الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
5577 - وعن عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - تلا قول الله تعالى في إبراهيم رب إنهن أضللن كثيرا من الناس فمن تبعني فإنه مني وقال عيسى : إن تعذبهم فإنهم عبادك فرفع يديه ، فقال : " اللهم أمتي أمتي " . وبكى ، فقال الله تعالى : " يا جبريل اذهب إلى محمد ، وربك أعلم ، فسله ما يبكيه ؟ فأتاه جبريل ، فسأله فأخبره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بما قال ، فقال الله لجبريل : اذهب إلى محمد فقل : " إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوءك " . رواه مسلم .

التالي السابق


5577 - ( وعن عبد الله بن عمرو بن العاص ، أن النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - تلا قول الله تعالى في إبراهيم ) : عليه السلام ، أي : في سورته أو حاكيا في حقه ( رب إنهن ) أي : الأصنام ( أضللن كثيرا من الناس ) أي : صرن سبب ضلال كثير منهم ( فمن تبعني ) أي : في التوحيد والإخلاص والتوكل ( فإنه مني ) [ ص: 3547 ] أي من أتباعي وأشياعي ، وتمامه : ( ومن عصاني فإنك غفور رحيم ) أي : تغفر ما دون الشرك لمن تشاء وترحمه بالتفضل على من تشاء ، أو تغفر للعاصي المشرك بأن توفقه للإيمان والطاعة في الدنيا ، وترحم عليه بزيادة المثوبة في العقبى . ( وقال عيسى عليه السلام ) ، قال النووي - رحمه الله : هو مصدر ، يقال : قال قولا وقيلا ، وقد أضاف إلى عيسى عطفا على مفعول تلا ، أي : تلا قول الله وقول عيسى : إن تعذبهم فإنهم عبادك ، وآخره : وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم أي : لا يغلبنك شيء ; فإنك القوي القادر وتحكم بما تشاء ، فأنت الحاكم الذي لا معقب لحكمه ، أو الحكيم الذي يضع الأشياء في موضعها ، ويتقن الأفعال ويحسنها ، ( فرفع ) أي : النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - ( يديه ) أي : كريمتيه ( فقال : اللهم أمتي أمتي ) أي : اللهم اغفر لأمتي ، اللهم ارحم أمتي ، ولعل هذا وجه التكرار ، أو أريد به التأكيد ، أو قصد به الأولون والآخرون ( وبكى ) ; لأنه تذكر النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - الشفاعة الصادرة عن الخليل وروح الله فرق لأمته ( فقال الله تعالى : يا جبريل اذهب إلى محمد ، وربك أعلم ) : جملة معترضة حالية دفعا لما يوهمه قوله : ( فاسأله ) : بالهمز والنقل ( ما يبكيه ، فأتاه جبريل فسأله ، فأخبره رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم بما قال ) أي : بشيء قاله النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - من سبب البكاء ، وهو الخوف لأجل أمته ( فقال له لجبريل : اذهب إلى محمد ، فقل : إنا ) أي : بعظمتنا ( سنرضيك ) أي : سنجعلك راضيا ( في أمتك ) أي : في حقهم ( ولا نسوءك ) أي : ولا نحزنك في حق الجميع ، بل ننجيهم ، ولأجل رضاك نرضيهم ، وهو في المعنى تأكيد ; إذ ربما يتوهم من سنرضيك نرضيك في حق البعض ; ولذا قال بعضهم : ما يرضى محمد وأحد من أمته في النار . قال الطيبي - رحمه الله : لعله - عليه الصلاة والسلام - أتى بذكر الشفاعة التي صدرت عن النبيين عن الخليل بتقدير الشرط والصيغة الشرطية ; لأن المعنى أن الأصنام أضللن كثيرا من الناس ، فمن تاب من عبادتها وتبعني في التوحيد ، فإنه متصل بي فأقبل شفاعتي فيهم ، فلا بد من تقدير تاب لأنه مصحح الشفاعة في حق المشركين . قلت إنما يحتاج تقدير تاب في الشرطية الثانية ، وهي قوله : ومن عصاني . قال : وعن روح الله كذلك ; لأن الضمير في ( تغفر لهم ) راجع إلى من اتخذه وأمه إلهين من دون الله ، فيكون التقدير : إن تغفر لهم بعدما تابوا عن ذلك ; فإنك غفور رحيم . قلت : لا يلائمه ما قبله ، وهو قوله : إن تعذبهم فإنهم عبادك ، مع أن هذا الكلام يصدر عنه يوم القيامة ، ولا يمكن تقدير التوبة هناك ، ثم الجزاء في الآية إنما هو قوله : فإنك أنت العزيز الحكيم في كلام عيسى - عليه الصلاة والسلام - وأما قوله : فإنك غفور رحيم جزاء للشرطية الواقعة في كلام إبراهيم ( ومن عصاني فإنك غفور رحيم ) ، ثم قال وعقبه بقوله : اللهم أمتي ; ليبين لهم الفرق بين الشفاعتين ; ويبين ما بين المنزلتين ، وفيه أن هذا البيان يحتاج إلى البرهان والتبيان ، فإن العرض بطريق الكناية أبلغ من التصريح بالدعاء ، كما هو مقرر عند أرباب الفناء والبقاء ، وكذلك طريق التفويض والتسليم والرضا بالقضاء ، ولا يظهر بيان للمدعي ولا تبيان للمعنى في قوله ، وتحريره أن قوله : أمتي أمتي متعلق بمحذوف إما أن يقدر شفعني في أمتي وأرضني فيها ، أو أمتي ارحمهم وأرضني بالشفاعة فيهم ، والحذف لضيق المقام وشدة الاهتمام . قلت : يحتاج أيضا هذا الكلام إلى توضيح المرام . قال : وهذا يدل على الجزم والقطع . قلت : الدعاء لا يكون بطريق القطع ; إذ لا حكم على الله سبحانه ، فمآل الطريقين في الدعاء واحد ، وليس لهذا المقصد جاحد . قال : والتكرير لمزيد التقرير . قلت : قد تقدم وجوه أخر ، والأظهر أنه من مستحبات الدعاء ; فإن الإلحاح من العبد في المسألة لا ينافي الرضا بالقضاء . قال : ومن ثم أجيب في الحديث بقوله :

[ ص: 3548 ] إنا سنرضيك ; حيث أتى بأن وضمير التعظيم وسين التأكيد ، ثم أتبعه بقوله : لا نسوءك تقريرا بعد تقرير على الطرد والعكس وفي التنزيل : ولسوف يعطيك ربك فترضى زيد لام الابتداء على حرف الاستقبال ولفظة : ربك ، وجمع بين حرفي التأكيد والتأخير ; فيكون المعنى : ولأنت سوف يعطيك ربك ، وإن تأخر العطاء ، وقوله : وربك أعلم من باب التتميم صيانة عما لا ينبغي أن يتوهم ، فهو كقوله : والله يعلم إنك لرسوله في قوله تعالى : قالوا نشهد إنك لرسول الله والله يعلم إنك لرسوله والله يشهد إن المنافقين لكاذبون .

قال النووي - رحمه الله : هذا الحديث مشتمل على أنواع من الفوائد ، منها : بيان كمال شفقته - صلى الله تعالى عليه وسلم - على أمته ، واعتنائه بمصالحهم ، واهتمامه في أمرهم ، ومنها : البشارة العظيمة لهذه الأمة المرحومة بما وعده الله تعالى بقوله : سنرضيك في أمتك ولا نسوءك ، وهذا من أرجى الأحاديث لهذه الأمة ، ومنها : بيان عظم منزلة النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - عند الله تعالى ، والحكمة في إرسال جبريل - عليه الصلاة والسلام - لسؤاله - صلى الله تعالى عليه وسلم - إظهارا لشرفه ، وأنه بالمحل الأعلى ; فيرضى ويكرم . ( رواه مسلم ) ، وكذا البخاري ، والنسائي ، ذكره السيد .




الخدمات العلمية