الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
5865 - وعن عبد الله رضي الله عنه ، قال : لما أسري برسول الله - صلى الله عليه وسلم - انتهي به إلى سدرة المنتهى ، وهي في السماء السادسة ، إليها ينتهي ما يعرج به من الأرض فيقبض منها ، وإليها ينتهي ما يهبط به من فوقها فيقبض منها ، قال : إذ يغشى السدرة ما يغشى . قال : فراش من ذهب ، قال : فأعطي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاثا : أعطي الصلوات الخمس ، وأعطي خواتيم سورة البقرة ، وغفر لمن لا يشرك بالله من أمته شيئا المقحمات . رواه مسلم .

التالي السابق


5865 - ( وعن عبد الله ) أي : ابن مسعود رضي الله عنه ( قال : لما أسري برسول الله - صلى الله عليه وسلم - انتهي به إلى سدرة المنتهى ، وهي في السماء السادسة ) ، قال شارح : وهم بعض الرواة في السادسة ، والصواب في السابعة على ما هو المشهور بين الجمهور من الرواة اهـ . والمعنى أن إضافة السهو إلى واحد منهم أولى ، ولأنه ورد أن علم الخلائق ينتهي إليها ، وليس كذلك في السادسة على ما لا يخفى . وقال النووي : هكذا هو في جميع الأصول . قال القاضي : كونها في السابعة هو الأصح ، وقول الأكثرين وهو الذي يقتضيه المعنى وتسميتها بالمنتهى . قال النووي : ويمكن أن يجمع بينهما ، أن يكون أصلها في السادسة ومعظمها في السابعة ، فقد علم أنها في نهاية من العظم ، وقد قال الخليل : السدرة في السماء السابعة قد أظلت السماوات والجنة ، وقد ذكر القاضي عياض أن مقتضى خروج النهرين الظاهرين النيل والفرات من أصل المنتهى أن يكون أصلها في الأرض ، فإن سلم له هذا أمكن حمله على ما ذكرناه . ( إليها ) أي : إلى السدرة ( ينتهي ما يعرج به من الأرض ) أي : ما يصعد به من الأعمال والأرواح الكائنة في الجمة السفلى ( فيقبض منها ) ، بصيغة المجهول فيه وفيما بعده ، ويحتمل تعدد القابض واتحاده فيهما ( وإليها ينتهي ما يهبط من فوقها ) أي : من الوحي والأحكام النازلة من الجهة العليا ( فيقبض منها ، قال ) أي : قرأ ابن مسعود أو قال الله تعالى : إذ يغشى السدرة ما يغشى قال ) أي : ابن مسعود في تفسير قوله : ما يغشى ( فراش ) أي : هو فراش ( من ذهب ) : يحتمل أن يكون مرفوعا أو في حكم المرفوع .

قال الطيبي : فإن قلت : كيف التوفيق بين هذا وبين قوله في غير هذا الحديث : فغشيها ألوان لا أدري ما هي ؟ قلت : قوله غشيها ألوان لا أدري ما هي في موقع قوله : إذ يغشى السدرة ما يغشى في إرادة الإبهام والتهويل ، وإن كان معلوما ، كما في قوله تعالى : فغشيهم من اليم ما غشيهم في حق فرعون ، قوله هنا : فراش من ذهب ، بيان له . أقول : الأظهر والله أعلم : أن ما يغشى أشياء كثيرة لا تحصى ، ومما لا يمكن أن يحاط بها ويستقصى ، لأن نفس السدرة إذا كانت هي المنتهى ، فكيف يكون إحاطة العلم بما فوقها مما يغشى ، وهو لا ينافي ذكر بعض ما رأى ورؤي ، وبه يجمع بين سائر الروايات والأقوال . فقيل : يغشاها جم غفير من الملائكة . وروي أنه - صلى الله عليه وسلم - قال : ( رأيت على كل ورقة ملكا قائما يسبح ) وقيل : فرق من الطير الخضر وهي أرواح الأنبياء ، وقيل غير ذلك على أن في قوله : لا أدري إشارة إلى أنها لا تشبه الأعيان المشهودة المستحقرة في النفوس الموجودة ، فينعت لهم بذكر نظائرها . ثم اعلم أن الفراش بالفتح طير معروف ، ومنه قوله تعالى : يوم يكون الناس كالفراش المبثوث وقد قال شارح : الفراش ما تراه كصغار البق يتهافت ويتساقط في النار ، وقيل : يحتمل أن يكون المراد بالفراش أرواح الأنبياء ، وهذا لا ينافي قوله في غير هذا الحديث : فغشيها ألوان لا أدري ما هي لجواز أن يكون هذا أيضا مما غشيها اهـ وتبين البون البين بين هذه الآية ، وبين قوله تعالى : فغشيهم من اليم ما غشيهم حيث إنه وقع الإبهام هنا لتعظيمه ، والعجز عن إحاطته ، وفي قضية فرعون إشارة إلى معلوميته وحقارته .

( قال ) أي : ابن مسعود ( فأعطي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ) أي : تلك الليلة أو في ذلك المقام والحال ( ثلاثا ) أي : لها على ما عداها مزية كاملة ( أعطي الصلوات الخمس ) أي : فرضيتها ( وأعطي خواتيم سورة البقرة ) ، أي إجابة دعواتها ، فإن قلت : هذا بظاهره ينافي ما ثبت في صحيح مسلم وغيره من حديث ابن عباس بينا جبريل قاعد عند النبي - صلى الله عليه وسلم - سمع نقيضا من فوقه أي صوتا ، فرفع رأسه فقال : هذا ملك نزل إلى الأرض لم ينزل قط إلا اليوم ، فسلم وقال : أبشر بنورين أوتيتهما لم يؤتهما نبي قبلك : فاتحة الكتاب وخواتيم سورة البقرة ، لن تقرأ بحرف منها إلا أعطيته . قلت : لا .

[ ص: 3773 ] منافاة ، فإن الإعطاء كان في السماء من جملة ما أوحى إلى عبده بقرينة إعطاء الصلوات الخمس في المقام الأعلى ، ونزول الملك المعظم لتعظيم ما أعطى ، وبشارة ما خص من بين سائر الأنبياء ، نعم يشكل هذا بكون سورة البقرة مدنية ، وقضية المعراج بالاتفاق مكية ، فيدفع باستثناء الخواتيم من السورة ، فهي مدنية باعتبار أكثرها ، فقد نقل ابن الملك عن الحسن وابن سيرين ومجاهد أن الله تعالى تولى إيجاءها بلا واسطة جبريل ليلة المعراج ، فهي مكية عندهم ، وأما الجواب على قول الجمهور أن السورة بكاملها مدنية ، فقد قال التوربشتي : ليس معنى قوله أعطي أنها أنزلت عليه ، بل المعنى أنه استجيب له فيما لقن في الآيتين من قوله سبحانه : غفرانك ربنا إلى قوله : أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين ولمن يقوم بحقها من السائلين . قال الطيبي : في كلامه إشعار بأن الإعطاء بعد الإنزال ، لأن المراد منه الاستجابة وهي مسبوقة بالطلب ، والسورة مدنية والمعراج في مكة ، ويمكن أن يقال : هذا من قبيل : فأوحى إلى عبده ما أوحى والنزول بالمدينة من قبيل : وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى علمه شديد القوى اهـ .

وحاصله أنه وقع تكرار الوحي فيه تعظيما له ، واهتماما بشأنه ، فأوحى إليه في تلك الليلة بلا واسطة ، ثم أوحى إليه في المدينة بواسطة جبريل ، وبهذا يتم أن جميع القرآن نزل بواسطة جبريل ، كما أشار إليه سبحانه بقوله : نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين ويمكن أن يحمل كلام الشيخ على أن المراد هنا بالإعطاء استجابة الدعاء مما اشتمل الإتيان عليه ، وهو لا ينافي نزولها بعد الإسراء إليه . قال الطيبي : وإنما أوثر الإعطاء لما عبر عنها بكنز تحت العرش ، فقد روينا عن أحمد بن حنبل : ( أعطيت خواتيم سورة البقرة من كنز تحت العرش لم يعطهن نبي قبلي ) وكان لنبينا - صلى الله عليه وسلم - مع الله تعالى مقامات يغبطهما الأولون والآخرون . أحدهما في الدنيا ليلة المعراج ، وثانيهما في العقبى وهو المقام المحمود ، ولا اهتم فيهما إلا بشأن هذه الأمة المرحومة . ( وغفر ) : بصيغة المجهول ( لمن لا يشرك بالله من أمته شيئا المقحمات ) . بالرفع على نيابة الفاعل أو هو بكسر الحاء أي الكبائر المهلكات التي تقحم صاحبها النار إن لم يتجاوز عنه الملك الغفار ، والمعنى أنه - صلى الله عليه وسلم - وعد تلك الليلة الكاملة هذه المغفرة الشاملة ، وإن قوله تعالى : إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء بعد ذلك ، فإنه من سورة النساء ، وهي مدنية ، ولعل ذكر المشيئة في الحديث لظهور القضية في حكم القديم والحديث ، هذا وقال ابن حجر : المراد بغفرانه أنه لا يخلد في النار بخلاف المشركين ، وليس المراد أنه لا تعذب أمته أصلا ، إذ قد علم من نصوص الشرع وإجماع أهل السنة إثبات عذاب العصاة من الموحدين اهـ . وفيه أنه حينئذ لا يبقى خصوصية لأمته ، ولا مزية لملته ، اللهم إلا أن يقال : المراد غالب هذه الأمة فإنها أمة مرحومة ، والله أعلم . ( رواه مسلم ) .




الخدمات العلمية