الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
909 - وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه ، قال : كنا إذا صلينا مع النبي صلى الله عليه وسلم قلنا : السلام على الله قبل عباده ، السلام على جبرائيل ، السلام على ميكائيل ، السلام على فلان ، فلما انصرف النبي صلى الله عليه وسلم ، أقبل علينا بوجهه ، قال : " لا تقولوا : السلام على الله ، فإن الله هو السلام ، فإذا جلس أحدكم في الصلاة ، فليقل : التحيات لله ، والصلوات ، والطيبات ، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته ، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين - فإنه إذا قال ذلك أصاب كل عبد صالح في السماء والأرض - أشهد أن لا إله إلا الله ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، ثم ليتخير من الدعاء أعجبه إليه ، فيدعوه " ، متفق عليه .

التالي السابق


909 - ( وعن عبد الله بن مسعود قال : كنا إذا صلينا مع النبي صلى الله عليه وسلم قلنا ) أي : في قعود التشهد قبل مشروعيته ( السلام على الله قبل عباده ) ، أي : قبل السلام على عباد الله ، وهو ظرف ، قلنا : والسلام مصدر بمعنى السلامة ، واسم من أسمائه ، وصف به مبالغة في كونه سليما من النقائص ، أو إعطائه السلامة ، كذا قاله الخلخالي وغيره .

[ ص: 731 ] قال ميرك : كذا وقع في أصل سماعنا في المشكاة ، وفي صحيح البخاري بفتح القاف وسكون الموحدة ، ووقع في بعض النسخ منهما بكسر القاف وفتح الموحدة ، ويؤيده ما وقع في رواية البخاري بلفظ : السلام على الله من عباده اهـ ، والسلام على الله ، بمعنى الاعتراف بسلامته تعالى من كل نقص فعلي فيه ، بمعنى ( اللام ) .

( السلام على جبريل ) : فيه أربع لغات مشهورة ، ( السلام على ميكائيل ) : فيه ثلاث لغات ، لكن أحدها وهو ميكال لا يساعده الرسم هنا ( السلام على فلان ) ، أي : على ملك من الملائكة ، أو نبي من الأنبياء ، يعني : كانوا يقولون هذه الكلمات عوضا عن التحيات ( فلما انصرف النبي صلى الله عليه وسلم ) ، أي : فرغ من صلاته ، وقيل : من المعراج ( أقبل علينا بوجهه ) : يعني : لا بمجرد الكلام ، وقيل : إنه تأكيد ، والجملة بدل من انصرف وجواب لما " قوله " ( قال : " لا تقولوا السلام على الله " ) : لأن معنى السلام عليك هو الدعاء بالسلامة من الآفات ، أي : سلمت من المكاره أو من العذاب ، وهذا لا يجوز لله تعالى ، فإن الله هو السلام ، أي : هو الذي يعطي السلام لعباده ، فأنى يدعى له وهو المدعو على الحالات ؟ وورد في الدعاء : اللهم أنت السلام أي المختص به لا غيرك لتعريف الجزأين الدال على الحصر ، ومنك السلام ، أي : حصوله لا من غيرك ، وإليك يعود السلام ، أي : ما صدر من غيرك من السلام ، فإنما لهم صورة ، وأما حقائقه فراجعة إليك ، ( فإذا جلس أحدكم في الصلاة فليقل ) : الأمر فيه للوجوب كما قاله ابن الملك فينجبر بسجود السهو ، وكذا قعوده الأول واجب لما مر أنه عليه السلام سجد لتركه ، وأما قعوده الأخير ، فإنه فرض عندنا لخبر إذا قعد الإمام في آخر صلاته ، ثم أحدث قبل أن يتشهد فقد تمت صلاته ، ولما روي عن علي موقوفا : إذا جلس قدر التشهد ، ثم أحدث فقد تمت صلاته ، وهو في حكم المرفوع ، وأما قول ابن حجر : إن كلا منهما ضعيف باتفاق الحفاظ ، فضعيف باختلافهم ، ( " التحيات لله " ) ، أي : دون غيره ، قيل : التحية تفعلة من الحياة بمعنى الإحياء والتبقية ، وقيل : التحية : الملك سمي بها ; لأن الملك سبب تحية مخصوصة كقولهم : أبيت اللعن ، وأسلم ، وأنعم ، وقيل : التحية البقاء ، وقيل : السلام وجمعت لإرادة استغراق الأنواع ( " والصلوات " ) ، أي : الصلوات الخمس ، وقيل : العبادات أي : هو المستحق لجميع ذلك ، وقيل الصلاة من الله الرحمة ، وقيل : الصلوات المرفوعة ، أو أنواع الرحمة ، أو الأدعية التي يراد بها التعظيم ، ( " والطيبات " ) : قال الطيبي : ما يلائم ويستلذ به ، وقيل : الكلمات الدالة على الخير : كسقاه الله ورعاه الله ، وقال ابن الملك : الطيبات من الصلاة والدعاء والثناء ، وقيل : التحيات العبادات القولية ، والصلوات الطاعات البدنية ، والطيبات الخيرات المالية ، نقله السيوطي ، وهو أجمع الأقوال ، قال القاضي : يحتمل أن يكون الصلوات والطيبات معطوفتين على التحيات ، ويحتمل أن يكون الصلوات مبتدأ وخبرها محذوفا ، والطيبات معطوفة عليها ، والواو الأولى لعطف الجملة على الجملة التي قبلها ، والثانية لعطف المفرد على الجملة اهـ ، والأظهر أن الواوين لعطف الجملة على الجملة ، الخبر فيهما محذوف يدل عليه الخبر السابق ، ويؤيده حديث عمر اللاحق ، وقال الخطابي : وحذفت الواو من حديث ابن عباس اختصارا ، وهو جائز معروف في اللغة ، واختار الشافعي رواية ابن عباس ، واختار أبو حنيفة رواية ابن مسعود ، واختار مالك رواية عمر ، ولا خلاف في أنه يجوز الصلاة بأيها شاء المصلي ، إنما الكلام في الأفضل ، قال الشافعي : ويحتمل أن يكون وقوع الخلاف من حيث إن بعض من سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم حفظ الكلمة على المعنى دون اللفظ ، وبعضهم حفظ اللفظ دون المعنى ، وساغ ذلك لأن المقصود هو الذكر ، وكله ذكر ، والمعنى غير مختلف ، ولما جاز أن يقرأ القرآن بعبارات مختلفة كان في الذكر أجدر اهـ .

وفيه إيهام أنه يجوز نقل القرآن بالمعنى ، وهو غير جائز إجماعا بخلاف نقل الحديث ، فإن فيه اختلافا كثيرا ، ثم قال الطيبي : وما روي عن عمر - رضي الله عنه - يقول في المنبر ، ويعلمه الناس ، وهو : التحيات لله ، الزاكيات لله ، [ ص: 732 ] الطيبات ، الصلوات لله ، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته ، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين ، واختاره مالك وإليه ذهب الشافعي قديما ( " السلام عليك " ) : قيل : معناه اسم السلام ، أي : اسم الله عليك ، فإنه من أعانه تعالى لأنه المسلم لعباده من الآفات ، وقال الزهري : السلام بمعنى التسليم ، ومن سلم الله عليه سلم من الآفات كلها وقيل : السلامة من الآفات كلها عليك ، قال ابن حجر : وجاء في فضل السلام عليه صلى الله عليه وسلم أحاديث ، منها : لما كانت ليلة بعثت ما مررت بشجر ولا حجر إلا قال : السلام عليك يا رسول الله ، ومنها إني لأعرف حجرا بمكة كان يسلم علي قبل أن أبعث وإني لأعرفه الآن ، وفي لفظه : إن بمكة لحجرا يسلم علي ليالي بعثت إني لأعرفه إذا مررت عليه ، قيل : وهو الحجر البارز الآن بزقاق الموقف المقابل لباب الجائز ، ( " أيها النبي ورحمة الله " ) : وهي لغة عطف وميل نفساني ، وغايتها التفضل والإحسان والإنعام ، أو إرادة ذلك ، ولاستحالة ذلك على الله تعالى أريد بها غايتها التي هي صفة فعل أو صفة ذات ( " وبركاته " ) : وهو اسم لكل خير فائض منه تعالى على الدوام ، وقيل : البركة الزيادة في الخير ، وإنما جمعت البركة دون السلام والرحمة لأنهما مصدران ( " السلام علينا " ) ، أي : معشر الحاضرين من المصلى ، ومن معه من الملائكة ، ومؤمني الإنس والجن ، وقدم أنفسهم لأنه أدب الدعاء ، وقدم النبي صلى الله عليه وسلم لأنه الوسيلة ، ( " وعلى عباد الله الصالحين - فإنه " ) ، أي الشأن أو المصلحة ( " إذا قال ذلك أصاب " ) : فاعله ضمير ذلك ، أي : أصاب ثواب هذا الدعاء أو بركاته ( " كل عبد صالح " ) : قيد به ; لأن التسليم لا يصلح للمفسد ، والصالح هو القائم بحقوق الله وحقوق العباد ، على ما نقله النووي في مجموعه عن الزجاج وغيره ، وقيل : المراد به كل مسلم ( في السماء والأرض ) ، قال الطيبي : أعلمهم النبي صلى الله عليه وسلم أن الدعاء للمؤمنين ينبغي أن يكون شاملا لهم وعمهم ما يعمهم وأمرهم بإفراده عليه السلام بالذكر لشرفه ومزيد جبهته وتخصيص أنفسهم ، فإن الاهتمام بها أهم ( " أشهد " ) ، أي : أعلم بالجنان وأبين باللسان ( أن لا إله إلا الله ) ، أي : لا معبود بحق في الوجود إلا الله الواجب الوجود لذاته ( " وأشهد أن محمدا عبده ورسوله " ) ، قال ابن الملك : روي : أنه صلى الله عليه وسلم لما عرج به أثنى على الله تعالى بهذه الكلمات فقال الله تعالى : السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته ، فقال عليه السلام : السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين ، فقال جبريل : أشهد أن لا إله إلا الله ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله اهـ ، وبه يظهر وجه الخطاب ، وأنه على حكاية معراجه عليه السلام في آخر الصلاة التي هي معراج المؤمنين ( " ثم ليتخير " ) ، " ، أي : ليختر ( " من الدعاء أعجبه إليه " ) ، أي : أحب الدعاء وأرضاه من الدين والدنيا والآخرة ( " فيدعوه " ) ، أي : فيقرأ الدعاء الأعجب ، وقيل : التقدير فيدعو به ، فهو من باب الحذف والإيصال ، وقيل : التقدير فيدعو الله به وحذف المفعول الثاني للعلم به ، وقيل : هو بالنصب على جواب الأمر ، ثم اعلم أن الدعاء الأعجب هو ما ورد عنه صلى الله عليه وسلم لأنه معلم الأدب ، ( متفق عليه ) : قال ميرك : ورواه الأربعة إلا أن النسائي قال في رواية : سلام علينا منكرا ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له اهـ ، ونقل ملا حنفي في حاشية الحصن عن العسقلاني : أنه لم يقع في شيء من طرق حديث ابن مسعود بحذف اللام ، وإنما اختلف ذلك في حديث ابن عباس ، وهو من أفراد مسلم . تم كلامه ، وبالجملة ، فحديث ابن مسعود أصح ما ورد في ألفاظ التشهد ، فالأخذ به أولى وأتم ، كما ذهب إليه الإمام الأعظم وجمهور العلماء ، حتى بعض الشافعية منهم الشيخ علاء الدولة السمناني .

[ ص: 733 ]



الخدمات العلمية