الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
15 - وعن سفيان بن عبد الله الثقفي - رضي الله عنه - قال : قلت : يا رسول الله ، قل لي في الإسلام قولا لا أسأل عنه أحدا بعدك - وفي رواية : غيرك - قال : " قل آمنت بالله ، ثم استقم " . رواه مسلم .

التالي السابق


15 - ( وعن سفيان ) بتثليث السين والضم هو المشهور ( ابن عبد الله ) أي ابن ربيعة ( الثقفي ) بفتحتين ، نسبة إلى قبيلة ثقيف ، يكنى أبا عمرو ، وقيل أبا عمرة ، يعد في أهل الطائف له صحبة ، وكان عاملا لعمر بن الخطاب على الطائف ، مروياته خمسة أحاديث ( قال : قلت : يا رسول الله ، قل لي في الإسلام ) أي فيما يكمل به الإسلام ، ويراعى به حقوقه ، ويستدل به على توابعه ، وقيل : التقدير : في مبادئ الإسلام وغاياته ( قولا لا أسأل عنه [ ص: 84 ] أحدا بعدك ) أي قولا جامعا لا أحتاج فيه إلى سؤال أحد بعد سؤالك هذا ، كقوله تعالى : ( وما يمسك فلا مرسل له من بعده ) أي من بعد إمساكه ( - وفي رواية : غيرك - ) أي لا أسأل عنه أحدا غيرك ، والأول مستلزم لهذا ؛ لأنه إذا لم يسأل أحدا بعد سؤاله لم يسأل غيره ، وكذا يظهر وجه أولوية الأول فجعله أصلا ، والثاني رواية خلافا لما فعل النووي في أربعينه ( قال : قل آمنت بالله ) أي بجميع ما يجب الإيمان به ( ثم استقم ) هذا مقتبس من قوله تعالى : ( إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا ) يعني على امتثال الأوامر ، واجتناب الزواجر ( فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون ) وفي آية أخرى : ( تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون ) الآيات .

فالتوحيد حاصل بقوله : آمنت بالله ، والطاعة بأنواعها مندرجة تحت قوله : ( ثم استقم ) ؛ لأن الاستقامة امتثال كل مأمور واجتناب كل محذور ، فيدخل فيه أعمال القلوب والأبدان من الإيمان والإسلام والإحسان ، إذ لا تحصل الاستقامة مع شيء من الاعوجاج ، ولذا قالت الصوفية : الاستقامة خير من ألف كرامة ، أو نقول آمنت بالله شامل للإتيان بكل الطاعات والاجتناب عن كل المنهيات ، وقوله : ثم استقم محمول على الثبات فيهما ، ولعظمة أمر الاستقامة قال عليه السلام : ( شيبتني سورة هود ) ؛ لأنه نزل فيها : ( فاستقم كما أمرت ) وهي جامعة لجميع أنواع التكاليف . وقالت الصوفية : لأن الدعوة إلى الله مع كون المدعو على الصراط المستقيم أمر صعب لا يمكن إلا إذا كان الداعي على بصيرة يرى أنه يدعوه من اسم إلى اسم . قال ابن عباس في قوله تعالى : ( فاستقم كما أمرت ) ما نزل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في جميع القرآن آية كانت أشد ولا أشق عليه من هذه الآية . ولذا قال - عليه الصلاة والسلام - لما قالوا له : قد أسرع إليك الشيب : ( شيبتني هود وأخواتها ) . وقال الفخر الرازي : الاستقامة أمر صعب شديد لشمولها العقائد بأن يجتنب التشبيه والتعطيل ، والأعمال بأن يحترز عن التغيير والتبديل ، والأخلاق بأن يبعد عن طرفي الإفراط والتفريط . وقال الغزالي : الاستقامة على الصراط في الدنيا صعب كالمرور على صراط جهنم ، وكل واحد منهما أدق من الشعر ، وأحد من السيف اهـ . ومما يزيد صعوبة هذا المرقى خبر ( استقيموا ، ولن تحصوا ) أي ولن تطيقوا أن تستقيموا حق الاستقامة ، ولكن اجتهدوا في الطاعة حق الإطاعة ، فإن ما لا يدرك كله لا يترك كله ، وفيه تنبيه نبيه على أن أحدا لا يظن بنفسه الاستقامة ، ولا يتوهم أنه خرج بالكلية من صفة النفس اللوامة ، فيقع في العجب والغرور اللذين هما أقبح من كل ما يترتب عليه الملامة ، نسأل الله السلامة .

وقد يقال : السين لطلب القيام والثبات على الحالات والمقامات في جميع الساعات إلى الممات ، ثم قد يقال : الحكمة في عدم الإطاقة على دوام الإطاعة أن تراب الإنسان عجن بماء النسيان الناشئ عنه العصيان ؛ ولذا قال - عليه الصلاة والسلام - : ( كلكم خطاءون ، وخير الخطائين التوابون ) فجنس الإنسان كنوع النسوان التي خلقن من الضلع الأعوج فلا يتصور منهن الاستقامة على صفة الإدامة ، وكل ميسر لما خلق له ، ولا يزول طبع عما جبل عليه كما ورد في حديث الإشارة إليه هذا ، ولفظة ( ثم ) مستعارة للتراخي الرتبي ؛ لأن الاستقامة أفضل من قوله : آمنت بالله ؛ لشمولها العقائد والأعمال والأخلاق . ذكره الزمخشري والإمام ، وهي لغة ضد الاعوجاج أي الاستواء في جهة الانتصاب ، وتنقسم إلى استقامة العمل ، وهو الاقتصاد في غير متعد من منهج السنة ، ولا متجاوز عن حد الإخلاص إلى الرياء والسمعة ، أو رجاء العوض ، أو طلب الغرض ، واستقامة القلب وهي الثبات على الصواب ، وعند المحققين هي استواء القصد في السير إلى الله ، وثبات القوى على حدودها بالأمر والنهي ، وهي دون الاستقامة في السير في الله ؛ لأن هذه في الطريق والسلوك إليه بأحديه الطريق المستقيم ، وأما السير في الله فهو الاتصاف بصفاته ، والاستقامة في الله [ ص: 85 ] دون الاستقامة في السير في الله المأمور بها نبينا محمد - عليه الصلاة والسلام - في قوله : ( فاستقم كما أمرت ) ؛ لأن تلك في مقام جمع الجمع ، والبقاء بعد الفناء ، والأولى للمريدين ، والثانية للمتوسطين . واستقامة الروح وهي الثبات على الحق والسر ، وهي الثبات على الحقيقة . قال القشيري : الاستقامة درجة بها كمال الأمور وتمامها ، وبوجودها حصول الخيرات ونظامها ، ومن لم يكن مستقيما ضاع سعيه ، وخاب جهده ، وأنشد :


إذا أفشيت سرك ضيق صدر أصابتك الملامة والندامة وإن أخلصت يوما في فعال
تنال جزاءه بالاستقامة



وقال بعض العارفين : معنى الحديث أنه إذا وفقت بالتوحيد ورؤية جلال قدمه فدر مع الحق حيث دار ، إما قضاء وإما رضاء ، ولا تنزل عن مقام الرضا إلى فترة النفس والهوى ، وقال الغزالي : لعزة الاستقامة والاحتياج إليها في كل حالة أمر الله تعالى عباده بقراءة الفاتحة المتضمنة للدعاء بالاستقامة أمر وجوب في الأوقات الخمسة ، نسأل الله تعالى الاستقامة الشاملة بحسن الخاتمة ( رواه مسلم ) . ورواه النسائي وابن ماجه والترمذي ، وزاد : قلت : يا رسول الله ما أخوف ما أخاف علي ؟ فأخذ بلسانه ثم قال : ( هذا ) . وقال الترمذي : حسن صحيح ، وزاد في الإحياء : قلت : ما أتقي ؟ فأومأ بيده إلى لسانه .




الخدمات العلمية