الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
5975 - وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : ( لا يقتسم ورثتي دينارا ، ما تركت بعد نفقة نسائي ومؤنة عاملي فهو صدقة ) متفق عليه .

التالي السابق


5975 - ( وعن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : ( لا تقتسم ورثتي دينارا ) ، بتأنيث الفعل ورفعه ، فهو إخبار حقيقة ، ومعناه ليس تقتسم ورثتي بعد موتي دينارا إذ لست أخلف بعد موتي دينارا أملكه ، فيقتسمون ذلك ، ويحتمل أن يكون إخبارا في الصورة ونهيا في المعنى ، فهو أبلغ من النهي الصريح . قال الطيبي : ويجوز أن يكون بمعنى النهي فهو على منوال قوله :

على لاحب لا يهتدي بمناره

أي لا دينار هناك فيقسم اه . وفي نسخة بالتذكير ، وفي أخرى بالجزم ، وفي بعض النسخ : لا تقتسم من الاقتسام مرفوعا ومجزوما . قال ميرك : هو بإسكان الميم على النهي ، وبضمها على النفي وهو الأشهر ، وبه يستقيم المعنى حتى لا يعارض ما ثبت أنه - صلى الله عليه وسلم - لم يترك مالا يورث عنه ، وتوجيه رواية النهي أنه لم يقطع بأنه لا يخلف شيئا ، بل كان ذلك محتملا . فنهاهم عن قسمة ما يخلف إن اتفق أنه خلفه ، ذكره العسقلاني . وقال ابن حجر في شرح الشمائل : رواية مسلم لا يقتسم وهو نفي لا نهي ; لأن المنهي عنه شرطه الإمكان وإرث النبي غير ممكن ، فتمحض للإخبار بأنهم لا يقتسمون شيئا لأنه لا يورث اه . وفيه أن الشرط هو الإمكان العقلي ، وهو متصور لا الإمكان الشرعي لئلا يتعارضا ، ثم قوله : ( ورثتي ) أي بالقوة ، وإلا فحيث لا قسمة فلا ورثة ، قال ابن حجر ، أي : من يصلح ورثتي لو أمكنت . وقال ميرك : هم ورثته باعتبار أنهم كذلك بالقوة ، لكن منعوا من الميراث بالدليل الشرعي وهو قوله : لا نورث ، ثم بين سببه وعلته مستأنفا ( ما تركت ) : ما : موصولة مبتدأ ، وتركت صلته ، والعائد محذوف أي الذي تركته ( بعد نفقة نسائي ومؤنة عاملي فهو صدقة ) . والفاء لتضمين المبتدأ معنى الشرط كقولهم : الذي يأتيني فله درهم ، وهو ضمير الفصل يفيد التوكيد والتأبيد ، وفي شرح السنة : قال سفيان بن عيينة : كان أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - في معنى المعتدات ، إذ كن لا يجوز لهن أن ينكحن أبدا فجرت لهن النفقة . وقوله : ( ومؤنة عاملي ) أراد بالعامل الخليفة بعده ، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يأخذ نفقة أهله من الصفايا التي كانت له من أموال بني النضير وفدك ، ويصرف الباقي في مصالح المسلمين ، ثم وليها أبو بكر ثم عمر كذلك ، فلما صارت إلى عثمان استغنى عنها بماله ، فأقطعها مروان وغيره من أقاربه ، فلم يزل في أيديهم حتى ردها عمر بن عبد العزيز . وقال شارح من علمائنا : يريد بما تركه من أموال الفيء التي كان يتصرف فيها تصرف الملاك ، ولم يكن ذلك لغيره . وقوله : بعد نفقة نسائه لأن نفقة نسائه بعده كانت تتعلق بحياة كل واحدة منهن لكونهن محبوسات عن النكاح في الله وفي رسوله ، وبقي حكم نكاح النبي - صلى الله عليه وسلم - باقيا مدة بقائهن ، فوجب لهن النفقة من مال الفيء وجوب نفقة النساء على أزواجهن .

والحاصل أنه ليس معنى نفقة نسائه إرثهن منه ، بل لكونهن محبوسات وممنوعات عن الأزواج بسببه فهن في حكم المعتدات ما دامت حياتهن ، وقيل : لا عدة عليهن لأنه - صلى الله عليه وسلم - حي في قبره ، وكذلك سائر الأنبياء ، فعلى هذا لا إشكال في نفقة النساء . وقال بعضهم : لعظم حقوقهن وقدم هجرتهن وكونهن أمهات المؤمنين ، ولذلك اختصصن بمساكنهن ولم يرثها ورثتهن . قال الشارح : وأما نفقة عامله فإنها تتعلق بعامل ذلك ، وهو العامل الذي استعمله على مال الفيء فاستحق العمالة بقدر عمله ، ولم يكن يأخذها فاستثناها من مال الفيء اه .

ولفظ الحديث : ( ومؤنة عاملي ) ففي شرح المشارق المؤنة فعولة من مأنت القوم ، أي : احتملت مؤنتهم ، وفي الصحاح : المؤنة يهمز ولا يهمز . وقال الفراء : مفعلة من الأبن وهو التعب والشدة وقيل : هي مفعلة من الأون وهو الحرج والعدل لأنها ثقل على الإنسان اه .

وفي الحديث : المعونة تأتي على قدر المؤنة . وقال بعض المحققين : اختلف في المراد بقوله : ( مؤنة عاملي ) فقيل : الخليفة بعده ، وهذا هو المعتمد ، وقيل : يريد بذلك العامل على النخل والقيم على الأرض ، وبه جزم الطبري وابن بطال ، وأبعد من قال المراد بعامله حافر قبره عليه الصلاة والسلام . وقال ابن دحية في الخصائص : المراد بعامله خادمه العامل على الصدقة ، وقيل : العامل فيها كالأجير ، واستدل به على أجرة القسام ، وقيل : كل عامل للمسلمين إذ هو عامل له ونائب عنه في أمته . ( متفق عليه ) .

ورواه الترمذي في الشمائل بزيادة ( ولا درهما ) فقيل : فائدة التقييد بهما التنبيه على أن ما فوقهما بذلك أولى ، وهذا الحكم عام في الأنبياء لورود الحديث الآتي : ( لا نورث ما تركنا صدقة ) يعني لا نورث نحن معاشر الأنبياء ، فإنا من جملة الفقراء ، ومن شرط الفقير عند الصوفية أنه لا يملك فما في يده إما أمانة أو وقف أو صدقة ، وحاصل الحديث : ما ميراثنا إلا واقع ومنحصر في صرف أحوال الفقراء والمساكين ، كما جاء في حديث آخر : إن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يورث إنما ميراثه في المسلمين والمساكين . وقيل لئلا يفرح أحد بموته من ورثته من حيثية أخذ تركته ، وخالف الحسن البصري في المسألة العامة ، وقال : هذا .

[ ص: 3861 ] ]

الحكم مختص بنبينا - صلى الله عليه وسلم - لقوله تعالى : يرثني ويرث من آل يعقوب وقال : وهي وراثة مال لا نبوة ، وإلا لم يقل : وإني خفت الموالي من ورائي إذ لا يخافهم على النبوة ، وصوب الجمهور خلاف قوله لخبر النسائي : ( إنا معاشر الأنبياء لا نورث ) . والمراد في الآية : وراثة النبوة دون حقيقة الإرث ، بل قيامه مقامه وحلوله مكانه ، وعلى هذا فإنما خاف من استيلاء الموالي على مرتبته الظاهرة بالقهر والقوة والغلبة ، هذا وقال الباجي : أجمع أهل السنة أن هذا حكم جميع الأنبياء ، وقال ابن علية : إن ذلك لنبينا - عليه الصلاة والسلام - وقالت الإمامية : إن جميع الأنبياء يورثون ذكره السيوطي .




الخدمات العلمية