الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
12 - وعن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا رسول الله ، ويقيموا الصلاة ، ويؤتوا الزكاة . فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم ، إلا بحق الإسلام ، وحسابهم على الله " متفق عليه ، إلا أن مسلما لم يذكر إلا بحق الإسلام .

التالي السابق


12 - ( وعن ابن عمر رضي الله عنهما ) : مر ذكره [ قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( أمرت ) ] : لم يذكر الآمر للعلم به ، أي أمرني ربي بالوحي الجلي أو الخفي [ ( أن أقاتل الناس ) ] أي : بأن أجاهدهم وأحاربهم . فـ " أن " مصدرية ، أو مفسرة لما في الأمر من معنى القول [ ( حتى يشهدوا ) ] وفي رواية : حتى يقولوا [ ( أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا رسول الله ) ] أكثر الشراح على أن المراد بالناس عبدة الأوثان دون أهل الكتاب ؛ لأنهم يقولون : لا إله إلا الله ، ولا يرفع عنهم السيف إلا بالإقرار بنبوة محمد - عليه الصلاة والسلام - أو إعطاء الجزية ، ويؤيده رواية النسائي : أمرت أن أقاتل المشركين ، ولا يتم هذا إلا على رواية لم يوجد فيها ، وأن محمدا رسول الله . وقال الطيبي : المراد الأعم ، لكن خص منه أهل الكتاب بالآية . قيل : وهو الأولى لأن الأمر بالقتال نزل بالمدينة مع كل ما يخالف الإسلام ، قال ابن الصباغ في " الشامل " : لما بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - فرض عليه التوحيد والتبليغ وقراءة القرآن بقوله : ( اقرأ باسم ربك الذي خلق ) ثم فرض الصلاة بمكة ، وفرض الصوم بعد سنتين من الهجرة ، والحج في السنة السادسة أو الخامسة ، وأما الزكاة فقيل بعد الصيام ، وقيل قبله ، وأما الجهاد فلم يؤذن له بمكة ، وأذن له بالمدينة لمن ابتدأ به ، ثم ابتدأهم به دون الحرم والأشهر الحرم ، ثم نسخ ذلك وأبيح ابتداؤهم في الأشهر الحرم والحرم . وقال ابن حجر : حتى غاية لـ " أمرت " أو " أقاتل " وهو أولى ، أي إلى أن يأتوا بأربعة أشياء : ما لم يعطوا الجزية إن كانوا من أهلها ، أو يعقد لهم أمان أو هدنة إن كانوا من غير أهلها كما استفيد من أدلة أخرى اهـ .

وقوله : وهو أولى ، خلاف الأولى ؛ لأن الغاية تتعين للمقاتلة القابلة للاستمرار ، ولا يصح أن يكون غاية للأمر ؛ لعدم الاستقرار [ ( ويقيموا الصلاة ) ] أي المفروضة ، بأن يأتوا بشرائطها وأركانها المجمع عليها . قيل فيه دليل لمذهب الشافعي أن تارك الصلاة يقتل بشرطه المقرر في الفقه ، وفيه أن الكلام في المقاتلة لا في القتل ، ومقاتلة الإمام لتاركي الصلاة إلى أن يأتوا بها محل وفاق مع أنه منقوض بترك الزكاة فإنه لم يقل به أحد . [ ( ويؤتوا الزكاة ) ] : وهي لا تكون إلا مفروضة ، وفيه دليل لقتال مانعيها ، ولا نزاع فيه ، ومن ثم قاتلهم الصديق ، وأجمع عليه الصحابة - رضي الله عنهم - وقيل : معناه حتى يقبلوا فرضيتهما ، ثم قيل : أراد الخمسة التي بني الإسلام عليها ، وإنما خصتا بالذكر لأنهما أم العبادات البدنية والمالية وأساسهما ، والعنوان على غيرهما ، ولذا كانت الصلاة عماد الدين ، والزكاة قنطرة الإسلام ، وقرن بينهما في القرآن كثيرا ، أو لكبر شأنهما على النفوس لتكررهما ، أو لم يكن الصوم والحج مفروضين حينئذ ، والمراد : حتى يسلموا . ويدل عليه رواية البخاري ( حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله ، ويؤمنوا بي وبما جئت به ) ؛ ولهذا حذفتا في رواية استغناء عنهما بالشهادتين لأنهما الأصل ، والتحقيق أن يقال : الشهادة إشارة إلى تخلية لوح القلب عن الشرك الجلي والخفي ، وسائر النقوش الفاسدة الردية ، ثم تحليته بالمعارف اليقينية ، والحكم الإلهية ، والاعتقادات الحقية ، وأحوال المعاد ، وما يتعلق بالأمور الغيبية والأحوال الأخروية ؛ لأن من أثبت الله بجميع أسمائه وصفاته التي دل عليها اسم الله ، ونفى غيره ، وصدق رسالة النبي بنعت الصدق والأمانة - فقد وفى بعهدة عهده ، وبذل غاية جهده في بداية جهده ، وآمن بجميع ما وجب من الكتب ، والرسل ، والمعاد ، ولذا لم يتعرض لأعداد سائر الأعداد ، وإقامة الصلاة إرشاد إلى ترك الراحات البدنية ، وإتعاب الآلات الجسدية ، وهي أم العبادات التي إذا وجدت لم يتأخر [ ص: 81 ] عنها البواقي ، ولذا استغنى عن عدها وترك السيئات ، فإن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ، وإيتاء الزكاة هو الإعراض عن الفضول المالية ، بل عن كل موجود وهمي بالموجود الحقيقي ، وبذل المال الذي هو شقيق الروح ؛ لاستفتاح أبواب الفتوح ، واللام فيهما للعهد أو ، للجنس فينصرف إلى الكامل كقولهم : هو الرجل كأن ما عدا صلاة المسلمين وزكاتهم ليس صلاة ولا زكاة . [ ( فإن فعلوا ذلك ) ] أي المذكور من الشهادتين والصلاة والزكاة ، ويسمى القول فعلا ؛ لأنه عمل اللسان ، أو تغليبا [ ( عصموا ) ] بفتح الصاد أي : حفظوا ومنعوا [ ( مني ) ] أي من أتباعي أو من قبلي وجهة ديني [ ( دماءهم وأموالهم ) ] أي استباحتهم بالسفك والنهب المفهوم من المقاتلة [ ( إلا بحق الإسلام ) ] أي دينه ، والإضافة لامية ، والاستثناء مفرغ من أعم عام الجار والمجرور ، أي إذا فعلوا ذلك لا يجوز إهدار دمائهم واستباحة أموالهم بسبب من الأسباب ، إلا بحق الإسلام من استيفاء قصاص نفس أو طرف ، إذا قتل أو قطع ، ومن أخذ مال إذا غصب ، إلى غير ذلك من الحقوق الإسلامية ، كقتل لنحو زنا محصن ، وقطع لنحو سرقة ، وتغريم مال لنحو إتلاف مال الغير المحترم ، وقال ابن مالك : استثناء من الدماء والأموال بحذف موصوف ، أي إلا دماء أو أموالا ملتبسة بحق ، [ وحسابهم ] أي فيما يسترون من الكفر والمعاصي بعد ذلك [ على الله ] ، والجملة مستأنفة ، أو معطوفة على جزاء الشرط ، والمعنى أنا نحكم بظاهر الحال والإيمان القولي ، ونرفع عنهم ما على الكفار ، ونؤاخذهم بحقوق الإسلام بحسب ما يقتضيه ظاهر حالهم ، لا أنهم مخلصون ، والله يتولى حسابهم ، فيثيب المخلص ، ويعاقب المنافق ، ويجازي المصر بفسقه ، أو يعفو عنه ، وفيه دليل على أن من أظهر الإسلام وأبطن الكفر يقبل إسلامه في الظاهر ، وذهب مالك إلى أنه لا تقبل توبة الزنديق ، وهو من يظهر الإسلام ويخفي الكفر ، ويعلم ذلك بأن يقر أو يطلع منه على كفر كان يخفيه ، فقيل : لا تقبل ويتحتم قتله ، لكنه إن صدق في توبته نفعه في الآخرة ، وقيل : يقبل منه مرة فقط ، وقيل : ما لم يكن تحت السيف ، وقيل : ما لم يكن داعية للضلال ، وقيل : معنى الحديث أن القتال والعصمة إنما هما في الأحكام الدنيوية ، وأما الأمور الأخروية من الثواب والعقاب وكميتها وكيفيتها ، فهو مفوض إلى الله تعالى لا دخل لنا فيه اهـ .

وقد يرجع إلى المعنى الأول ، فتأمل . وقيل : معناه أن الحساب كالواجب في تحقق الوقوع ، وقيل : هو واجب شرعا بحسب وعده تعالى به ، فيجب أن يقع لا أنه تعالى يجب عليه شيء فلا حجة فيه للمعتزلة في زعمهم وجوبه على الله تعالى عقلا ، ثم الحساب مصدر كالمحاسبة ، وهو العد . قيل : ومعنى حسابهم على الله أنه يعلمهم ما لهم وما عليهم بأن يخلق العلم الضروري في قلوبهم بمقادير أعمالهم ، وبما لهم من الثواب والعقاب . عن ابن عباس أنه قال : لا حساب على الخلق ، بل يقفون بين يدي الله ، ويعطون كتبهم بأيمانهم ، فيقال : قد تجاوزت عنها ، ثم يعطون حسناتهم فيقال : قد ضاعفتها لكم ، فيكون مجازا من باب إطلاق السبب على المسبب ؛ لأن الحساب سبب لحصول علم الإنسان بما له أو عليه ، أو أنه يجازيهم إذ الحساب سبب للأخذ والإعطاء . قال تعالى : ( والله سريع الحساب ) ومعنى سرعته أن قدرته تعالى متعلقة بجميع الممكنات من غير أن يفتقر في إحداث شيء إلى فكر ، وروية ، ومدة ، وعدة ؛ ولذا ورد أنه يحاسب الخلق في مقدار حلبة شاة أو في لمحة . ( متفق عليه ) أي اتفق البخاري ومسلم على رواية جميع الحديث المذكور ، إلا أن مسلما لم يذكر : [ إلا بحق الإسلام ] : لكنه مراد ، ورواه النسائي ، وابن ماجه من حديث جابر ، وهذا الحديث موافق لقوله تعالى : ( فإن تابوا ) أي عن الكفر بإتيان الشهادتين ( وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم ) وفي الجامع [ ص: 82 ] الصغير رواه الجماعة عن أبي هريرة ، وهو متواتر ، أي معنوي ، بلفظ : ( أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله ، وأني رسول الله ، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها ، وحسابهم على الله ) ، وفي الجامع الكبير روى ابن جرير ، والطبراني عن أنس وحسنه " ( أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله ، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم ، وأموالهم إلا بحقها ) قيل : وما حقها ؟ قال : ( زنا بعد إحصان ، أو كفر بعد إسلام ، أو قتل نفس فيقتل بها ) اهـ .

ففي هذا الحديث دلالة ظاهرة على أن الإقرار شرط لصحة الإسلام وترتب الأحكام ، ورد بليغ على المرجئة في قولهم : إن الإيمان غير مفتقر إلى الأعمال ، ودليل على عدم تكفير أهل البدع من أهل القبلة المقرين بالتوحيد الملتزمين للشرائع .




الخدمات العلمية