، وزيدته أنه لم يبق من مائة إلا واحدا ، ( فبأي غنيمة يفرح ) : الفاء تفريعية أو فصيحة . قال الطيبي - رحمه الله : هو جزاء شرط محذوف أبهم أولا في قوله - صلى الله عليه وسلم : إن الساعة لا تقوم حتى لا يقسم ميراث ولا يفرح بغنيمة ; حيث أطلقه ثم بينه بقوله : عدو إلخ ، بأن ذلك مقيد بهذه الصفة ، فحينئذ يصح أن يقال : فإذا كان كذلك فبأي غنيمة يفرح ( أو أي ميراث ) : الظاهر أنه بالرفع أي فأي ميراث ( يقسم ؟ ) : وأو للتنويع ، وفي النسخ بالجر ، فالمعنى : فبأي ميراث تقع القسمة ؟ وتأخير الميراث مع تقدمه سابقا نظيره قوله تعالى : يوم تبيض وجوه وتسود وجوه فأما الذين اسودت وجوههم الآية . ( فبينما هم كذلك إذ سمعوا ) أي : المسلمون ( ببأس ) : بموحدة وهمزة ساكنة ويبدل ، أي : بحرب شديد ، ( هو أكبر ) أي : أعظم ( من ذلك ) أي : مما سبق ، والمراد بالبأس أهله بارتكاب أحد المجازين المشهورين ( فجاءهم ) أي : المسلمين ( الصريخ ) : فعيل من الصراخ ، وهو الصوت ، أي : صوت المستصرخ وهو المستغيث ( أن الدجال ) : بفتح أن ويكسر ( قد خلفهم ) : بتخفيف اللام أي : قعد مكانهم ( في ذراريهم ) : بتشديد الياء أي : أولادهم ، وفي رواية : في أهليهم ( فيرفضون ) : بضم الفاء أي : فيتركون ويلقون ( ما في أيديهم ) أي : من الغنيمة وسائر الأموال فزعا على الأهل والعيال ( ويقبلون ) : من الإقبال أي : ويتوجهون إلى الدجال ( فيبعثون ) أي : يرسلون ( عشر فوارس ) : جمع فارس أي : راكب فرس ( طليعة ) : وهو من يبعث ليطلع على حال العدو ، كالجاسوس ، فعيلة بمعنى فاعلة يستوي فيه الواحد والجمع ، وإنما قال : عشر نظرا إلى أن الفوارس طلائع .

( قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : " إني لأعرف أسماءهم " ) أي : العشرة ( " وأسماء آبائهم ، وألوان خيولهم " ) : فيه مع كونه من المعجزات دلالة على أن علمه تعالى محيط للكليات والجزئيات من الكائنات وغيرها ( " هم خير فوارس ، أو من خير فوارس ) : ظاهره أنه شك من الراوي ( " على ظهر الأرض " : احتراز من الملائكة ( " يومئذ " ) أي : حينئذ ، وهو احتراز من العشرة المبشرة وأمثالهم ( رواه مسلم ) .




الخدمات العلمية