الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
5877 - وعن جابر رضي الله عنه ، قال : إنا يوم الخندق نحفر ، فعرضت كدية شديدة ، فجاءوا النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالوا : هذه كدية عرضت في الخندق . فقال : ( أنا نازل ) . ثم قام وبطنه معصوب بحجر . ولبثنا ثلاثة أيام لا نذوق ذواقا ، فأخذ النبي - صلى الله عليه وسلم - المعول ، فضرب فعاد كثيبا أهيل ، فانكفأت إلى امرأتي فقلت : هل عندك شيء ؟ فإني رأيت بالنبي - صلى الله عليه وسلم - خمصا . شديدا ، فأخرجت جرابا فيه صاع من شعير ، ولنا بهيمة داجن فذبحتها ، وطحنت الشعير ، حتى جعلنا اللحم في البرمة ، ثم جئت النبي - صلى الله عليه وسلم - فساررته ، قلت : يا رسول الله ؟ ذبحنا بهيمة لنا ، وطحنت صاعا من شعير ، فتعال أنت ونفر معك ، فصاح النبي - صلى الله عليه وسلم - : " يا أهل الخندق إن جابرا صنع سورا فحي هلا بكم ) فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( لا تنزلن برمتكم ولا تخبزن عجينكم حتى أجيء ) . وجاء ، فأخرجت له عجينا . فبصق فيه وبارك ، ثم عمد إلى برمتنا فبصق وبارك ، ثم قال : ( ادع خابزة فلتخبز معك ، واقدحي من برمتكم ، ولا تنزلوها ) . وهم ألف ، فأقسم بالله لأكلوا حتى تركوه وانحرفوا ، وإن برمتنا لتغط كما هي ، وإن عجيننا ليخبز كما هو . متفق عليه .

التالي السابق


5877 - ( وعن جابر رضي الله عنه قال : إنا ) أي : نحن معاشر الأصحاب ( كنا يوم الخندق نحفر ) ، أي : الأرض حول المدينة بيننا وبين الأعداء ( فعرضت ) أي : ظهرت في عرض الأرض معارضا لمقصدنا ( كدية ) : بضم الكاف وسكون الدال أي : قطعة ( شديدة ) ، أي صلبة لا يعمل فيها الفأس ( فجاءوا النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالوا : هذه كدية عرضت في الخندق فقال : أنا نازل ) . أي في الخندق ( ثم قام وبطنه معصوب ) أي : مربوط ( بحجر ) أي : من شدة الجوع ( ولبث ثلاثة أيام لا نذوق ذواقا ) ، بفتح أوله أي مأكولا ومشروبا ، وهو فعال بمعنى مفعول من الذوق يقع على المصدر ، والاسم والجملة معترضة لبيان سبب ربط الحجر ، ( فأخذ النبي - صلى الله عليه وسلم - المعول ) ، بكسر الميم وفتح الواو بالفارسي كلند قاله شارح ، وفي القاموس : المعول كمنبر الحديدة ينقر بها الجبال ( فضرب فعاد ) أي : انقلب الحجر وصار ( كثيبا ) أي : رملا ( أهيل ) ، أي سائلا ومنه قوله تعالى : وكانت الجبال كثيبا مهيلا قال القاضي : والمعنى أن الكدية التي عجزوا عن رضها صارت بضربة واحدة ضربها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كتل من الرمل مصبوب سيال ، ( فانكفأت إلى امرأتي ) أي : انقلبت وانصرفت إلى بيتها ( فقلت : هل عندك شيء ) ؟ أي من المأكول ( فإني رأيت بالنبي - صلى الله عليه وسلم - خمصا ) : بفتحتين ويسكن الثاني ، واقتصر عليه القاضي ، وسكت عنه الطيبي أي : جوعا ، وسمي به لأن البطن يضمر به ، وفي المشارق لعياض : رأيت به خمصا بفتح الميم أي ضمورا في بطنه من الجوع ، ويعبر بالخمص عن الجوع أيضا . وقال السيوطي قوله : خمصا بفتح المعجمة والميم وقد يسكن ومهملة اهـ .

[ ص: 3784 ] المراد به أثر الجوع وعلامته من ضمور البطن أو صفار الوجه ، ونحو ذلك من طول مكثهم ، وشدة كدهم على غير ذوق من غاية ذوقهم ونهاية شوقهم ( شديدا ، فأخرجت ) أي : المرأة ( جرابا ) : بكسر الجيم ( فيه صاع ) أي : قدر صاع ( من شعير ، ولنا بهمة ) : بفتح موحدة وسكون هاء . قال النووي : هي الصغيرة من أولاد الضأن ، ويطلق على الذكر والأنثى كالشاة ، وفي نسخة بهيمة ، وهي أصل المصابيح . قال شارح له : هي تصغير بهمة بفتح الباء وسكون الهاء ولد الضأن ، وقيل : ولد الشاة أول ما تضعه أمه ، وقيل : السخلة وهي ولد المعز ( داجن ) أي : سمينة قاله صاحب المواهب ، وفي شرح مسلم ما ألف البيت ، ويؤيده ما في القاموس : دجن بالمكان دجونا أقام والحمام والشاة وغيرهما ألفت وهي داجن ( فذبحتها ، وطحنت ) أي : المرأة ( الشعير ) ، وفي نسخة بصيغة المتكلم ، والأول أوفق لقيام كل من الرجل والمرأة بخدمة تليق به مع تحقيق المسارعة ، كما يدل عليه رواية البخاري ، ففرغت إلى فراغي ، اللهم إلا أن يؤول ويقال : معناه أمرتها أو غيرها بالطحن ، ( حتى جعلنا ) أي : بالاتفاق ( اللحم في البرمة ) ، أي : القدر من الحجر ، وقيل هي القدر مطلقا ، وأصلها المتخذ من الحجر ، ( ثم جئت النبي - صلى الله عليه وسلم - فساررته ) ، قال النووي : فيه جواز المسارة بالحاجة في حضرة الجماعة ، وإنما المنهي أن يناجي اثنان دون الثالث اهـ . وفيه بحث لا يخفى ، والأظهر أن يقال : إنما محل النهي توهم ضرر للجماعة . ( فقلت : يا رسول الله ! ذبحنا بهيمة لنا ) : بالتصغير هنا للتحقير في جنب عظمة الضيف الكبير ( وطحنت ) : بالوجهين ( صاعا من شعير ) ، والمقصود أن هذا قدر يسير وأصحابك كثير ( فتعال أنت ونفر معك ) ، وهو ما دون العشرة من الرجال ، ويطلق على الناس كلهم على ما في القاموس ، وكأنه - صلى الله عليه وسلم - نظر إلى المعنى الثاني لما فيه من الأمر الرباني ( فصاح النبي - صلى الله عليه وسلم - يا أهل الخندق إن جابرا صنع سورا ) : بضم فسكون واو أي طعاما . وفي القاموس : السور الضيافة فارسية شرفها النبي - صلى الله عليه وسلم - ( فحي ) : بتشديد الياء المفتوحة ( هلا ) : بفتح الهاء واللام منونة ، وفي نسخة بغير تنوين والباء في ( بكم ) . للتعدية أي : أسرعوا بأنفسكم إليه . قال النووي : السور بضم السين غير مهموز هو الطعام الذي يدعى إليه ، وقيل الطعام مطلقا ، وهي لفظة فارسية ، وقد تظاهرت أحاديث صحيحة بأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تكلم بالألفاظ الفارسية ، وهو يدل على جوازه ، وأما ( حي هلا ) فهو بتنوين هلا ، وقيل بلا تنوين على وزن علا ، ويقال : حي هلا ، ومعناه عليكم بكذا وأدعوكم بكذا . وفي القاموس بسط لهذا المبنى والمعنى ، ولكن اقتصرنا على ما ذكرنا بناء على أن الجوع معنا والتعطش لما هنا .

( فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( لا تنزلن ) : بضم التاء واللام ( برمتكم ولا تخبزن ) : بفتح التاء وكسر الباء وضم الزاي ( عجينتكم حتى أجيء ) أي : إلى بيتكم ( وجاء فأخرجت له ) أي : أنا وفي نسخة بصيغة الواحدة ( عجينا ) . أي : قطعة من العجين ( فبصق فيه ) : قال النووي : هو بالصاد في أكثر الأصول ، وفي بعضها بالسين وهي لغة قليلة اهـ . والمعنى رمى بالبزاق فيه ( وبارك ) ، أي : دعا بالبركة فيه ( ثم عمد ) : بفتح الميم أي : قصد ( إلى برمتنا فبصق ) أي : فيها كما في نسخة ( وبارك ، ثم قال : ادعي ) : بهمز وصل مضموم وكسر عين أمر مخاطبة من دعا يدعو أي : اطلبي ( خابزة ) : قال النووي : جاء في بعض الأصول ادعي على خطاب المؤنث ، وهو الصحيح الظاهر ، ولهذا قال : ( فلتخبز معك ) : يعني لروايته كسر الكاف ، وفي بعضها ادعوا بالواو أي : اطلبوا وفي بعضها ادع ( واقدحي ) : بفتح الدال أي : اغرفي من برمتكم . قال التوربشتي يقال : قدحت المرق أي : غرفته ، ومنه المقدح وهو المغرفة سلك بالخطاب مسلك التلوين فخاطب به ربة البيت . قال الطيبي : لعله في نسخته فلتخبز معي بالإضافة .

[ ص: 3785 ] إلى ياء المتكلم كما هو في بعض نسخ المصابيح ، فحمله على ما ذهب إليه ، وقد علم من كلام النووي أن معي لم ترد في رواية ، وإذا ذهب إلى ادعي فلتخبز معك لم يكن من تلوين الخطاب في شيء اهـ . وهو غريب منه إذ مراد الشيخ أنه - صلى الله عليه وسلم - خاطبهم بصيغة الجمع أولا بقوله : لا تنزلن ولا تخبزن ، ثم قال : ادعي فلتخبز معك ، ثم قال : واقدحي من برمتك بالجمع بين الإفراد والجمع ثم قال : ( ولا تنزلوها ) : بصيغة الجمع المذكر على طريق الأول على سبيل التغليب ، فأي تلوين أكثر من هذا ؟ مع أن في الالتفات إليها بالأمر الخاص إشارة إلى أنها ربة البيت غير خارجة عن سنن الاستقامة في المقام ، وبهذا التقرير والتحرير تبين لك أنه لا فرق بين قوله : فلتخبز معك أو معي في تلوين الكلام ، والله أعلم بحقيقة المرام . ( قال جابر : وهم ) أي : عدد أصحابه - صلى الله عليه وسلم - ( ألف ) أي : ألف رجل أكال في جوع ثلاثة أيام وليال ( فأقسم بالله لأكلوا ) أي : من ذلك الطعام ( حتى تركوه ) أي : منفصلا ( وانحرفوا ) ، أي : وانصرفوا ( وإن برمتنا لتغط ) : بكسر الغين المعجمة وتشديد الطاء المهملة أي : لتفور وتغلي ويسمع غليانها ( كما هي ) ، أي : ممتلئة على هيئة الأولى ، فخبر هي محذوف ، والمعنى تغلي غليانا مثل غليان هي عليه قبل ذلك . قال الطيبي : ما : كافة وهي مصححة لدخول الكاف على الجملة وهي مبتدأ ، والخبر محذوف أي : كما هي قبل ذلك ، ( وإن عجيننا ليخبز كما هو ) . أي : كما هو في الصحفة كأنه ما نقص منه شيء ، قال النووي : قد تظاهرت الأحاديث بمثل هذا من تكثير طعام القليل ، ونبع الماء وتكثيره ، وتسبيح الطعام ، وحنين الجذع ، وغير ذلك مما هو معروف حتى صار مجموعها بمنزلة التواتر ، وحصل العلم القطعي به ، وقد جمع العلماء أعلاما من دلائل النبوة في كتبهم كالقفال الشاشي ، وصاحبه أبي عبد الله الحليمي ، وأبي بكر البيهقي وغيرهم مما هو مشهور وأحسنها كتاب البيهقي ، ولله الحمد على ما أنعم به على نبينا - صلى الله عليه وسلم - وعلينا بإكرامه . ( متفق عليه ) .




الخدمات العلمية