الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
748 - وعن معاذ بن جبل رضي الله عنه ، قال : احتبس عنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات غداة في صلاة الصبح ، حتى كدنا نتراءى عن الشمس ، فخرج سريعا فثوب الصلاة فصلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتجوز في صلاته ، فلما سلم دعا بصوته ، فقال لنا : ( على مصافكم كما أنتم ) ، ثم انفتل إلينا ثم قال : ( أما إني سأحدثكم ما حبسني عنكم الغداة : إني قمت من الليل ، فتوضأت وصليت ما قدر لي ، فنعست في صلاتي حتى استثقلت ، فإذا أنا بربي تبارك وتعالى في أحسن صورة ، فقال : يا محمد ! قلت لبيك رب ! ، قال : فيم يختصم الملأ الأعلى ؟ قلت : لا أدري ، قالها ثلاثا ) ، قال : ( فرأيته وضع كفه بين كتفي حتى وجدت برد أنامله بين ثديي ، فتجلى لي كل شيء وعرفت ، فقال : يا محمد ! قلت : لبيك رب ! قال فيم يختصم الملأ الأعلى ; قلت : في الكفارات ، قال : وما هن ؟ قلت : مشي الأقدام إلى الجماعات ، والجلوس في المسجد بعد الصلوات ، وإسباغ الوضوء حين الكريهات ، قال : ثم فيم قلت : في الدرجات ، قال : وما هن ؟ قلت : إطعام الطعام ، ولين الكلام ، والصلاة بالليل والناس نيام ، قال : سل ، قال : قلت اللهم إنه أسألك فعل الخيرات ، وترك المنكرات ، وحب المساكين وأن تغفر لي . وترحمني ، وإذا أردت فتنة في قوم فتوفني غير مفتون ، وأسألك حبك وحب من يحبك ، وحب عمل يقربني إلى حبك ) فـ قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( إنها حق فادرسوها ثم تعلموها ) ، رواه أحمد ، والترمذي ، وقال : هذا حديث حسن صحيح ، وسألت محمد بن إسماعيل عن هذا الحديث ، قال : هذا الحديث صحيح .

التالي السابق


748 - ( وعن معاذ بن جبل قال : احتبس ) : بصيغة المعلوم ، وروي مجهولا ( عنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات غداة ) أي يوما أو صاحبة غداة ، وهي من أول النهار إلى الزاول ، أي : ساعة من أولها ( عن صلاة الصبح ) : بدل اشتمال بإعادة الجار ( حتى كدنا ) ، أي : قاربنا ( نتراءى عين الشمس ) : وضع موضع نرى للجمع قال الطيبي ، والأظهر ما قاله ابن حجر أنه عدل عنه إلى ذلك لما فيه من كثرة الاعتناء بالفعل ، وسبب تلك الكثرة خوف طلوعها المفوت لأداء الصبح ( فخرج سريعا ) ، أي : مسرعا أو خروجا سريعا ( فثوب ) ، أي : أقيم ( بالصلاة ) : وقول ابن حجر ، أي : أقامها موهم ( فصلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتجوز ) ، أي : خفف واقتصر على خلاف عادته - سيما في الصبح - لما يقتضيه الوقت ( في صلاته ) ، أي : مع أداء الأركان ( فلما سلم دعا ) ، أي : نادى ( بصوته فقال لنا ) ، أي : رفع صوته بقوله لنا ( على مصافكم ) ، أي : اثبتوا عليها جمع مصف ، وهو موضع الصف ( كما أنتم ) ، أي : على ما أنتم عليه ، أو ثبوتا مثل الثبوت الذي أنتم عليه قبل النداء من غير تغير وتقدم وتأخير ( ثم انفتل ) ، أي : انصرف من الصلاة ، أو أقبل من القبلة [ إلينا ، ثم قال : ( أما ) [ ص: 626 ] بالتخفيف للتنبيه ( إني سأحدثكم ) : السين لمجرد التأكيد ( ما حبسني عنكم ) ما : موصولة ( الغداة ) : نصب على الظرفية ( إني قمت من الليل ) ، أي : بعضه ( فتوضأت وصليت ما قدر ) ، أي : مقدار ما قدر أو يسر ( لي ) : من صلاة ( " فنعست " ) ، بالفتح من النعاس ، وهو النوم القليل التهجد ( في صلاتي حتى استثقلت ) : بصيغة المعلوم أو المجهول ، أي : غلب علي النعاس أو برجاء الوحي ( فإذا أنا بربي ) : إذ للمفاجأة ، أي : فاجأ استثقالي رؤيتي ( تبارك وتعالي ) : فيه إشارة إلى التنزيه عما لا يليق به ( في أحسن صورة ) ، أي : صفة ، أو كان التجلي ضروريا أو في أحسن صورة ، حال من ضمير المتكلم كما سبق الكلام عليه ، وظاهر الحديث أن هذه الرؤية في النوم فلا يحتاج إلى تأويل ( فقال : يا محمد ! قلت لبيك ) ، أي : إجابة بعد إجابة ، وإطاعة بعد إطاعة ، إيماء إلى دوام العبودية ، والقيام بالعبادة في حق الربوبية ( رب ) : بحذف النداء وياء الإضافة ( قال : فيم ) : ما الاستفهامية إذا دخل عليها حرف الجر حذف ألفها ( يختصم ) ، أي : يبحث ( الملأ الأعلى ) ، أي : الأشراف من الملائكة المقربين ( قلت : لا أدري قالها ثلاثا ) ، أي : قال تعالى هذه المقولة المترتب عليها جوابها ثلاثا ، وأجبت عنها : بلا أدرى تأكيدا للاعتراف بعدم العلم ، وفي تأخير " قالها ثلاثا " إلى ما قررناه ( قال : ( فرأيته وضع كفه بين كتفي ) : يحتمل أن يكون كناية عن تعلق القدرة والإرادة ( حتى وجدت برد أنامله ) ، أي : لذة آثاره ( بين ثديي ) ، أي : في صدري أو قلبي ( فتجلى ) ، أي : انكشف وظهر ( لي كل شيء ) ، أي : مما أذن الله في ظهوره لي من العوالم العلوية والسفلية مطلقا ، أو مما يختصم به الملأ الأعلى خصوصا ( وعرفت ) : حقيقة الأمر ، وهو تأكيد لما قبله ، وقول ابن حجر ، أي : عرفته عيانا يحتاج إلى بيان ( فقال : يا محمد ! قلت : لبيك رب ) ، أي : أولا وآخرا ( قال : فيم يختصم الملأ الأعلى ؟ قلت : في الكفارات ) ، أي : للسيئات ( قال : ما هن ؟ ) ، وفي نسخة صحيحة : ( وما هن ) ، بزيادة الواو ( قلت : مشي الأقدام إلى الجماعات ) ، أي : للصلوات المكتوبات ( والجلوس في المساجد ) أي التي هي روضات الجنات ( بعد الصلوات ) ، أي : المقتضيات ( وإسباغ الوضوء ) بفتح الواو ويضم ، أي : إكماله ( حين الكريهات ) ، أي : وقت المكروهات من أيام البرودات أو أزمنة الغلاء في ثمن الماء ( قال : ثم فيم ؟ ) : أي فيم يختصم الملأ الأعلى أيضا وفيه إشارة إلى تقديم الكفارات ، ( قلت : ) وفي نسخة قال : قلت : ( في الدرجات ) ، أي : في درجات الجنات العاليات ( قال : وما هن ؟ ) بالواو ( قلت ) : وفي نسخة : قال : قلت ( إطعام الطعام ) ، أي : إعطاؤه للخاص والعام ( ولين الكلام ) ، أي : لله مع الأنام ( والصلاة ) ، أي : بالليل كما في نسخة ( والناس نيام ) الجملة حالية والنيام جمع نائم ( قال ) : وفي نسخة : ثم قال ( سل ) : وفيه إشارة إلى أنه ينبغي أن تكون الدعوات بعد الطاعات . ( قلت ) وفي نسخة ، قال : قلت : ( اللهم إني أسألك فعل الخيرات ) : بكسر الفاء وقيل بفتحها أي المأمورات ( وترك المنكرات ) - صلى الله عليه وسلم - أي : المنهيات ( وحب المساكين ) : يحتمل الإضافتين ، والأنسب بما قبله إضافته إلى المفعول ( وأن تغفر لي ) : ما فرط مني من [ ص: 627 ] السيئات ( وترحمني ) : بقبول ما صدر عني من العبادات ( وإذا أردت فتنة ) ، أي : ضلالة أو عقوبة ( في قوم ) ، أي : جمع أو قبيلة ( فتوفني غير مفتون ) ، أي : وهو إشارة إلى طلب العافية واستدامة السلامة إلى حسن الخاتمة ( وأسألك حبك ) قال الطيبي : يحتمل أن يكون معناه : أسألك حبك إياي ، أو حبي إياك ، أقول : ولا شك أن الأول أكمل فعليه المعول ، قال تعالى : يحبهم ويحبونه قال الطيبي : وعلى هذا يحمل قوله : ( وحب من يحبك ) : ولا يخفى أن الإضافة هنا إلى المفعول أنسب لأنه إلى التواضع أقرب ، قال الطيبي : وأما قوله ( وحب عمل يقربني إلى حبك ) : فيدل على أنه طالب لمحبته ليعمل حتى يكون وسيلة إلى محبة الله إياه ، فينبغي أن يحمل الحديث على أقصى ما يمكن من المحبة في الطرفين ، ولعل السر في تسميته بحبيب الله لا يخلو من هذا القول اهـ .

وقوله : لا يخلو ظاهر ، ولا يخلو من احتمال آخر ، [ فـ قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ( إنها ) أي : هذه الرؤيا ( حق ) ، رؤيا الأنبياء وحي ، فادرسوها ، أي فاحفظوا ألفاظها التي ذكرتها لكم في ضمنها ، أو أن هذه الكلمات حق فادرسوها ، أي : اقرءوها ثم تعلموها أي معانيها الدالة هي عليها ، قال الطيبي : أي : لتعلموها فحذف اللام أي لام الأمر رواه أحمد والترمذي وقال هذا حديث حسن ، أي لذاته ، صحيح لغيره ، وقال بعضهم : معناه : أو صحيح على حذف حرف الترديد ، أي للتنويع يعني هو عند قوم حسن ، وعند آخرين صحيح ، ويؤيده سؤاله البخاري وجوابه الآتي .

وقال الطيبي : أي له إسنادان ، هو بأحدهما حسن وبالآخر صحيح ، أو أراد بالحسن معناه اللغوي وهو ما تميل إليه النفس ، ولا تأباه ، وسألت محمد بن إسماعيل أي البخاري صاحب الصحيح عن هذا الحديث أي إسناده فقال : هذا حديث صحيح .




الخدمات العلمية