الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
5608 - 5609 - وعن حذيفة وأبي هريرة - رضي الله عنهما - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : " يجمع الله تبارك وتعالى الناس ، فيقوم المؤمنون ، حتى تزلف لهم الجنة ، فيأتون آدم فيقولون : يا أبانا استفتح لنا الجنة ، فيقول : وهل أخرجكم من الجنة إلا خطيئة أبيكم ؟ لست بصاحب ذلك ، اذهبوا إلى ابني إبراهيم خليل الله " قال : " فيقول إبراهيم : لست بصاحب ذلك ، إنما كنت خليلا من وراء وراء ، اعمدوا إلى موسى الذي كلمه الله تكليما ، فيأتون موسى فيقول : لست بصاحب ذلك ، اذهبوا إلى عيسى كلمة الله وروحه ، فيقول عيسى : لست بصاحب ذلك ، فيأتون محمدا - صلى الله عليه وسلم - فيقوم فيؤذن له ، وترسل الأمانة والرحم ، فيقومان جنبتي الصراط يمينا وشمالا ، فيمر أولكم كالبرق " . قال : قلت : بأبي أنت وأمي ، أي شيء كمر البرق ؟ قال : ( ألم تروا إلى البرق كيف يمر ويرجع في طرفة عين ، ثم كمر الريح ، ثم كمر الطير ، وشد الرجال ، تجري بهم أعمالهم ، ونبيكم قائم على الصراط يقول : يا رب سلم سلم ، حتى تعجز أعمال العباد ، حتى يجيء الرجل فلا يستطيع السير إلا زحفا . وقال : " وفي حافتي الصراط كلاليب معلقة مأمورة ، تأخذ من أمرت به ، فمخدوش ناج ، ومكردس في النار " . والذي نفس أبي هريرة بيده إن قعر جهنم لسبعين خريفا . رواه مسلم .

التالي السابق


5608 - 5609 - ( وعن حذيفة وأبي هريرة قالا ) أي : كلاهما ( قال رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم : يجمع الله تبارك وتعالى الناس ) : المراد بهم الخلق ، وخصوا بالذكر للتشريف ; فإنهم عمدة أرباب التكليف ( فيقوم المؤمنون ) أي : الخواص من عموم الناس ( حتى تزلف ) : بضم التاء وسكون الزاي وفتح اللام وبالفاء أي : تقرب ( لهم الجنة ) ، ومنه قوله تعالى : وإذا الجنة أزلفت علمت نفس ما أحضرت ، ( فيأتون ) أي : المؤمنون ( آدم ) ، والمراد منهم بعضهم الخواص من كل أمة ( فيقولون : يا أبانا استفتح لنا الجنة ) أي : اطلب فتح بابها حتى ندخلها ، ( فيقول : وهل أخرجكم من الجنة إلا خطيئة أبيكم ) ؟ أي : وصاحب الخطيئة لا يصلح للشفاعة ، بل هو محتاج بنفسه إلى الضراعة ، وهذا معنى قوله : ( لست بصاحب ذلك ) أي : ذلك المقام الذي أردتموه من الشفاعة

[ ص: 3573 ] الكبرى ، والمرتبة العظيمة المسماة بالمقام المحمود المخصوص لصاحب اللواء الممدود ( اذهبوا إلى ابني إبراهيم خليل الله ) أي : فإنه من أفضل الرسل ، وجد خاتم الأنبياء ، فتقربوا إليه واعرضوا أمركم عليه ( قال : " فيقول إبراهيم : لست بصاحب ذلك ) أي : المقام الموعود والمرام المشهود ( إنما كنت خليلا من وراء وراء ) : بالفتح فيهما على ما في الأصول المعتمدة ، والنسخ المقروءة المصححة . قال النووي - رحمه الله : المشهور الفتح فيهما بلا تنوين ، ويجوز في العربية بناؤها على الضم . قال أبو البقاء : الصواب الضم فيهما ; لأن تقديره من وراء ذلك ، قال : وإن صح الفتح قبل ، وقال الشيخ أبو عبد الله : الفتح أصح ، وتكون الكلمة مركبة كشذر مذر ، وشعر بغر ، فبناؤهما على الفتح ، وإن ورد منصوبا منونا جاز ذلك . ( اعمدوا ) : بكسر الميم أي : اقصدوا ( إلى موسى الذي كلمه الله تكليما ) أي : بلا واسطة كتاب ومن غير وراء حجاب . قال صاحب التحرير : وهذا وارد على سبيل التواضع ، أي : لست بصدد تلك الدرجة الرفيعة ، ومعناه أن المكارم التي أعطيتها كانت بواسطة سفارة جبريل - عليه الصلاة والسلام - ولكن ائتوا موسى - عليه الصلاة والسلام - فإنه حصل له الكلام بغير واسطة . قال : وإنما كرر لأن نبينا - صلى الله تعالى عليه وسلم - حصل له السماع بغير واسطة ، وحصل له الرؤية أيضا ، فكأنه قال : أنا وراء موسى الذي هو وراء محمد - صلى الله تعالى عليه وسلم .

( فيأتون موسى فيقول : لست بصاحب ذلك ، اذهبوا إلى عيسى كلمة الله وروحه ) : بالجر على البدلية ، ويجوز رفعهما ونصبهما على المدح ( فيقول عيسى : لست بصاحب ذلك ) ; وحينئذ ينحصر الأمر في نبينا خاتم الرسل ومقدم الكل ، ( فيأتون محمدا - صلى الله تعالى عليه وسلم - ) فيه وضع الظاهر موضع ضمير المتكلم على سبيل الالتفات ، أو على طريق التجريد ، ( فيقوم ) أي : عن يمين عرش الرحمن ، ويستأذن بالشفاعة في نوع الإنسان ; لإزالة كرب الموقف وعموم الأحزان ( فيؤذن له ) أي : فيسجد ، على ما سبق ، ( وترسل الأمانة والرحم ) أي : مصورتين كما تقدم ، ( فتقومان ) : بالتأنيث على تغليب الأمانة المتقدمة ، وبالتذكير على تغليب الرحم المذكر ، أي : فيقفان ، أو فيحضران ( جنبتي الصراط ) : بالفتحات أي : طرفيه ( يمينا وشمالا ) : كالبيان لما قبله ، ونصبهما على البدلية أو الظرفية ، ( فيمر أولكم ) : التفات من الغيبة العامة إلى الخطاب للخاصة ( كالبرق ) أي : في سرعة السير .

( قال ) أي : أبو هريرة ( قلت : بأبي أنت وأمي ) : الباء للتعدية ، أي : أفديك بهما ( أي شيء ) : استفهام ( كمر البرق ) ؟ أي : أي شيء شبيه بالبرق ، والمعنى أي شيء تشبهه بالبرق . ( قال : ألم تروا إلى البرق كيف يمر ) أي : سريعا ( ويرجع في طرفة عين ) ، ذكره على سبيل الاستطراد ، أو على طريق التتميم للمعنى المراد ، فيكون الجواب بأنه يشبهه في سرعة السير ، كذا حرره الشراح ، وعندي أن التشبيه مركب من سرعة المرور ، ومن ضياء الظهور ; ليكون نورا على نور ; وليكون إشارة إلى البدن والروح ، وإلى الظاهر والباطن ، وإلى الكمية والكيفية ، وأيضا المرور مذكور في كلام السائل ، ولا بد في الجواب من أمر زائد ، والله تعالى أعلم ، ثم الظاهر أي المراد بهم الأنبياء ، ويحتمل أن يراد بهم الأصفياء من هذه الأمة ، وهم أرباب الجذبات الإلهية . ( ثم كمر الريح ، ثم كمر الطير ، وشد الرجال ) أي : جريهم ، والرجال إما جمع رجل ، أو جمع راجل . قال الطيبي - رحمه الله : قوله : أي شيء كمر البرق ؟ أي : ما الذي يشبهه من المارين بمر البرق ، وقوله : ألم تروا إلى البرق ، بيان لما شبهوا به بالبرق ، وهو سرعة اللمعان ، يعني سرعة مرورهم على الصراط كسرعة لمعان البرق ، كأنه - أي السائل - استبعد أن يكون في الإنسان ما يشبه البرق في السرعة ; فسأل عن أمر آخر هو المشبه ، فأجاب بأن ذلك غير مستبعد ، وليس بمستنكر أن يمنحهم الله تعالى ذلك بسبب أعمالهم الحسنة ، ألا [ ص: 3574 ] ترى كيف أسند الجريان إلى الأعمال في قوله : ( تجري بهم أعمالهم ) أي : تجري وهي ملتبسة بهم ; لقوله تعالى : وهي تجري بهم في موج كالجبال ويجوز أن يكون الباء للتعدية ، أي : تجعلهم جارين ( ونبيكم قائم على الصراط يقول : يا رب سلم سلم ، حتى تعجز أعمال العباد ) : متعلق بتجري ، والجملة قبله معترضة بيانية أو حالية ، والمعنى : تجري بهم أعمالهم حتى تعجز أعمالهم عن الجريان بهم ، ( حتى يجيء الرجل ) : بدل من قوله حتى تعجز ، وتوضيح له ( فلا يستطيع ) أي : الرجل ; لضعف عمله ; وتقاعده عن السبق في الدنيا ( السير ) أي : المرور على الصراط ( إلا زحفا ) أي : حبوا كما تقدم ، والله تعالى أعلم .

( قال ) أي : النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - أو أبو هريرة مرفوعا ( وفي حافتي الصراط ) : بتخفيف الفاء أي جانبيه ( كلاليب ) : جمع كلاب ( معلقة مأمورة ، تأخذ ) أي : هي ( من أمرت به ) ، ولو روي بالباء وفتح الهمزة وسكون الخاء على المصدر لكان له وجه وجيه ، ( فمخدوش ) أي : فمنهم مجروح ( ناج ) أي : من الوقوع في النار ( ومكردس في النار ) : بفتح الدال المهملة وبالسين المهملة ، وقيل : المعجمة ، وهو الذي جمعت يداه ورجلاه وألقي في موضع ، كذا في النهاية في السين المهملة ، ثم قال والمكردش بمعناه ، وفي نسخة مكدوس بالمهملة ، أي : مدفوع في النار ، ذكره في النهاية ، ثم قال : ويروى بالمعجمة من الكدش وهو السوق الشديد ، والكدش الطرد ، والجرح أيضا . وفي القاموس : كدسه أي صرعه ، وبالمعجمة دفعه دفعا عنيفا ( والذي نفس أبي هريرة بيده ) ، هذا يؤيد أن مرجع ضمير قال إليه ، ثم هذا القسم إما موقوف عليه ، أو مرفوع إليه - صلى الله تعالى عليه وسلم - ( إن قعر جهنم لسبعين خريفا ) ، قال الدماميني أي أن مسافة السير إليه لسبعين خريفا ، وقال صاحب المغني : وجهه أن القعر مصدر قعرت البئر إذا بلغت قعرها ، وسبعين : ظرفه ، أي أن بلوغ قعرها يكون في سبعين عاما ، وفي نسخة بالواو . قال النووي - رحمه الله - في بعض الأصول : سبعون بالواو ، وهو ظاهر ، وفيه حذف ، أي : مسافة قعر جهنم مسيرة سبعين خريفا . وفي معظم الأصول والروايات سبعين بالياء ، وهو صحيح أيضا على تقدير مسيرة سبعين ، فحذف المضاف وترك المضاف إليه على إعرابه ، أو يكون التقدير أن بلوغ قعر جهنم لكائن في سبعين خريفا ، وسبعين خريفا ظرف لمحذوف . ( رواه مسلم ) .




الخدمات العلمية