الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
الفصل الثاني

1359 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : خرجت إلى الطور ، فلقيت كعب الأحبار ، فجلست معه ، فحدثني عن التوراة ، وحدثته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فكان فيما حدثته أن قلت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " خير يوم طلعت عليه الشمس يوم الجمعة ، فيه خلق آدم ، وفيه أهبط ، وفيه تيب عليه ، وفيه مات ، وفيه تقوم الساعة ، وما من دابة إلا وهي مصيخة يوم الجمعة من حين تصبح حتى تطلع الشمس ، شفقا من الساعة ، إلا الجن والإنس ، وفيه ساعة لا يصادفها عبد مسلم وهو يصلي يسأل الله شيئا إلا أعطاه إياه ، قال كعب : ذلك في كل سنة يوم ؟ فقلت : بل في كل جمعة . فقرأ كعب التوراة ، فقال : صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال أبو هريرة : لقيت عبد الله بن سلام ، فحدثته بمجلسي مع كعب الأحبار وما حدثته في يوم الجمعة ، فقلت له : قال كعب : ذلك في كل سنة يوم ؟ قال عبد الله بن سلام : كذب كعب ، فقلت له : ثم قرأ كعب التوراة ، فقال : بل هي في كل جمعة . فقال عبد الله بن سلام : صدق كعب . ثم قال عبد الله بن سلام : قد علمت أية ساعة هي ؟ قال أبو هريرة : فقلت : أخبرني بها ولا تضن علي ، فقال عبد الله بن سلام هي آخر ساعة في يوم الجمعة ، قال أبو هريرة : فقلت : وكيف تكون آخر ساعة في يوم الجمعة ، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا يصادفها عبد مسلم وهو يصلي فيها " ؟ فقال عبد الله بن سلام : ألم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من جلس مجلسا ينتظر الصلاة ، فهو في صلاة حتى يصلي " ؟ قال أبو هريرة : فقلت : بلى ، قال : فهو ذلك . رواه مالك ، وأبو داود ، والترمذي ، والنسائي ، وروى أحمد إلى قوله : صدق كعب .

التالي السابق


الفصل الثاني

1359 - ( عن أبي هريرة قال : خرجت إلى الطور ) : محل معروف ، والمتبادر أنه طور سيناء ، ( فلقيت كعب الأحبار ) : قال الطيبي : الأحبار جمع بالفتح والكسر ، والإضافة كما في زيد الخيل ، وهو أبو إسحاق ، كعب بن ماتع من حمير ، أدرك زمن النبي صلى الله عليه وسلم ولم يره ، وأسلم زمن عمر رضي الله عنه . ( فجلست معه ، فحدثني عن التوراة ، وحدثته عن رسول الله ) ، أي : عن أحاديثه ( صلى الله عليه وسلم ، فكان فيما حدثته ) : خبر كان ( أن قلت ) : اسم كان ، قاله الطيبي ، أي : مع القول ومقوله . ( قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " خير يوم ) ، أي نهار ( طلعت عليه ) ، أي : على ما فيه ( الشمس يوم الجمعة ، فيه خلق آدم ) : الذي هو مبنى العالم ( وفيه أهبط ) ، أي : أنزل من الجنة إلى الأرض ، لعدم تعظيمه يوم الجمعة بما وقع له من الزلة ليتداركه بعد النزول في الطاعة والعبادة ، فيرتقي إلى أعلى درجات الجنة ، وليعلم قدر النعمة ; لأن المنحة تتبين عند المحنة ، والظاهر أن أهبط هنا بمعنى أخرج في الرواية السابقة ، وقيل : [ ص: 1014 ] كان الإخراج من الجنة إلى السماء ، والإهباط منها إلى الأرض ، فيفيد أن كلا منهما كان في يوم الجمعة إما في يوم واحد ، وإما في يومين والله أعلم .

( وفيه ) ، أي في يوم الجمعة ، والظاهر أن في ذلك اليوم بخصوصه ( تيب عليه ) : وهو ماض مجهول من تاب ، أي : وفق للتوبة وقبلت التوبة منه ، وهي أعظم المنة عليه ، قال تعالى : ( ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى ) . ( وفيه ) ، أي : في نحوه من أيام الجمعة ( مات ) : والموت تحفة المؤمن . كما ورد عن ابن عمر مرفوعا . رواه الحاكم والبيهقي وغيرهما ، قال القاضي : لا شك أن خلق آدم فيه يوجب له شرفا ، وكذا وفاته فإنه سبب لوصوله إلى الجناب الأقدس ، والخلاص عن النكبات . ( وفيه تقوم الساعة ) : وفيها نعمتان عظيمتان للمؤمنين ، وصولهم إلى النعيم المقيم ، وحصول أعدائهم في عذاب الجحيم ( وما من دابة ) : زيادة من لإفادة الاستغراق في النفي ( إلا وهي مصيخة ) ، أي : منتظرة لقيام الساعة ( يوم الجمعة ) : وفي أكثر نسخ المصابيح بالسين وهما لغتان ، قال التوربشتي : أي مصغية مستمعة ، ويروى مسيخة بالسين بإبدال الصاد سينا ، ووجه إصاخة كل دابة وهي ما لا يعقل ، هو أن الله تعالى يجعلها ملهمة بذلك مستشعرة عنه ، فلا عجب في ذلك من قدرة الله تعالى ، ولعل الحكمة في الإخفاء عن الجن والإنس ، أنهم لو كشفوا بشيء من ذلك اختلت قاعدة الابتلاء والتكليف وحق القول عليهم ذكره الطيبي ، وتبعه ابن حجر وفيه : أنه لو ألهموا بما ألهمت الدواب وانتظروا وقوع القيامة لا يلزم منه اختلال قاعدة التكليف ، ولا وقوع القيامة فتدبر . ( من حين تصبح ) : قال الطيبي : بني على الفتح لإضافته إلى الجملة ، ويجوز إعرابه إلا أن الرواية بالفتح ، ( حتى تطلع الشمس ) ; لأن القيامة تظهر يوم الجمعة بين الصبح وطلوع الشمس . ( شفقا ) ، أي خوفا ( من الساعة ) ، أي : من قيام القيامة ، وإنما سميت لوقوعها في ساعة .

قلت : وكان هذا الحديث مأخذ من قال : إن ساعة الجمعة بين ظهور الصبح وطلوع الشمس ، يعني : أن الحيوانات إذا كانت ذاكرات حاضرات خائفات في تلك الساعة ، فإن الإنسان الكامل ينبغي بالأولى أن يكون مشتغلا بذكر المولى ، وخائفا عما وقع له في الحالة الأولى ; إذ خوف الدواب من تصيير التراب ، وخوف أولي الألباب من رد الباب ، وعظيم العقاب ، وسخط الحجاب ، فخوفهن أهون مآبا ، ولذا يقول الكافر : ( يا ليتني كنت ترابا ) . ( إلا الجن والإنس ) : قال ابن حجر : فإنهم لا يعلمون ذلك اهـ .

والصواب أنهم لا يلهمون بأن هذا يوم يحتمل وقوع القيامة فيه ، والمعنى أن غالبهم غافلون عن ذلك ، لا أنهم لا يعلمون والله أعلم ، قال ابن الملك : استثناء من ( مصيخة ) وإخفاؤها عنهما ليتحقق لهم الإيمان بالغيب ، ولأنهم لو علموها لتنغص عليهم عيشهم ، ولم يشتغلوا

بتحصيل كفافهم من القوت خوفا من ذلك اهـ . وفيه بحث . ( وفيه ) ، أي : في جنس يوم الجمعة ( ساعة لا يصادفها ) ، أي : لا يوافقها ( عبد مسلم وهو يصلي ) : حقيقة أو حكما بالانتظار ، أو معناه يدعو ( يسأل الله ) : حال أو بدل ( شيئا ) : من أمر الدنيا والآخرة ( إلا أعطاه إياه ) : بالشروط المعتبرة في آداب الدعاء .

( قال ) : وفي نسخة : وقال ( كعب : ذلك في كل سنة يوم ؟ ) : قال الطيبي : الإشارة إلى اليوم المذكور المشتمل على تلك الساعة الشريفة ويوم خبره ، ( فقلت : بل في كل جمعة ) : قال الطيبي ، أي هي في كل جمعة أو في كل أسبوع يوم اهـ ، أي : ذلك اليوم المشتمل على ما ذكر كائن في كل أسبوع ، وهذا أظهر مطابقة للجواب ، [ ص: 1015 ] ولذا اقتصر عليه ابن حجر . ( فقرأ كعب التوراة ) : بالحفظ أو بالنظر ( فقال ) ، أي كعب ( صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم ) : وفي هذا معجزة عظيمة دالة على كمال علمه - عليه الصلاة والسلام - مع أنه أمي حيث أخبر بما خفي على أعلم أهل الكتاب . ( قال أبو هريرة : لقيت عبد الله بن سلام ) : وهو صحابي جليل ، كان من علماء اليهود ، فدخل في الإسلام . ( فحدثته بمجلسي ) ، أي بجلوسي ( مع كعب الأحبار وما حدثته ) ، أي : وبالحديث الذي حدثته ( في يوم الجمعة ) ، أي : في شأنه ( فقلت له ) ، أي لعبد الله ( قال كعب : ذلك في كل سنة يوم ؟ قال عبد الله بن سلام : كذب كعب ) ، أي في هذا القول ، وإنما فتح لعبد الله هذا العلم الضروري الذي هو لكعب من الأمر النظري ببركة الصحبة النبوية ، وسبق السعادة الإسلامية ، وأما قول ابن حجر : قوله : كذب كعب ظنا منه أن كعبا مخبر بذلك لا مستفهم ، فغير صحيح ; لأنه لو كان مستفهما لما أجابه أبو هريرة بقوله : بل في كل جمعة ، فالصواب أنه أخطأ في إخباره ، فصدق عليه أنه كذب ، فلا يستقيم الاستدلال هذا على جواز تغليظ العالم على من بلغه عنه الخطأ في الإفتاء ، كما ذكره ابن حجر .

( فقلت له ) ، أي لعبد الله ( ثم قرأ كعب التوراة ، فقال : بل هي ) ، أي : ساعة الجمعة ، ( في كل جمعة ) : وأما قول ابن حجر ، أي الجمعة في كل أسبوع ، فهو مما لا طائل تحته ، ( فقال عبد الله بن سلام : صدق كعب ) ، أي : الآن ( ثم قال عبد الله بن سلام : قد علمت أية ساعة هي ؟ ) : بنصب أية ، أي : عرفت تلك الساعة : وفي نسخة برفعها ، وبنى عليها ابن حجر حيث قال : هي هنا كهي في : ( لنعلم أي الحزبين ) . ( قال أبو هريرة : فقلت ) ، أي : لعبد الله ( أخبرني بها ) ، أي : بتلك الساعة ( ولا تضن ) : بكسر الضاد وتفتح وبفتح النون المشددة ، أي : لا تبخل بها ( علي ) : وفي نسخة العفيف : بالرفع على أنه نفي بمعنى النهي ، أو على أنه حال ( فقال عبد الله بن سلام : هي آخر ساعة في يوم الجمعة ) : قال الأشرف : يدل على قوله حديث : " التمسوا الساعة " كما سيأتي .

( قال أبو هريرة : فقلت : وكيف تكون ؟ ) ، أي : تلك الساعة ( آخر ساعة في يوم الجمعة ، وقد قال رسول الله ) ، أي والحال أنه قال ( صلى الله عليه وسلم ) ، أي : في شأنها ( لا يصادفها عبد مسلم وهو يصلي فيها ؟ ) : وفي نسخة : وهو يصلي وتلك الساعة لا يصلى فيها ، قال ميرك : هكذا وقع في رواية مالك في الموطأ ( فقال ) : وفي نسخة قال ( عبد الله بن سلام : ألم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من جلس مجلسا ) ، أي جلوسا أو مكان جلوس ( ينتظر الصلاة ) ، أي : فيه ( فهو في صلاة ) ، أي حكما ( حتى يصلي ؟ ) ، أي : حقيقة ( قال أبو هريرة : فقلت : بلى ) ، أي : بلى قال صلى الله عليه وسلم ذلك . ( قال ) ، أي عبد الله ، ووهم ابن حجر حيث قال ، أي : كعب ( فهو ) ، أي المراد بالصلاة ( ذلك ) ، أي : الانتظار ، وقيل ، أي : الساعة الخفيفة آخر ساعة من يوم الجمعة ، وتذكير الضمير باعتبار الوقت ( رواه مالك ، وأبو داود ، والترمذي ، والنسائي ) ، أي إلى آخر الحديث . ( وروى أحمد إلى قوله : صدق كعب ) .

[ ص: 1016 ]



الخدمات العلمية