الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
823 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج " ثلاثا - غير تمام " ، فقيل لأبي هريرة : إنا نكون وراء الإمام ، قال : اقرأ بها في نفسك ؛ فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " قال الله تعالى : قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ، ولعبدي ما سأل ، فإذا قال العبد : الحمد لله رب العالمين ؛ قال الله تعالى : حمدني عبدي ، وإذا قال : الرحمن الرحيم قال الله تعالى : أثنى علي عبدي ، وإذا قال : مالك يوم الدين ، قال : مجدني عبدي ، وإذا قال : إياك نعبد وإياك نستعين قال : هذا بيني وبين عبدي ، ولعبدي ما سأل ، فإذا قال : اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين ، قال : هذا لعبدي ولعبدي ما سأل " ، رواه مسلم .

التالي السابق


823 - ( وعن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من صلى صلاة ) : قال ميرك : التنكير فيه إن أريد به البعضية كالظهر والعصر وغيرهما كان مفعولا به ؛ لأن الصلاة حينئذ تكون اسما لتلك الهيئات المخصوصة ، والفعل واقع عليها ، وإن أريد الجنس يحتمل أن يكون مفعولا به وأن يكون مفعولا مطلقا ( لم يقرأ فيها بأم القرآن ) : فيه رد على قوم كرهوا تسميتها بذلك ( فهي ) : أي : صلاته ( خداج ) : أي ناقصة أو منقوصة أو ذات نقصان ، من [ ص: 683 ] خدجت الناقة ولدها قبل أوان خروجه وإن كمل خلقه فهي مخدجة أو ذات خداج ( ثلاثا ) ، أي : قالها ثلاثا ( غير تمام ) : بيان خداج أو بدل منه ، وفي نسخة غير تام ، أي : غير كامل ، قيل : إنه تأكيد ، وقيل : هو من قول المصنف تفسير للخداج ، ذكره ابن الملك ، والأظهر أنه ليس من كلام المصنف ، بل من كلام أحد الرواة ، وهو صريح فيما ذهب إليه علماؤنا من نقصان صلاته ، فهو مبين لقوله عليه السلام : " لا صلاة " أن المراد بها نفي الكمال لا الصحة ، فبطل قول ابن حجر ، والمراد بهذا الحديث أنها غير صحيحة ، وبنفي لا صلاة نفي صحتها ؛ لأنه موضوعة ، ثم قال : ودليل ذلك أحاديث لا تقبل تأويلا منها ما صح عن أبي سعيد ، أمرنا أن نقرأ بفاتحة الكتاب وما تيسر ، وفيه أنه حجة عليهم لا علينا ؛ لأنهم ما يقولون بوجوب السورة مع احتمال أن تكون الواو بمعنى : " مع " أو بمعنى : " أو " وهو جائز عند العجز عن الفاتحة إجماعا ، ومجزئ عند القدرة عليها في مذهبنا ، قال : ومنها خبر ابن خزيمة ، وابن حبان ، والحاكم في صحاحهم بإسناد صحيح : لا تجزئ صلاة لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب ، ورواه الدارقطني بإسناد حسن ، وقال النووي : رواته كلهم ثقات ، وفيه أنه محمول على الإجزاء الكامل ، ثم قال : ومنها ما صح أيضا أنه عليه السلام قال للمسيء صلاته : ثم اقرأ بأم القرآن وقال له : ثم افعل في صلاتك كلها ، وفيه أن الحديث السابق لفظه : ثم اقرأ بأم القرآن وما شاء الله أن تقرأ ، وهو بظاهره حجة عليهم لا علينا ؛ لأنا نقول بموجبه ، مع أن في حديث المسيء ورد بعض الأوامر لا يصح أن تحمل على الوجوب إجماعا ، قال : ومنها مداومته عليه السلام قراءتها في صلاته ، كما في مسلم مع خبر البخاري : " صلوا كما رأيتموني أصلي " ، وفيه أنه لولا مواظبته عليه السلام على قراءتها لقلنا بسنيتها لا بوجوبها وبعصيان تاركها ، وأما حديث البخاري ، فمخصوص البعض إجماعا ؛ لأن بعض أعمال صلاته عليه السلام سنن بلا خلاف ، قال : وأما خبر : لا صلاة إلا بقرآن ولو بفاتحة الكتاب ، فضعيف ، على أن معناه أقل مجزئ الفاتحة كصم ولو يوما .

قلت : لو صح ضعفه فهو يقوي المعنى المراد على أن الحديث الضعيف عندنا مقدم على الرأي المجرد ، وجعله الحديث نظير ما ذكرنا في غاية من البعد ، بل نظيره ما ورد من حديث : " اتقوا النار ولو بشق تمرة " فيفيد أن قراءة الفاتحة وحدها مجزئة ، مع أن الواجب ضم سورة معها ، قال : وما ورد عن عمر وعلي مما يقتضي عدم وجوب القراءة من أصلها ضعيف أيضا .

قلت : على تقدير صحته يحمل على فرضية الفاتحة دون وجوبها جمعا بين الأدلة ، قال : وقول زيد بن ثابت : القراءة سنة أي طريقة متبعة ، وإن خالفت مقاييس العربية ، قلنا : والقراءة في الصلاة ثبت فرضيتها بالسنة ؛ لأن قوله تعالى : فاقرءوا ما تيسر من القرآن بظاهر مطلق ، قال : وروى مسلم أنه عليه السلام كان يقرأ الفاتحة في العصرين في الركعات كلها ، وهو مقدم على ما جاء عن ابن عباس : إنه لم يكن يقرأ فيهما ؛ لأنه نفي ، على أن رواة الأول وما بمعناه أكبر سنا وأقدم صحبة ، فقد صح عنه أنه شك في ذلك فقال : لا أدري أكان يقرأ في الظهر والعصر أم لا ، وغيره مع كثرتهم جزموا بالقراءة ، فكانوا أحق بالتقديم .

قلت : الظاهر أن يحمل نفيه على ما بعد الفاتحة من الركعتين الأخيرتين ، أو على إخفائه القراءة بحيث إنه لا يدري أنه كان يقرأ أم لا ، ويدل عليه تقييده بالعصرين ، قال : وخبر : أنه قرأ في الأوليين وسبح في الأخريين ضعيف ، قلت : على فرض صحته يحمل على بيان الجواز كما قال به علماؤنا ، لكن في الفرض دون النفل ، وأنه مكروه وصاحبه مسيء ، والله أعلم .

( فقيل لأبي هريرة : إنا نكون وراء الإمام ) ، أي : فهل نقرأ أم لا ؟ قال : اقرأ بها ) ، أي : بأم القرآن ( في نفسك ) : سرا غير جهر ، وبه أخذ الشافعي ، وهو مذهب صحابي لا يقوم به حجة على أحد مع احتمال التقييد في الصلاة السرية كما قال به الإمام مالك ، والإمام محمد من أصحابنا ، أو في السكتات بين قراءة الإمام كما قيل للمسبوق في دعاء الاستفتاح ، أو معناه في قلبك باستحضار ألفاظها أو معناه أو معانيها دون مبانيها ، ( فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم . [ ص: 684 ] يقول ) : وفيه دليل أنه قال هذا القول لطريق الاستدلال ( قال الله تعالى : قسمت الصلاة ) ، أي : الفاتحة وسميت صلاة لما فيها من القراءة وكونها جزءا من أجزائها قاله ابن الملك ، وقيل : أي القراءة في الصلاة فهو مجاز من باب إطلاق الكل على البعض ؛ لأنها من أركانها ، أو على حذف المضاف أي : قراءة الصلاة ، قال زين العرب : ويتأيد بقوله : ( بيني وبين عبدي نصفين ) : والصلاة خالصة لله ، فعلم أن المراد هنا القرآن اهـ .

وتتمة الحديث تدل على أن المراد هنا فاتحة الكتاب والتنصيف ينصرف إلى آيات السورة ؛ لأنها سبع آيات ، ثلاث ثناء ، وثلاث سؤال ، والآية المتوسطة نصفها ثناء ونصفها دعاء ، فإذن ليست البسملة آية من الفاتحة ، وأجيب بأن التنصيف راجع إلى جملة الصلاة لا إلى الفاتحة كما هو حقيقة اللفظ ، وبأنه عائد إلى ما يختص بالفاتحة من الآيات الكاملة ، وقد تمسك أبو حنيفة ومتابعوه بهذا الحديث على أن البسملة ليست من الفاتحة بوجه آخر ، وهو أنه صلى الله عليه وسلم يذكر التسمية فيما حكاه عن الله سبحانه ، والجواب : أنه ورد في بعض طرق الحديث : " فإذا قال العبد بسم الله الرحمن الرحيم يقول الله تعالى : ذكرني عبدي " كذا ذكره ميرك ، وفيه أن هذه الرواية ضعيفة على ما ذكره ابن حجر ، ثم قال : فلعلها لم تنزل إذ ذاك وإن كان بعيدا لا بالنسبة لكونها تذكر أول سورة : اقرأ التي هي أول ما نزل من القرآن على الصحيح ، وذلك لكون الراوي أبا هريرة ، وهو إنما أسلم سنة سبع إلا أن يكون روى الحديث عن غيره ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وروي : أول ما أنزل علي بسم الله الرحمن الرحيم وهو غير ثابت ، وأجيب : بأن عدم ذكرها لعدم اختصاصها بالفاتحة مع استقلالها ، قلت : الاستقلال ممنوع محتاج بما به الاستدلال والله أعلم بالحال ، وقيل : التنصيف من جهة المعنى لا من جهة اللفظ ؛ لأن نصفه الدعاء وهو قوله : ( وإياك نستعين ) ، يزيد على نصف الثناء وهو إلى قوله : ( إياك نعبد ) ، وقال ابن حجر : قوله ( نصفين ) أي باعتبار أن بعض آياتها يعود عليه أظهر فائدة ونفع دنيوي وأخروي ، كالامتنان عليه بمسئولة ومرغوبة ، وبعضها لا فائدة له فيه غير محض التعبد والامتثال ، فجعل راجعا إلى الله تعالى بهذا الاعتبار كما أن ذاك راجع إلى العبد بذلك الاعتبار وإن كان الكل يرجع إلى العبد باعتبار التعبد ، وإلى الله تعالى باعتبار الإعظام والإجلال ، ( ولعبدي ما سأل ) ، أي : أحد النصفين دعاه عبدي إياي وله ما سأل أي بعينه إن كان وقوعه معلقا على السؤال ، وإلا فمثله من رفع درجة ودفع مضرة ونحوها بهذا قيل ، والأظهر أن التقدير لذاتي ما وصف من الثناء ولعبدي ما سأل من الدعاء ؛ ولذا قال : ( فإذا قال العبد ) ، أي : المذكور أولا مع التشريف بالإضافة إلى ربه لتحققه بصفات العبودية وقيامه بحق الربوبية وشهوده لآثارهما وأسرارهما في صلاته التي هي معراج الأرواح وروح الأشباح ، وغرس تجليات الأسرار التي ينجلي بها الأحرار عن الأغيار ؛ ولذا زيد في تشريفه بتكرير هذا الوصف الذي هو أشرف الأوصاف الذي خلق له الأوضاع والأشراف لقوله تعالى : وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون وهذا هو غاية كمال الإنسان ، ونهاية جمال الإحسان ؛ ولذا وصف نبينا عليه الصلاة والسلام به في مقام الفخامة والإمامة والكرامة ، سبحان الذي أسرى بعبده ليلا ، نزل الفرقان على عبده ، فأوحى إلى عبده ما أوحى ، وفي كلام الصوفية أنه لا مقام أشرف من العبودية إذ بها ينصرف من جميع الخلق إلى الحق .

( الحمد لله رب العالمين ، قال الله : حمدني عبدي ، وإذا قال : الرحمن الرحيم ) : بالجر على الحكاية ( قال الله ) : قيل لعله تعالى يقول لملائكته مباهاة ( أثنى علي عبدي ) : ظاهره أن المراد بالحمد والشكر الثناء [ ص: 685 ] بجلائل الرحمة الإلهية ودقائق العواطف الربانية التي أخرجت الخلق من ظلمة العدم إلى نور الوجود ؛ ليتسارعوا إلى مرضاته ، وليتزودوا في المسير إلى دار الجزاء ودرجات جناته ( وإذا قال : ( مالك يوم الدين ) ، أي : الجزاء ( قال : مجدني ) ، أي : عظمني ( عبدي ) : والتمجيد نسبته إلى المجد وهو الكرم أو العظمة ، قال النووي : التمجيد الثناء بصفات الجلال ، ووجه مطابقته لقوله : مالك يوم الدين ، هو أنه تضمن أن الله تعالى هو المنفرد بالملك فيه كما في الدنيا ، وفي هذا الاعتراف من التعظيم والتفويض للأمر ما لا يخفى ( وإذا قال : ( إياك نعبد ) ، أي : نخصك بالعبادة ( وإياك نستعين ) ، أي : نخصك بالاستعانة على العبادة وغيرها ( قال : هذا بيني وبين عبدي ) : لأن العبادة لله تعالى والاستعانة من الله ، وقال ابن الملك : لأن قوله : إياك نعبد وإياك نستعين للعبد ( ولعبدي ما سأل ) ، أي : بعد هذا ( فإذا قال اهدنا الصراط المستقيم ) ، أي : ثبتنا على دين الإسلام أو طريق متابعة الحبيب عليه الصلاة والسلام ( صراط الذين أنعمت عليهم ) : من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين ، وهذا يدل على مذهب البصريين في الوقوف ، من أن أنعمت عليهم آية ، بخلاف الكوفيين بناء على أن الفاتحة سبع آيات ، ولم يذكر البسملة في هذا الحديث ( غير المغضوب عليهم ) ، أي : اليهود ( ولا الضالين ) ، أي : النصارى ( قال : هذا لعبدي ولعبدي ما سأل ) ، أي : غير هذا أو المعنى هذا ونحو هذا ، فاندفع ما قاله بعض من لا علم عنده لا فائدة في الدعاء ؛ لأن المدعو إن قدر وقوعه ، فهو واقع ، وإن فقد الدعاء ، وإلا فهو غير واقع ، وإن وقع الدعاء ، قال ابن الملك : وهذا يرشد إلى سرعة إجابته قلت : وإلى الرجاء إلى إجابة سائر حاجته ( رواه مسلم ) : قال ميرك : اللفظ له ورواه الأربعة .




الخدمات العلمية