الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
122 - وعن أبي بن كعب رضي الله عنه ، في قول الله عز وجل : ( وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم ) قال : جمعهم فجعلهم أزواجا ، ثم صورهم فاستنطقهم ، فتكلموا ، ثم أخذ عليهم العهد ، والميثاق ، ( وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم ) .

قالوا : بلى . قال : فإني أشهد عليكم السماوات السبع ، والأرضين السبع ، وأشهد عليكم أباكم آدم أن تقولوا يوم القيامة : لم نعلم بهذا . اعلموا أنه لا إله غيري ، ولا رب غيري ، ولا تشركوا بي شيئا . إني سأرسل إليكم رسلي يذكرونكم عهدي ، وميثاقي ، وأنزل عليكم كتبي . قالوا : شهدنا بأنك ربنا ، وإلهنا . لا رب لنا غيرك ، ولا إله لنا غيرك . فأقروا بذلك ، ورفع عليهم آدم عليه السلام ينظر إليهم ، فرأى الغني ، والفقير ، وحسن الصورة ، ودون ذلك . فقال : رب لولا سويت بين عبادك قال : إني أحببت أن أشكر ، ورأى الأنبياء فيهم مثل السرج عليهم النور ، خصوا بميثاق آخر في الرسالة ، والنبوة ، وهو قوله تبارك ، وتعالى : ( وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ) إلى قوله : ( وعيسى ابن مريم )

كان في تلك الأرواح ، فأرسله إلى مريم عليهما السلام فحدث عن أبي : أنه دخل من فيها . رواه أحمد .

التالي السابق


122 - ( وعن أبي بن كعب ) : رضي الله عنه ( في قول الله عز وجل ) أي : في تفسير قوله تعالى ( وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم ) : وفي نسخة صحيحة : ذرياتهم ، وهما قراءتان متواترتان ( قال ) أي : أبي ( جمعهم ) أي : الله بعد أن أخرجهم ( فجعلهم أزواجا ) أي : ذكورا ، وإناثا ، أو أصنافا ، وهو الأظهر ، ولذا قال الطيبي أي : أراد جعلهم أصنافا ، وفسر الأصناف بقوله الآتي فرأى الغني ، والفقير ( ثم صورهم ) أي : على صورهم التي يكونون عليها بعد ( فاستنطقهم ) : أي : خلق فيهم العقل ، وطلب منهم النطق ( فتكلموا ) : بما شاء الله أو بما سيأتي ( ثم ) أي : بعد التصوير ، والاستنطاق بحكم تقدير الخلاق ( أخذ عليهم العهد ) أي : بالتوحيد ، والميثاق ، وهو - توكيد العهد بالإقرار ، أو المراد العهد لئن جاءتهم الرسل ليؤمنن بهم ، والميثاق الأيمان المؤكدة ليوفن بذلك ( وأشهدهم على أنفسهم ) أي : على ذواتهم ، أو بعضهم على بعض ، أو قال لهم : اشهدوا على أنفسكم ، وعلى كل تقدير يؤيد قول من يقول شهدنا بقولهم ( ألست بربكم ) : إما استئناف بيان ، وإما التقدير : أشهدهم بقوله : ألست بربكم أي : استشهدهم بهذا ( قالوا : بلى ) : كذا في أكثر النسخ المصححة ، وفي بعضها متروك لفظا ، وإن كان مقدرا معنى إذ المعنى قالوا بلى شهدنا ( قال : فإني أشهد عليكم السماوات السبع ) أي : نفسها بأن ركب فيها عقولا مع أن المحققين على أن لجميع الموجودات علما بموجدها أي : نفسها ، أو أهلها ( والأرضين ) : بفتح الراء ، وتسكن ( السبع ) : كذلك أي : زيادة على شهادتكم على أنفسكم ، وكفى بالله شهيدا .

وقال الطيبي : إشارة إلى نصب الدليل الظاهر ، فأشهد بمعنى أنصب ، وأبين ، ويؤيد الأول ظاهر قوله ( وأشهد عليكم أباكم آدم ) : وأول الطيبي هذا أيضا بأنه إلى قوله : يذكرونكم إشارة إلى النصوص الشاهدة الواردة من جهة الرسل ( أن تقولوا ) : بالخطاب لا غير ( يوم القيامة : لم نعلم ) أي : لم نوقن بهذا ( اعلموا ) أي : تحققوا الآن قبل مجيء ذلك الزمان ، وتبين الأمر بالعيان ( أنه لا إله غيري ) : معبود ( ولا رب غيري ) : موجود ( ولا تشركوا بي شيئا ) : فإني مقصود ( إني ) : قيل : بالفتح بدل اشتمال مما قبله ، وبالكسر استئناف ، وهو الأظهر أي : إني مع هذا البيان ( سأرسل إليكم ) : في مستقبل الزمان ( رسلي ) : بالبرهان ( يذكرونكم ) : بتشديد الكاف ( عهدي ، وميثاقي ، وأنزل عليكم كتبي ) : بواسطة رسلي ، وفيها تبيان كل شيء مما يتعلق بعهدي ، وميثاقي ، ولذا قال تعالى ( وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم ) وهذا كالتصريح لما قدمنا من الجمع بين الميثاق المقالي ، والحالي ، والعهد الحسي ، والمعنوي ( قالو : شهدنا ) أي : علمنا ، واعترفنا ( بأنك ربنا ) : ورب كل شيء رضينا بربوبيتك ( وإلهنا ) : وإله كل شيء فنقوم بحق عبوديتك . بمقتضى ألوهيتك ( لا رب لنا غيرك ) : فإنك رب العالمين ( ولا إله لنا غيرك ) : فإنك إله العابدين . قال ابن حجر : كان وجه تقديمهم هاهنا مقام الربوبية أن شهود تربية الحق حامل أي : حامل على الإيمان بالألوهية ، فكان أحق بالتقديم هنا ، وإنما عكس ذلك في كلامه تعالى لأن مقام الألوهية هو الأحق بأن ينبه عليه لأنه الأصل ، وما عداه وسيلة له كما تقرر ( فأقروا بذلك ) أي : بجميع ما ذكر ( ورفع ) : بالبناء [ ص: 199 ] للمفعول أي : أشرف ( عليهم آدم - عليه الصلاة والسلام - ) : من مقام عال ( ينظر إليهم ) : حال ، أو مفعول بتقدير أن كما في قوله :

أحضر الوغى

( فرأى ) أي : آدم منهم ( الغني ) : صورة ، ومعنى باعتبار الآثار اللائحة ، واللامعة ( والفقير ) : يدا ، وقلبا ، وفي نسخة بتقديم الفقير ( وحسن الصورة ) أي : الظاهرة ، والباطنة ( ودون ذلك ) ، أي : في الحسن ، أو غير ما ذكر ( فقال : رب لولا ) أي : هلا ( سويت ) : يعني لما ما سويت ( بين عبادك ! ) : والقصد هو أن يبين له حكمته قال : ( إني أحببت أن أشكر ) : بالبناء للمفعول أي : أعرف بالإنعام ، وأشكر على الدوام على لسان الأنام ، وهذا المعنى يصحح معنى ما ينقل حديثا ، ولم يصح لفظا ( كنت كنزا مخفيا فأحببت أن أعرف فخلقت الخلق لأن أعرف ) ، ولذا قال ابن عباس في قوله تعالى ( وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ) أي : ليعرفوا ، والمعنى ينظر الغني إلى الفقير فيشكر ، وينظر الفقير إلى دينه فيرى نعمته فوق الغني فيشكر ، ويرى حسن الصورة جماله فيشكر ، وقبيح الصورة حسن خصاله فيشكر ، كذا قاله الطيبي ، وهو موهم أن حسن الصورة ، والسيرة لا يجتمعان ، وأن الغنى والدين متنافيان فالأحسن ما قاله شيخنا ابن حجر المكي إن الغني يرى عظم نعمة الغنى ، والفقير يرى عظم نعمة المعافاة من كدر الدنيا ، ونكدها ، وتعبها الذي لا حاصل له غير طول الحساب ، وترادف المحن ، وتوالي العذاب ، وحسن الصورة يرى ما منحه من ذلك الجمال الظاهر الدال على الجمال الباطن غالبا ، وغيره يرى أن عدم الجمال أدفع للفتنة ، وأسلم من المحنة ، فكل هؤلاء يرون مزيد تلك النعم عليهم فيشكرون عليها ، ولو تساووا في وصف واحد لم يتيقظوا لذلك ( ورأى ) أي : آدم ( الأنبياء ) : وهم أعم من الرسل ( فيهم ) أي : حال كونهم مندرجين في جملتهم ( مثل السرج ) : جمع سراج ( عليهم النور ) أي : يغلب كأنه بيان لوجه شبههم بالسرج ، فإن الخلق خلقوا في ظلمة ، والأنبياء أنوار الله عليهم لائحة يهتدون بهم إلى ربهم ، وفيه إشارة إلى أن الأنبياء أيضا لا يخلون عن ظلمة الأخلاق البشرية ، لكن يغلب عليهم العصمة الإلهية ، والأنوار الربانية ، ولذا ( خصوا بميثاق آخر ) : بعد ما دخلوا في عموم ميثاق العوام للاهتمام التام . بمرامهم عليهم الصلاة والسلام ، فقوله : خصوا استئناف ، أو صفة للأنبياء ( في الرسالة ، والنبوة ) أي : في شأنهما ، والقيام بحقهما ، والفرق بينهما أن النبي من أنبأ عن الله سواء أمر بأن ينبئ عن الله أم لا ، والرسول من أمر بتبليغ الرسالة ( وهو قوله تبارك وتعالى ) أي : هذا الميثاق هو المراد من قوله ( وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ) إلى قوله ( عيسى ابن مريم ) : وما قبله ، ( ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ) ففيه تخصيص بعد تعميم ، فإن الخمسة هم أولو العزم على الأصح ، وقدم نبينا - صلى الله عليه وسلم - في الذكر لتقدمه في الرتبة ، أو في الوجود أيضا لقوله : أول ما خلق الله روحي ، وقوله : كنت نبيا ، وآدم بين الروح [ ص: 200 ] والجسد ، ثم قال تعالى : ( وأخذنا منهم ميثاقا غليظا ) أي : عظيما مؤكدا يسأل الصادقين عن صدقهم ، والظاهر منه أن الميثاق الخاص هو العهد بالصدق ، والإخلاص ، والأظهر أن ميثاق الأنبياء إنما هو مظاهرة بعضهم بعضا بالإيمان ، والتصديق ، والنصرة ، والمعاونة كما قال تعالى في موضع آخر ( وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه قال أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري ) أي : عهدي ( قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين ) وهذا الميثاق الخاص يحتمل أن يكون بعد العام ، والأظهر أن يكون قبله في عالم الأرواح تعظيما لهم ، وتكريما ، ولذا قال - عليه الصلاة والسلام - : ( كنت نبيا ، وآدم بين الروح ، والجسد ) . . ويدل عليه قوله ( كان ) أي : عيسى ( في تلك الأرواح ، فأرسله ) أي : روحه ، وهو يذكر ، ويؤنث يعني مع جبريل - عليه الصلاة والسلام - ( إلى مريم عليهما السلام ) : بصيغة التثنية هو الصحيح ( فحدث ) : بصيغة المجهول أي : روي ( عن أبي أنه دخل ) أي : الروح إلى جوفها ، ثم رحمها ، وإنما ذكر الروح بتأويل المنفوخ ، أو عيسى كذا قاله الطيبي ، وفي " القاموس " الروح بالضم ما به حياة الأنفس ، ويؤنث اهـ .

فجعل التذكير أصلا كما هو الأصل في اللفظ . ( من فيها ) أي : من فمها كذا قاله الأبهري ، وهو إشارة إلى قوله تعالى : ( فنفخنا فيه ) أي : في فيها ، وقرأ ابن مسعود ( فيها ) أي : في مريم ، وهو يحتمل أن يكون المراد في فمها ، أو في جيب درعها ، ويجمع بينهما بفرض ثبوتها بأن بعض تلك النفخة دخلت من جيبها ، وبعضها من فمها ، وتخصيص عيسى ، وتقييده بقوله : دخل من فيها تسجيل على النصارى بركاكة عقولهم أي : كيف يتخذ إلها من دون الله من هذا حاله كذا قاله الطيبي ، ونظيره قوله تعالى : ( كانا يأكلان الطعام ) قيل هو كناية عن : يبولان ، ويغوطان ( رواه أحمد ) .




الخدمات العلمية