الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
3 - ورواه أبو هريرة رضي الله عنه مع اختلاف ، وفيه : " وإذا رأيت الحفاة العراة الصم البكم ، ملوك الأرض في خمس لا يعلمهن إلا الله " ثم قرأ ( إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ) الآية . متفق عليه .

التالي السابق


3 - ( ورواه أبو هريرة ) أي : هذا الحديث أيضا ( مع اختلاف ) أي : بين بعض ألفاظهما ( وفيه ) أي : في مروي أبي هريرة ( ردوا علي الرجل ) : فأخذوا يردونه فلم يروا شيئا فأخبرهم أنه جبريل . ذكره ابن حجر ، وتقدم الجمع عن النووي مع أن كون هذا الإخبار في المجلس غير صريح ، فلا ينافي ما تقدم من إعلام عمر بعد ثلاثة أيام في الصحيح ، وفيه أيضا : ( وإذا رأيت الحفاة العراة الصم ) أي : عن قبول الحق ( البكم ) أي : عن النطق بالصدق جعلوا لبلادتهم ، وحماقتهم ، وعدم تمييزهم كأنه أصيبت مشاعرهم مع كونها سليمة تدرك ما ينتفعون به ( ملوك الأرض ) : منصوب على أنه مفعول ثان لرأيت ، أو على أنه حال ، والمراد بأولئك أهل البادية لما في رواية ، قال : ما الحفاة العراة ؟ قال : العريب مصغر العرب ( في خمس ) : هو في موضع النصب على الحال أي : تراهم ملوك الأرض متفكرين في خمس كلمات إذ من شأن الملوك الجهال التفكر في أشياء تعنيهم ، ولا تعنيهم ، أو متعلق بأعلم أي : ما المسئول عنها بأعلم من السائل في علم الخمس ، فإن العلم بها مختص به تعالى ، وفيه إشارة [ ص: 66 ] ظاهرة إلى إبطال الكهانة ، والتنجيم ، ونحوهما من كل ما فيه تسور على علم شيء كلي أو جزئي من هذه الخمس ، وإرشاد للأمة ، وتحذير لهم عن إتيان من يدعي علم الغيب لقوله تعالى : ( قل لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله ) .

فإن قلت : قد أخبر الأنبياء ، والأولياء بشيء كثير من ذلك فكيف الحصر ؟ قلت : الحصر باعتبار كلياتها دون جزئياتها ، قال تعالى : ( فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول ) بناء على اتصال الاستثناء الذي هو الأصل . وأخرج أحمد عن ابن مسعود : أوتي نبيكم علم كل شيء سوى هذه الخمس ، وأخرجه عن ابن عمر بنحوه مرفوعا . وقال القرطبي : من ادعى علم شيء منها غير مستند إليه - عليه الصلاة والسلام - كان كاذبا في دعواه . قال : وأما ظن الغيب فقد يجوز من المنجم وغيره إذا كان عن أمر عادي ، وليس ذلك بعلم ، وقد نقل ابن عبد البر الإجماع على تحريم أخذ الأجرة والجعل وإعطائها في ذلك اهـ .

ويؤيده ما أخرجه حميد بن زنجويه أن بعض الصحابة ذكر العلم بوقت الكسوف قبل ظهوره فأنكر عليه ، فقال : إنما الغيب خمس ، وتلا هذه الآية . وما عدا ذلك غيب يعلمه قوم ، ويجهله قوم اهـ . وما ذكره بعض الأولياء من باب الكرامة بأخبار بعض الجزئيات من مضمون كليات الآية ، فلعله بطريق المكاشفة أو الإلهام أو المنام التي هي ظنيات لا تسمى علوما يقينيات ، وقيل الجار متعلق بمقدر أي : ذكر الله ذلك في خمس ، أو تجد ذلك في خمس ، وقيل في بمعنى مع ، وقيل : بمعنى : من ، أي : من جملة خمس ، وقيل : هو مرفوع المحل على الخبرية أي : الساعة ثابتة ، أو معدودة في خمس ، ويؤيده رواية : هي في خمس من الغيب أي : عدم وقت الساعة مندرج في جملة خمس كلمات [ ( لا يعلمهن إلا الله ) ] : كما أفاده تقوم عنده في الآية الآتية ، إذ الظرف خبر مقدم لإفادة الحصر ، لأن تقديم ما حقه التأخير يفيد الحصر ، وعطف ينزل وما بعده بتقدير أن المصدرية على الساعة ، وجملة وما تدري المقصود منهما إثبات ذلك المعنى عن الغير فيهما لله تعالى ، وهذا كله إنما يحتاج إليه إن لم يفسر الخمس بمفاتيح الغيب في قوله تعالى ( وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو ) وأما إذا فسرت بها فالحصر جلي لا يحتاج الاستدلال عليه ، واعلم أن الجواب تضمن زيادة على السؤال اهتماما بذلك إرشادا للأمة لما يترتب على المصلحة الكثيرة الفوائد العظيمة العوائد ، ( ثم قرأ ) أي : النبي - صلى الله عليه وسلم - ( إن الله عنده علم الساعة ) أي : آية تلك الخمس بكمالها كما دل عليه السياق بيانا لها ، ويحتمل أن يكون فاعل قرأ أبا هريرة فتكون الآية استشهادا ومصداقا للحديث ( وينزل الغيث ) قرئ بالتشديد والتخفيف أي : وهو ينزل المطر الذي يغيث الناس في أمكنته وأزمنته لا يعلمها إلا هو ( الآية ) : من قول أحد الرواة بالنصب على تقدير أعني ، أو يعني ، أو اقرأ ، أو قرأ ، أو على أنه بدل مما قبله ، وبالرفع أي : الآية معلومة مشهورة إذا قرأها ، وقيل بالجر والتقدير قرأ ، أو اقرأ إلى الآية أي : آخرها . وفي رواية لمسلم إلى ( خبير ) وأخرى للبخاري إلى ( الأرحام ) والأول أولى لأن فيها زيادة ثقة وإفادة ، والروايتان تدلان على أن لفظة الآية ليست من قول المصنف كما ظن بعضهم ، وتمامها ( ويعلم ما في الأرحام ) أي : وهو يعلم تفصيل ما في أرحام الإناث من ذكر أو أنثى ، وواحد ومتعدد ، وكامل وناقص ، ومؤمن وكافر ، وطويل وقصير ، وغير ذلك . قال الله تعالى : ( الله يعلم ما تحمل كل أنثى وما تغيض الأرحام ) أي : تنقص : وما تزداد أي : من مدة الحمل والجثة والعدد ( وكل شيء عنده بمقدار ) أي : بقدر واحد لا يتجاوزه ، وعدل عن العلم في قوله :

[ ص: 67 ] ( وما تدري نفس ماذا تكسب غدا وما تدري نفس بأي أرض تموت ) ; لأن الدراية اكتساب علم الشيء بحيلة فإذا انتفى ذلك عن كل نفس مع كونه مختصا بها ، ولم يقع منه على علم كان عدم اطلاعها على غير ذلك من باب أولى ، والمراد بالنفس ذات النفس ، أو ذات الروح ، وهذان المعنيان لا يجوز إطلاق النفس على الله تعالى ، ولذا قيل بالمشاكلة في قوله تعالى : ( تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك ) وأما إذا أريد بها الذات المطلق فيصح إطلاقه على الله تعالى ، كما ورد : ( سبحانك لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك ) . ( إن الله عليم ) أي : بهذه الأشياء من جزئياتها وكلياتها خصوصا وغيرها عموما ( خبير ) أي : بباطنها ، كما أنه عالم بظاهرها ، معناه يخبر ببعضها من جزئياتها لبعض عباده المخصوصين ، وقد أخبر في مواضع كتابه أن علم الساعة مما استأثر الله تعالى له ، وفي رواية ، ثم أدبر ، فقال : ( ردوه ) فلم يروا شيئا ( متفق عليه ) أي : اتفق الشيخان على مروي أبي هريرة الذي فيه هذه الزيادة لكن استدركه ميرك ، وقال : إلا أن البخاري لم يقل : ( الصم البكم ملوك الأرض ) ، بل قال في كتاب الإيمان : ( وإذا تطاول رعاة الإبل البهم في البنيان ) وفي كتاب التفسير : ( وإذا كان الحفاة العراة رءوس الناس فذلك من أشراطها ) ، وأخرجه أبو داود ، والنسائي بمعناه .




الخدمات العلمية