الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
5893 - وعن عائشة رضي الله عنها ، قالت : سحر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى إنه ليخيل إليه أنه فعل الشيء وما فعله .

حتى إذا كان ذات يوم عندي ، دعا الله ودعاه ، ثم قال : ( أشعرت يا عائشة أن الله قد أفتاني فيما استفتيته ، جاءني رجلان ، جلس أحدهما عند رأسي والآخر عند رجلي ، ثم قال أحدهما لصاحبه : ما وجع الرجل ؟ قال : مطبوب . قال : ومن طبه ؟ قال : لبيد بن الأعصم اليهودي . قال : في ماذا ؟ قال : في مشط ومشاطة وجف طلعة ذكر ، قال : فأين هو ؟ قال : في بئر ذروان ) فذهب النبي - صلى الله عليه وسلم - في أناس من أصحابه إلى البئر . فقال : ( هذه البئر التي أريتها وكأن ماءها نقاعة الحناء ، وكأن نخلها رءوس الشياطين ) فاستخرجه .
متفق عليه .

التالي السابق


5893 - ( وعن عائشة ، قالت : سحر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أي : سحره يهودي ( حتى إنه ليخيل إليه ) : بصيغة المفعول أي : ليظن ( أنه فعل الشيء ) أي : الفلاني مثلا ( وما فعله ) ، أي : والحال أنه ما فعل ذلك الشيء . قيل : معناه أنه غلب عليه النسيان بحيث يتوهم من حيث النسيان أنه فعل الشيء الفلاني وما فعله ، أو أنه ما فعله وقد فعل ، وذلك في أمر الدنيا لا في الدين ، ونظيره ما قال تعالى في حق موسى : فإذا حبالهم وعصيهم يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى أي : والحال أنها ما تسعى ، بل أنهم لطخوها بالزئبق ، فلما ضربت عليها الشمس اضطربت ، فخيل إليه أنها تتحرك فأوجس في نفسه خيفة موسى قال البيضاوي : يعني فأضمر فيها خوفا من مفاجأته على ما هو مقتضى الجبلة البشرية ، وقد قرئ : يخيل على إسناده إلى الله سبحانه . قال النووي : قد أنكر بعض المبتدعة هذا الحديث ، وزعم أنه يحط من منزل النبوة لذلك ، وأن تجوزه يمنع الثقة بالشرع ، وهذا الذي ادعاه باطل ; لأن الدلائل القطعية قد قامت على صدقه وعصمته فيما يتعلق بالتبليغ ، والمعجزة شاهدة بذلك ، وتجويز ما قام الدليل بخلافه باطل ، فأما ما يتعلق ببعض أمور الدنيا التي لم يبعث بها ، فهو مما يعرض للبشر فغير بعيد أن يخيل إليه من السحر . وقد قيل : إنه إنما كان يتخيل إليه ما يخيل ، ولكنه لم يعتقد صحته ، وكانت معتقداته على الصحة والسداد . أقول : ويمكن أن يعتقد صحة ما لم يتعلق بالدين ، ثم ينبه عليه ، ويبين له صحيح الاعتقاد كما قال تعالى لموسى : لا تخف إنك أنت الأعلى وقيل : معنى ليخيل إليه أي يظهر له من نشاطه أنه قادر على إتيان النساء ، فإذا دنا منه أخذته أخذة السحر ، فلم يتمكن من ذلك .

[ ص: 3795 ] قال النووي : وكل ما جاء من أنه يخيل شيئا لم يفعله ، فمحمول على التخيل بالبصر لا بالعقل ، وليس فيه ما يطعن بالرسالة . قال المظهر : وأما ما زعموا من دخول الضرر في الشرع بأنبيائه ، فليس كذلك ; لأن السحر إنما يعمل في أبدانهم ، وهم بشر يجوز عليهم من العلل والأمراض ما يجوز على غيرهم ، وليس تأثير السحر في أبدانهم بأكثر من القتل ، وتأثير السم وعوارض الأسقام فيهم ، وقد قتل زكريا وابنه ، وسم نبينا - صلى الله عليه وسلم - وأما أمر الدين فإنهم معصومون فيما بعثهم الله عز وجل وأرصدهم له ، وهو جل ذكره حافظ لدينه وحارس لوحيه أن يلحقه فساد وتبديل بأن لا يطول ذلك ، بل يزول سريعا ، وكأنه ما حل ، وفائدة الحلول تنبيه على أن هذا بشر مثلكم ، وعلى أن السحر تأثيره حق ، فإنه إذا أثر في أكمل الإنسان فكيف غيره ؟ ( حتى إذا كان ذات يوم ) : بالنصب ويجوز الرفع ذكره العسقلاني ، لكن الرفع لا يلائم قولها ( عندي ، دعا الله ودعاه ) ، كرر للتأكيد أو التكثير أي : وأكثر الدعاء . قال الطيبي : أي : أتى عقب دعائه بدعاء واستمر عليه ، ويدل على هذا التأويل الرواية الأخرى ، ثم دعا ثم دعا . قال النووي : هذا دليل على استحباب الدعاء عند حصول الأمور المكروهة ، وحسن الالتجاء إلى الله تعالى .

( ثم قال : أشعرت ) أي : أعلمت ( يا عائشة ! أن الله قد أفتاني ) أي : بين لي فيما استفتيته أي فيما طلبت بيان الأمر منه ، وكشفه عنه . ثم بينه بقوله : ( جاءني رجلان ) أي : ملكان على صورة رجلين ( جلس أحدهما عند رأسي ، والآخر عند رجلي ) ، وفي نسخة بالتثنية ( ثم قال أحدهما لصاحبه : ما وجع الرجل ) ؟ أي ما سبب تعبه الذي بمنزلة وجعه ( قال : مطبوب ) . أي هو مسحور ، يقال : طب الرجل إذا سحر ، فكنوا بالطب عن السحر ، كما كنوا بالسليم على اللديغ . ( قال ) أي : الآخر ( ومن طبه ؟ قال : لبيد بن الأعصم اليهودي ) . قيل أي : بناته ؛ لقوله تعالى : ومن شر النفاثات في العقد أي النساء أو النفوس السواحر التي يعقدن عقدا في خيوط وينفثن عليها ، والنفث النفخ مع ريق . قال القاضي : وتخصيصه بالتعوذ لما روي أن يهوديا سحر النبي - صلى الله عليه وسلم - في إحدى عشرة عقدة في وتر دسه في بئر ، فمرض النبي - صلى الله عليه وسلم - فنزلت المعوذتان ، وأخبره جبريل بموضع السحر ، فأرسل عليا رضي الله عنه ، فجاء به فقرأهما عليه ، فكان كلما قرأ آية انحلت عقدة ، ووجد بعض الخفة ، ولا يوجب ذلك صدق الكفرة في أنه مسحور ، لأنهم أرادوا به أنه مجنون بواسطة السحر انتهى . والظاهر أن ذلك قضية أخرى ، فإنها مغايرة لما في هذا الحديث ، ويمكن الجمع بينهما بوقوع نوعين من السحر له - صلى الله عليه وسلم - ليكون أجره مرتين . وإن أحدهما وهو ما في هذا الحديث وقع من لبيد ، والآخر من بناته ، والله أعلم .

( قال ) أي : الآخر ( في ماذا ) ؟ أي سحر في أي شيء ( قال : في مشط ) : بضم الميم . وفي القاموس : المشط مثلثة وككتف وعنق وعتل ومنبر آلة يمتشط بها ( ومشاطة ) : بضم الميم ما سقط من شعر الرأس أو اللحية عند تسريحه بالمشط ( وجف طلعة ذكر ) ، بضم الجيم وتشديد الفاء ، وهو وعاء طلع النخل ، وطلعة ذكر على الإضافة ، وأراد بالذكر فحل النخل ، قيل : ويروى جب بالباء الموحدة أي : داخل طلعة ذكر . قال النووي : الجف ، بضم الجيم والفاء ، هكذا هو في أكثر بلادنا . وفي بعضها جب بالباء ، وهما بمعنى ، وهو وعاء طلع النخل ، ويطلق على الذكر والأنثى ، فلهذا أضاف في الحديث طلعة إلى ذكر إضافة بيان . ( قال : فأين هو ) أي : ما ذكر مما سحر به ( قال : في بئر ذروان ) : بفتح الذال المعجمة . قال شارح : وفي كتاب مسلم في بئر ذي أروان . قيل : هو الصواب ; لأن أروان بالمدينة أشهر من ذروان ، وذروان على مسيرة ساعة من المدينة ، وفيه بني مسجد الضرار ، قلت : فذروان أوفق في هذا المقام ، والله أعلم بالمرام .

وقال النووي : وفي كتاب مسلم في بئر ذي أروان ، وكذا وقع في بعض روايات البخاري ، وفي معظمها

[ ص: 3796 ] ذروان ، وكلاهما صحيح مشهور ، والأول أصح وأجود ، وهي بئر في المدينة في بستان أبي زريق ( فذهب النبي - صلى الله عليه وسلم - في أناس ) أي : مع جمع ( من أصحابه ) أي : المخصوصين ( إلى البئر : ( هذه البئر التي أريتها ) : بصيغة المفعول ( وكأن ) : بالتشديد ( ماءها نقاعة الحناء ) ، بضم النون أي : لونه ، والمعنى أن ماءها متغير لونه مثل ماء نقع فيه الحناء والنقاعة ما يخرج من المنقوع . ( وكأن نخلها رءوس الشياطين ) . قال التوربشتي : أراد بالنخل طلع النخل ، وإنما أضافه إلى البئر ، لأنه كان مدفوعا فيها ، وأما تشبيهه ذلك برءوس الشياطين ، فلما صادفوه عليه من الوحشة والنفرة وقبح المنظر ، وكانت العرب تعد صور الشياطين من أقبح المناظر ذهابا في الصورة إلى ما يقتضيه المعنى ، وقيل : أريد بالشياطين الحيات الخبيثات العرمات ، وأيا ما كان فإن الإتيان بهذا المنظر في الحديث مسوق على نص الكتاب في التمثيل . قال تعالى : كأنه رءوس الشياطين ( فاستخرجه ) ، أي ما ذكر مما سحر به ( متفق عليه ) .




الخدمات العلمية