الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
5476 - وعن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : " يخرج الدجال ، فيتوجه قبله رجل من المؤمنين ، فيلقاه المسالح مسالح الدجال فيقولون له : أين تعمد ؟ فيقول : أعمد إلى هذا الذي خرج ، قال : فيقولون له : أوما تؤمن بربنا ؟ فيقول : ما بربنا خفاء . فيقولون : اقتلوه . فيقول بعضهم لبعض : أليس قد نهاكم ربكم أن تقتلوا أحدا دونه " . قال : فينطلقون به إلى الدجال ، فإذا رآه المؤمن قال : يا أيها الناس ! هذا الدجال الذي ذكر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " فيأمر الدجال به فيشج فيقول : خذوه وشجوه ، فيوسع ظهره وبطنه ضربا " قال : فيقول : " أما تؤمن بي ؟ " قال : " فيقول : أنت المسيح الكذاب " . قال : " فيؤمر به فيؤشر بالمئشار من مفرقه حتى يفرق بين رجليه " . قال : ثم يمشي الدجال بين القطعتين ; ثم يقول له : قم ، فيستوي قائما ، ثم يقول له : أتؤمن بي ؟ يقول : ما ازددت إلا بصيرة " ) . قال : " ثم يقول : يا أيها الناس ! إنه لا يفعل بعدي بأحد من الناس " . قال : فيأخذه الدجال ليذبحه ، فيجعل ما بين رقبته إلى ترقوته نحاسا ، فلا يستطيع إليه سبيلا " . قال : " فيأخذ بيديه ورجليه فيقذف به ، فيحسب الناس أنما قذفه إلى النار ، وإنما ألقي في الجنة " . فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : " هذا أعظم الناس شهادة عند رب العالمين " . رواه مسلم .

التالي السابق


5476 - ( وعن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم : يخرج الدجال ، فيتوجه قبله " ) : بكسر قاف وفتح موحدة أي إلى جانبه ( " رجل " ) أي : عظيم ( من المؤمنين " ) ، قال أبو إسحاق إبراهيم بن سفيان الفقيه راوي صحيح مسلم ، يقال : إن هذا الرجل الخضر - عليه الصلاة والسلام - وكذا قال معمر ، وهذا يقتضي أن يكون الخضر حيا ، وقد اختلف العلماء في ذلك ، فالجمهور من الفقهاء والمحدثين وغيرهم وبعض الصوفية على أنه مات ، وذهب جمهور الصوفية وبعض الفقهاء وغيرهم إلى أنه حي ، قال النووي - رحمه الله : وهو الصحيح ، ذكره الشيخ الجزري . ( فيلقاه المسالح ) : بفتح الميم وكسر اللام جمع المسلحة ، وهم القوم ذوو السلاح يحفظون الثغور ( " مسالح الدجال " ) : مرفوع على الإبدال ، وفيه إشارة إلى أن اللام عوض المضاف إليه أو اللام للعهد . قال القاضي - رحمه الله : ولعل المراد به ههنا مقدمة جيشه ، وأصلها موضع السلاح ، ثم استعمل للثغر ; فإنه يعد فيه الأسلحة ، ثم للجند المترصدين ، ثم لمقدمة الجيش ، فإنهم من الجيش كأصحاب الثغور ممن وراءهم من المسلمين ، ( فيقولون له : أين تعمد ؟ ) بكسر الميم أي : تقصد ( " ويقول : أعمد إلى هذا الذي خرج ) أي : خرج عن الحق أو على الخلق ، أو ظهر بالباطل والإشارة للتحقير . ( فيقولون له : أوما تؤمن بربنا ) ؟ يعنون به الدجال حيث وجدوا عنده الجاه والمال ، ( فيقول ) أي : الرجل ( " ما بربنا ) أي : بربي وربكم ، ففيه تغليب ، أو ما بربنا معشر المؤمنين ( " خفاء " ) وما : نافية أي : ليس يخفى علينا صفات ربنا عن غيره لنعدل عنه إليه ، أو لنترك الاعتماد عليه .

ففي كل شيء له شاهد يدل على أنه واحد وأما ما عداه فآثار الحدوث عليه لائحة ، وأنواع النقصان فيه واضحة ، ومن أظهر الأدلة القطعية أن المخلوقية تنافي الربوبية ، والعبودية تناقض الألوهية ما للتراب ورب الأرباب ، كيف والعيوب الظاهرة فيه تشهد لمن له أدنى عقل ، كما لا يخفى ، وفيه إيماء إلى ما سبق من قوله - صلى الله تعالى عليه وسلم : إن الله لا يخفى عليكم إن الله ليس بأعور " . قال الطيبي - رحمه الله : هذا تكذيب لهم ، وبيان لتمويههم وتلبيسهم إذ ما يؤمن بربنا ، كما قال - صلى الله تعالى عليه وسلم : " إن الله لا يخفى عليكم إن الله ليس بأعور " . ( فيقولون : اقتلوه . فيقول [ ص: 3467 ] بعضهم لبعض : أليس قد نهاكم ربكم أن تقتلوا " ) أي : من قتلكم ( " أحدا دونه " ) أي : دون علمه وأمره وإذنه ( " فينطلقون به إلى الدجال فإذا رآه المؤمن " ) أي : أبصر الدجال الرجل المؤمن وقد عرف علاماته ( قال ) : تذكيرا للأمة توهينا للغمة ( " يا أيها الناس هذا الدجال الذي ذكر رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - ) أي : في أحاديثه أنه سيخرج في آخر الزمان .

( قال ) أي : النبي - صلى الله عليه وسلم - ( " فيأمر الدجال به " ) أي : بضربه ( " فيشبح " ) : بتشديد الموحدة المفتوحة أي : يمد للضرب ( " فيقول " ) أي : الدجال ، تأكيدا وتغليظا وتشديدا ( " خذوه " ) أي : امسكوه أخذا شديدا ( " وشجوه " ) : بضم الشين المعجمة وتشديد الجيم أي : اكسروا رأسه ، وفي نسخة فشبحوه بفتح الشين وكسر الموحدة فحاء مهملة ، أي : مدوه على بطنه أو على قفاه ، يقال : تشبح الحرباء على العود ، أي : امتد ، وتشبيح الشيء جعله عريضا ( " فيوسع " ) : بسكون الواو وفتح السين ( ظهره وبطنه ضربا ) أي : يكثر الضرب على ظهره ، وبطنه ، ( قال : " فيقول " ) أي : الدجال ( " أما تؤمن بي " ) ؟ وفي نسخة : أوما تؤمن بي ؟ أي أتنكرني وألوهيتي وما تؤمن بي وبربوبيتي ؟ ( قال : " فيقول " ) أي : المؤمن ( " أنت المسيح الكذاب " ) أي : الذي يقتلك المسيح الصديق . ( قال : " فيؤمر به فيؤشر ) : بضم فسكون همز ويبدل واوا ففتح شين ، أي : فيقطع ( " بالمئشار " ) : بكسر الميم وسكون الهمز ويبدل ياء وبالنون في بعض النسخ ، وهو آلة النشر والقطع ( " من مفرقه " ) : بفتح الميم وكسر الراء ويفتح أي مبتدأ من فرق رأسه ( " حتى يفرق ) : بصيغة المجهول مخففا ويشدد أي : حتى يفصل بدنه قطعتين واقعتين ( " بين رجليه ) أي : في طرفي قدميه .

قال النووي - رحمه الله : قوله يشبح بشين معجمة ثم باء موحدة وحاء مهملة ، وكذا شجوه أي مدوه على بطنه ، وجاء أيضا شجوه بجيم مشددة من الشج وهو الجرح في الرأس ، ثم قال : وهذه الرواية أصح عندنا ، وقوله : فيؤشر ، الرواية فيه بالهمزة والمئشار بهمز بعد الميم وهو الأفصح ، ويجوز تخفيف الهمز فيهما ، فيجعل في الأول واوا ، وفي الثاني ياء ، ويجوز المنشار بالنون ، وعلى هذا يقال : نشرت الخشبة ، " ومفرقه " بكسر الراء وسطه يعني وسط فرقه أو وسط رأسه انتهى .

قال الجزري - رحمه الله : روي هذا الحديث على ثلاثة أوجه يشبح بمعجمة فموحدة فمهملة ، وشجوه بالجيم من الشج وهو الجرح في الرأس والوجه ، وثانيهما يشبح كالأول وشبحوه بالباء والحاء ، وثالثها فيشج وشجوه كلاهما بالجيم ، وهو الذي ذكره المؤلف ، والوجه الثاني هو الذي ذكره الحميدي ، وصححه القاضي عياض ، والأصح عند جماعة من أصحابنا الأول ، والله تعالى أعلم . وقال شارح : يقال : وشرت الخشبة بالميشار إذا نشرته بالمنشار ، وفي الحديث بالياء لا غير ; يدل عليه فيؤشر .

قلت : فيه بحث ; إذ قوله : فيؤشر يحتمل أن يكون بالهمز ، وأن يكون بواو مبدلة أو أصلية ، وكذا في الميشار يصح همزه وإبداله من همز أو من واو ، وهذا لا ينافي أن يكون بالهمز ، وأن يكون المنشار بالنون ، بناء على التفنن في العبارة ، مع أنه هو المشهور باعتبار اللغة على لسان العامة . وفي القاموس : أشر الخشب بالميشار شقه ، ونشر الخشب نحته ، ووشر الخشب بالميشار غير مهموز لغة في أشرها بالمنشار إذا نشرها . انتهى . وبه يعلم أن الأصل هو الهمز والواو لغة في الشق والنون خاص بمعنى النحت .

( قال ) أي : النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - ( " ثم يمشي الدجال بين القطعتين " ) أي : الشقتين من الرجل [ ص: 3467 ] تخييلا لتحقيق القتل ( " ثم يقول له : قم ، فيستوي قائما ، ثم يقول له : أتؤمن بي ؟ فيقول : ما ازددت " ) : بفتح الدال ، وقال شارح : بكسر الدال الأول على بناء المجهول . أقول : صحته موقوفة على إتيانه متعديا إلى مفعولين ، وظاهر ما في القاموس أنه لازم ; حيث قال : زاده الله خيرا فزاد وازداد ، حيث أشار إلى أن زاد لازم ومتعد ، وأن ازداد قاصر فقط حيث جعله مطاوعا ، نعم قوله تعالى : ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم صريح في أنه متعد إلى مفعول واحد ، وأما زاد فيجيء لازما ومتعديا إلى مفعول وإلى مفعولين ، كقوله تعالى : فزادهم إيمانا ، وقيل : نصب إيمانا على التمييز ، وحاصل المعنى ما زدت ( " فيك " ) أي : في معرفتك بفعلك هذا من القتل والإحياء ( " إلا بصيرة " ) أي : زيادة علم ويقين بأنك كاذب مموه ، ( " قال : ثم يقول " ) : المؤمن ( " يا أيها الناس ! إنه " ) أي : الشأن أو الدجال ( " لا يفعل " ) : مفعوله محذوف أي : لا يفعل ما فعل بي من القتل والإحياء - في الظاهر ( " بعدي " ) أي : بعد فعله بي ( " بأحد من الناس " ) ، وفي هذا إخبار عن سلب القدرة الاستدراجية عنه ، وتسلية الناس في الخوف منه ، ( قال : " فيأخذه الدجال ليذبحه ، فيجعل " ) : بضم أوله ، وفي نسخة بفتحه أي : فيجعل الله ( " ما بين رقبته إلى ترقوته " ) : بفتح التاء وسكون الراء وضم القاف وفتح الواو العظم الذي بين ثغرة النحر والعاتق ( " نحاسا ) أي : كالنحاس لا يعمل فيه السيف ، وفي شرح السنة قال معمر : بلغني أنه يجعل على حلقه صفحة نحاس ( " فلا يستطيع " ) أي : الدجال ( " إليه ) أي : إلى وصول قتله ، ولا يقدر على حصول مضرته ( " سبيلا " ) : تمييز أي : طريقا من التعرض ، ( قال : " فيأخذ " ) أي : الدجال ( " بيديه ورجليه فيقذف به " ) أي : يرمي بالمؤمن ويطرحه ( " في الهواء فيحسب الناس " ) : بكسر السين وفتحها أي فيظنون ( " أنما قذفه إلى النار " ) : في تأويل المصدر أي : قذفه إليها ، والأظهر ما اختاره الزمخشري من أن أنما بالفتح يفيد الحصر أيضا ، كما اجتمعا في قوله تعالى : قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد ، ويؤيده قوله : ( " وإنما ألقي " ) : بصيغة المجهول أي : أوقع ( " في الجنة " ) ، واللام للعهد أي : في بستان من بساتين الدنيا ، ويمكن أن يرميه في النار التي معه ، ويجعلها الله عليه جنة ، كما سبق بردا وسلاما على إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - وتصير تلك النار روضة وجنة ، وعلى كل تقدير : فلم يحصل له موت على يده سوى ما تقدم ، وأما قول الراوي ( فقال رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم : " هذا أعظم الناس شهادة عند رب العالمين " ) : فالمراد بها قتله الأول ، فتأمل ; فإنه موضع الزلل والخطل والوحل ، كما وقع فيه الطيبي - رحمه الله - بقوله : فيحسب الناس أن الدجال قذفه فيما يزعم أنه ناره ، وإنما ألقي في الجنة وهي دار البقاء ، يدل عليه قوله : هذا أعظم الناس شهادة ، ونحوه قوله تعالى : ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون فرحين أي يسرحون في ثمار الجنة . أقول : فهذا مناقض لقوله : إنه لا يفعل بعدي بأحد من الناس ، اللهم إلا أن يقال : المراد بقوله لا يفعل بعدي أي بعد قتلي ثانيا بأحد من الناس ، أي : غيري ، ولا يخفى بعده ، والله تعالى أعلم ، وسيأتي في حديث أبي سعيد ما يفيد تأييد ما اخترناه . ( رواه مسلم ) .

[ ص: 3469 ]



الخدمات العلمية