الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
الفصل الثاني

1298 - عن أبي ذر رضي الله عنه ، قال : صمنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلم يقم بنا شيئا من الشهر حتى بقي سبع ، فقام بنا حتى ذهب ثلث الليل ، فلما كانت السادسة لم يقم بنا ، فلما كانت الخامسة قام بنا ، حتى ذهب شطر الليل ، فقلت : يا رسول الله ! لو نفلتنا قيام هذه الليلة ؟ فقال : " إن الرجل إذا صلى مع الإمام حتى ينصرف حسب له قيام ليلة " ، فلما كانت الرابعة لم يقم بنا حتى بقي ثلث الليل ، فلما كانت الثالثة ، جمع أهله ونساءه والناس ، فقام بنا حتى خشينا أن يفوتنا الفلاح ، قلت : وما الفلاح ؟ قال : السحور . ثم لم يقم بنا بقية الشهر . رواه أبو داود ، والترمذي ، والنسائي ، وروى ابن ماجه نحوه ; إلا أن الترمذي لم يذكر : ثم لم يقم بنا بقية الشهر .

التالي السابق


الفصل الثاني

1298 - ( عن أبي ذر قال : صمنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ) ، أي : في رمضان ( فلم يقم بنا شيئا من الشهر ) ، أي : لم يصل بنا غير الفريضة من ليالي شهر رمضان ، وكان إذا صلى الفرض دخل حجرته ، ( حتى بقي سبع ) ، أي : من الشهر كما في رواية ، ومضى اثنان وعشرون ، قال الطيبي ، أي : سبع ليال نظرا إلى المتيقن ، وهو أن الشهر تسع وعشرون ، فيكون القيام في قوله : ( فقام بنا ) : ليلة الثالثة والعشرين ( حتى ذهب ثلث الليل ) : فصلى وذكر الله وقرأ القرآن ، وتكلم بالمعارف والحقائق ودقائق البيان ، ( فلما كانت السادسة ) ، أي : مما بقي ، وفي بعض النسخ بالنصب ، أي : فلما كانت الباقية السادسة ، أي : الليلة السادسة ، وهي الليلة الرابعة والعشرون ( لم يقم بنا ، فلما كانت الخامسة ) : وهي الليلة الخامسة والعشرون ، قال صاحب المفاتيح : فحسب من آخر الشهر وهو ليلة الثلاثين إلى آخر سبع ليال ، وهو الليلة الرابعة والعشرون ( قام بنا ، حتى ذهب شطر الليل ) ، أي : نصفه ( فقلت : يا رسول الله ! لو نفلتنا ) : بالتشديد ( قيام هذه الليلة ؟ ) : وفي رواية : بقية ليلتنا ، أي : لو جعلت بقية الليل زيادة لنا على قيام الشطر ، وفي النهاية : لو زدتنا من الصلاة النافلة ، سميت بها النوافل ; لأنها زائدة على الفرائض ، قال المظهر : تقديره لو زدت قيام الليل على نصفه لكان خيرا لنا ، ولو للتمني . ( فقال : " إن الرجل ) ، أي : جنسه ( إذا صلى ) ، أي : الفرض ( مع الإمام ) ، أي : وتابعه ( حتى ينصرف ) ، أي : الإمام ( حسب ) : على البناء للمفعول ، أي : اعتبر وعد ( له ) : وفي رواية : كتب له ( قيام ليلة ) : وفي رواية : ليلته ، أي : وإن اقتصرت صلاة الإمام على ما اقتضاه السياق ، قاله ابن حجر ، أي : حصل له ثواب قيام ليلة تامة يعني الأجر حاصل بالفرض ، وزيادة النوافل مبنية على قدر النشاط ; لأن الله لا يمل حتى تملوا ، والظاهر أن المراد بالفرض العشاء والصبح ، لحديث ورد بذلك كذلك ، ( فلما كانت الرابعة ) ، أي : من الباقية وهي السادسة والعشرون ، وقال ابن حجر : وهي ليلة السابع والعشرين ، ولعله سهو قلم وسبق قدم ، ويدل على صحة ما قلنا أنه رد على الحليمي في قوله : يسن استواء مقدار القيام في جميع ليالي الشهر ، وينبغي أن يكون العمل عليه في المساجد ، وأما زيادة الجد في العشر الأخير فهو تطوع ، وأما الاجتماع عليه فمحدث غير سنة اهـ . بأن الحديث يفيد تفاوت القيام بتفاوت الليالي الفاضلة ، بدليل أن ليلة السابع والعشرين أحياها كلها ; لأنها عند أكثر العلماء ليلة القدر ، ومن ثم جمع لها أهله ونساءه وغيرها لم يحيه كله ، بل تفاوت بينها ، وإذا ثبت تفاوت القيام مع الاجتماع عليه فيما ذكره ثبت رد ما قاله الحليمي . ( لم يقم بنا حتى بقي ثلث الليل ، فلما كانت الثالثة ) ، أي : من الباقية ، وهي ليلة السابع والعشرين ( جمع أهله ونساءه والناس ) ، أي : الخواص منهم ( فقام بنا حتى خشينا أن يفوتنا الفلاح ، قلت ) : قاله الراوي عن أبي ذر : ( وما الفلاح ؟ قال ) : أبو ذر ( السحور ) : بالضم والفتح ، قال في النهاية : ذكر السحور مكررا في غير موضع ، وهو بالفتح اسم ما يتسحر به من الطعام والشراب ، وبالضم المصدر والفعل نفسه ، وأكثر ما يروى بالفتح ، وقيل : الصواب بالضم ; لأنه بالفتح الطعام والبركة والأجر والثواب في الفعل لا في الطعام اهـ . وبه يظهر خشيتهم من فوته .

قال القاضي : الفلاح : الفوز بالبغية ، سمي السحور به ; لأنه يعين على إتمام الصوم ، وهو الفوز بما قصده ونواه والموجب للفلاح في الآخرة ، وقال الخطابي : أصل الفلاح البقاء ، وسمي السحور فلاحا إذا كان سببا لبقاء الصوم [ ص: 968 ] ومعينا عليه ، وقيل : لأنه معين على إتمام الصوم المفضي إلى الفلاح ، وهو الفوز بالزلفى والبقاء في العقبى ، قال الطيبي : الظاهر أن قوله يعني السحور من متن الحديث ، لا من كلام المؤلف ، يدل عليه ما أورده أبو داود وهو المذكور في متن الكتاب اهـ .

والعجب من ابن الملك حيث قال : قيل : هو من قول أبي ذر ، وقيل من متن الحديث ، والحال أنه لا فرق بينهما ، ويبعد من الفهم أن يتوهم من متن الحديث لفظ النبوة فتأمل . فإنه موضع زلل ، كما ذكره ابن حجر عند قوله : قلت ، أي : للنبي صلى الله عليه وسلم كما دلت عليه رواية أبي داود اهـ . فتدبر .

( ثم لم يقم بنا بقية الشهر ) ، أي : الثامنة والعشرين والتاسعة والعشرين ، قال ابن الملك : وهذه الصلاة التي صلاها النبي صلى الله عليه وسلم في أوتار العشر الأخير بالجماعة لم يعلم أهي صلاة التراويح ، أم التهجد الواجب أم الوتر ، أم صلاة القدر اهـ ؟ ولا منع من الجمع مع أن صلاة القدر غير معروفة ، والوتر لا يزاد على ثلاث ركعات على ما تقرر في المذهب وتحقق فيما سبق ، وتقييد التهجد بالواجب غير مناسب ; لأن وجوبه منسوخ حتى في حقه - عليه الصلاة والسلام - على المشهور . ( رواه أبو داود ) : قال ميرك : واللفظ له ( والترمذي ) : وقال : حسن صحيح ، ذكره ميرك .

وقال ابن حجر : هذا الحديث صححه الترمذي والحاكم ، ويوافقه حديث ابن حبان في صحيحه ، عن عبد الله بن أنيس : كان بعيد الدار ، فسأل النبي صلى الله عليه وسلم أن يأمره بليلة ينزل فيها إلى المسجد ، فقال صلى الله عليه وسلم : " انزل ليلة ثلاث وعشرين " ولم يقل له صلاتك في بيتك أفضل ، فدل كل من هذين الحديثين أن في قصد المسجد في هذه الليالي خصوصية زائدة على البيت ، وحينئذ فيقضي بهما على حديث : " صلوا في بيوتكم " ; لأنهما خاصان فيقضي بهما على ذلك العموم . ( والنسائي ) ، أي : بهذا اللفظ . ( وروى ابن ماجه نحوه ) ، أي : بمعناه ( إلا أن الترمذي لم يذكر : ثم لم يقم بنا بقية الشهر ) .




الخدمات العلمية