الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
1385 - وعنه قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " إذا قلت لصاحبك يوم الجمعة : أنصت والإمام يخطب ، فقد لغوت " . متفق عليه .

التالي السابق


1385 - ( وعنه ) أي : عن أبي هريرة ( قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : " إذا قلت لصاحبك " ) أي : في المسجد ( " يوم الجمعة " ) : ظرف ، ( أنصت ) : من الإنصات بمعنى السكوت مقول القول ، ( " والإمام يخطب " ) : جملة حالية ، ( " فقد لغوت " ) : جزاء الشرط . وفي رواية : لغيت ، ومنه قوله تعالى : والغوا فيه ، قال ميرك : فيه دليل على أن وجوب الإنصات والنهي عن الكلام إنما هو في حال الخطبة ، وهذا مذهبنا ومذهب مالك والجمهور ، وقال أبو حنيفة : يجب الإنصات بخروج الإمام اهـ . ولعله قال به في قول جمعا بين الحديثين ، وهو ما تقدم . فإذا خرج الإمام ، وهذا الحديث وهو لا يفيد الحصر حتى ينافي الجمع في شرح السنة قوله : لغوت أي : تكلمت بما لا يعنيك . وقيل : خبت وخسرت ، وقيل : ملت وعدلت عن الصواب . قال الطيبي : وذلك لأن الخطبة قامت مقام الركعتين ، فكما لا يجوز التكلم في المنوب ، لا يجوز في النائب . تم كلامه ، وفيه أن هذا رأي ضعيف في مذهبه مع حرمة الكلام [ ص: 1032 ] لنهيه - عليه الصلاة والسلام - . وهذه العلة حكمة النهي لا أنها قياس ، فإنه لو صح لبطلت صلاته وليس كذلك ، ثم قال : وهذا في حق من أمر بالمعروف ، فكيف في حق من ارتكب المنكر ، وتكلم ابتداء ؟ ! وتعقبه ابن حجر بأن ما قاله مخالف لمذهبه المعتمد أن الكلام حال الخطبة ولو عبثا مكروه لا حرام اهـ . قال المظهر : والكلام منهي استحبابا أو وجوبا ، فالطريق أن يشار إليه باليد للسكت اهـ . كلامه .

وفي مذهب مالك : الإنصات واجب ، سواء سمع الخطبة أم لا . قال ابن الهمام : قوله : " فقد لغوت " هذا يفيد بطريق الدلالة منع الصلاة ، وتحية المسجد ; لأنه منع من الأمر بالمعروف ، وهو أعلى من السنة وتحية المسجد ، فمنعه منها أولى . فإن قيل : العبادة مقدمة على الدلالة عند المعارضة ، وقد ثبت أن رجلا جاء والنبي - صلى الله عليه وسلم - يخطب فقال : " أصليت يا فلان ؟ " قال : لا . قال : " صل ركعتين وتجوز فيهما " . فالجواب : أن المعارضة غير لازمة منه ; لجواز كونه قطع الخطبة ، وهو كذلك لخبر أنس : دخل رجل المسجد ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخطب فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم : " قم فاركع ركعتين " وأمسك عن الخطبة حتى فرغ من صلاته اهـ .

وعندي الحمل على أنه - عليه الصلاة والسلام - قطع خطبته مستبعد ، لما ذكره ابن الهمام ، أنه يكره للخطيب أن يتكلم في حال الخطبة للإخلال بالنظم ، إلا أن يكون أمرا بمعروف ، كقصة عمر مع عثمان وهي معروفة اهـ . فالأولى أن يقال : معنى قوله يخطب أي : يريد أن يخطب ، وليس قوله : وأمسك عن الخطبة نصا في قطع الخطبة ; لأنا نقول : المراد أمسك عن شروعها ، نعم فيه تقوية لقولهما حيث قالا : يباح الكلام حتى يشرع في الخطبة . وقال أبو حنيفة : إذا صعد الإمام المنبر يجب ترك صلاة النافلة والكلام ، ويحتمل أنه - عليه الصلاة والسلام - علم أن على الداخل قضاء ركعتي الصبح ، فأمره بهما رعاية للترتيب الواجب عندنا ، والله أعلم . ولا يبعد حمله على الخصوصية أو المنسوخية جمعا للأدلة الشرعية . ( متفق عليه ) .

قال ابن حجر : ما اعتيد في الأزمنة المتأخرة أن شخصا يقرأ هذا الحديث بصوت مرتفع بعد فراغ الأذان الذي بين يدي الخطيب ، وقبل أن يشرع في الخطبة ، وهذا وإن كان بدعة إلا أنه حسن ; لأن فيه حث الناس على الإصغاء ، والاستماع ، وعدم الكلام ، وذلك أمر بمعروف ، ومما يشهد لذلك أنه - عليه الصلاة والسلام - في حجة الوداع لما أراد الخطبة أمر من يستنصت له الناس ، فسن ذلك قياسا على هذا ، فمن زعم أن ذلك بدعة ، وشنع على فاعله ، فقد غفل عما قررته فتأمل . اهـ . فتأملنا ، فوجدنا المناقضة بين الكلام الأول حيث قال : وإن كان بدعة ، وبين الثاني حيث قال : ومن زعم أن ذلك بدعة ، ثم لا شك أنه بدعة غير مستحسنة ، إذ قعود الخطيب على المنبر منتظرا فراغ كلام غيره غير مستحسن شرعا ، ووضعا ، وطبعا ، وأما أمره - عليه الصلاة والسلام - من يستنصت على تقدير صحته إنما كان حين أراد أن يخطب قبل أن يطلع المنبر ، فالقياس فاسد .

ومن قبيح أفعالهم في هذا الزمان أن الخطيب الشافعي بمقتضى مذهبه يسلم بعد طلوعه المنبر ، وتوجهه إلى الناس ، ولا أحد يرد عليه السلام ، فكل من يقربه ، ويسمع سلامه ، يكون عاصيا بترك رده ، ولو أراد أحد أن يرد عليه لا يتصور ; لأن المؤذنين عقيب سلامه من غير فصل يشرعون في الأذان فقلت لخطيب : إما أن تترك هذه السنة لئلا توقع الناس في ترك الفرض ، وإما أن تأمر المؤذن بأن يرد عليك ، ثم يؤذن . فقال : هذا عادة ولا يمكن تغييرها ، ومن أقبح أفعال المؤذنين حينئذ رفع أصواتهم في أثناء الخطبة ، ومن قبيح فعل الخطيب أنه أحيانا يتبعهم ، وينتظر سكوتهم ، ثم يبالغون في رفع الصوت عند ذكر السلاطين ، وهذا كله بشآمة البدعة ، ومتاركة السنة ، ومنشؤها تذلل العلماء للأمراء ، وإدخال أساميهم في الخطبة متوسلين إلى غرضهم الفاسد بذكر الخلفاء الأربعة وغيرهم في الخطبة ، إلى أن معانديهم ومخالفيهم من الرافضة وجدوا سبيلا إلى الضلالة الزائدة ، فيسبون الصحابة - رضي الله تعالى عنهم أجمعين - فوق منابرهم مكان مدح أهل السنة لهم ، وهذه كلها بدع ; فكن منكرا بقلبك وإن أفتاك المفتون ، وما أحسن فعل عمر بن عبد العزيز حيث جعل مكان سب أهل البيت الصادر من بني أمية فوق المنابر هذه الآية الشريفة في آخر [ ص: 1033 ] الخطبة : إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون فهذه هي البدعة الحسنة ، بل السنة المستحسنة ، كما قال ابن مسعود - رضي الله عنه : ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن . والمراد بالمسلمين زبدتهم وعمدتهم ، وهم العلماء بالكتاب والسنة ، الأتقياء عن الحرام والشبهة ، جعلنا الله منهم في الدنيا والآخرة .

ثم وجه مناسبة هذا الحديث لعنوان الباب أنه يفهم منه الحث على التبكير ، حتى لا تفوته سنة الجمعة ، أو تحية المسجد ، أو لا يحتاج إلى قوله : ( أفسحوا ) ، وأما ما ذكره ابن حجر من أن وجه مناسبته أنه ربما احتاج إلى الكلام حالة الخطبة ، فبين له حكمه ، ففي غاية البعد إذ يستوي في هذا الحكم المبكر وغيره ، والله أعلم .




الخدمات العلمية