الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
2052 - وعنه قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " لا تختصوا ليلة الجمعة بقيام من بين الليالي ، ولا تختصوا يوم الجمعة بصيام من بين الأيام إلا أن يكون في صوم يصومه أحدكم " رواه مسلم .

التالي السابق


2052 - ( وعنه ) أي عن أبي هريرة ( قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " لا تختصوا ليلة الجمعة بقيام " ) قال ابن حجر : أي صلاة ، والظاهر أن القيام أعم في المعنى المراد " من بين الليالي " قال النووي : في هذا الحديث نهي صريح عن تخصيص ليلة الجمعة بصلاة من بين الليالي ، وهذا متفق عليه ، واستدل به العلماء على كراهة هذه الصلاة المبتدعة المسماة بالرغائب ، وقد صنف العلماء مصنفات في تقبيحها وتضليل واضعها اهـ ولعل وجه النهي عن زيادة العبادة على العادة في ليلة الجمعة إبقاء للقوي على القيام بوظائف يوم الجمعة ، والله أعلم " ولا تختصوا يوم الجمعة بصيام من بين الأيام " قال الطيبي : يوم نصب مفعول به كقوله : ويوم شهدناه ، والاختصاص لازم ومتعد ، وفي الحديث متعد ، قال المالكي : المشهور في اختص أن يكون موافقا لـ ( خص ) في التعدي إلى مفعول ، وبذلك جاء قوله - تعالى - يختص برحمته من يشاء وقول عمر بن عبد العزيز : ولا يختص قوما ، وقد يكون اختص مطاوع خص فلا يتعدى كقولك : خصصتك لا لشيء فاختصصت به اهـ وكان محل هذا الكلام صدر الحديث وهو لا تختصوا ليلة الجمعة كما لا يخفى لك ، لكن تبعناه مراعاة للفظ ، ولعل في نسخة تقديما وتأخيرا فيكون أيضا محافظة على أصله ، وأما قول ابن حجر : يوم الجمعة مفعول به نحو قوله - تعالى - يخافون يوما فالظاهر أن تقديره عذاب يوم ، لأن اليوم لا يخاف ، وقولهم : يوم مخوف أي مخوف فيه ، أو على المجاز مبالغة ( إلا أن يكون في صوم ) تقديره : إلا أن يكون يوم الجمعة واقعا في يوم صوم ( يصومه أحدكم ) أي من نذر أو ورد ، الظاهر أن الاستثناء من ليلة الجمعة كذلك ، ولعله ترك ذكره للمقايسة ، والله أعلم ، قبل علة النهي عن الاختصاص قد تقدم ، وقال المظهر : هنا قيل علة النهي ترك موافقة اليهود في يوم واحد من بين الأسبوع ، يعني عظمت اليهود السبت فلا تعظموا الجمعة خاصة بصيام وقيام ، وأقول : لو كانت العلة مخالفة اليهود لكان الصوم أولى لأنهما يستريحون فيه ، ويتمتعون بالأكل والشرب ، ومصداقه حديث أم سلمة في الفصل الثالث من هذا الباب اهـ وفيه أن المقصود وجود المخالفة لهم في تعظيم يومهم المعظم عندهم بأي نوع من أنواع الاختصاص ، ولو كان عبادة ومخالفة لهم من وجه آخر ، مع أنه ورد : لا تصوموا يوم السبت إلا فيما افترض عليكم ، وظاهره أن النهي لمخالفتهم ولعلهم طائفتان ، والله أعلم ، ثم قال : ولكن العلة ورود النص وتخصيص كل يوم بعبادة ليست ليوم آخر فإن الله - تعالى - قد استأثر الجمعة بفضائل لم يستأثر بها غيرها ، فجعل الاجتماع فيه للصلاة فرضا على العباد في البلاد ، فلم ير أن يخصه بشيء من الأعمال سوى ما خص به ثم خص بعض الأيام بعمل دون ما خص به غيره ليختص كل منها بنوع من العمل ليظهر فضيلة كل ما يختص به اهـ وفيه أن استيثار الجمعة بفضائل كثيرة لا يقتضي منع الصوم فيها ، ليس من الله بمستنكر أن يجمع العالم في واحد مع أن النهي ليس على إطلاقه ، نعم لو كان النهي مطلقا لكان الوجه أن يقال نهاهم تهوينا وتسهيلا للأمر عليهم ، كما قيل في كراهة صوم يوم عرفة ، أو يقال تشبيها بيوم العيد فإن الجمعة عيد المؤمنين من الفقراء والمساكين ، ولذا سمي في الجنة بيوم المزيد لحصول الحسنى والزيادة فيه للمريد ، لكن حيث استثنى الشارع ضم يوم قبله أو بعده تحيرت الأفكار واضطربت الأنظار ، والله أعلم بالأسرار ( رواه مسلم ) وجاء في خبر مسلم أيضا أن جابرا سئل : أنهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن صوم يوم الجمعة ؟ قال : نعم ورب الكعبة ، وورد في خبر صحيح : يوم الجمعة يوم عيد فلا تجعلوا يوم عيدكم يوم صيامكم ، إلا أن تصوموا قبله أو بعده ، وأخرجه الحاكم بلا استثناء ، قال الذهبي : في إسناده مجهول ، لكن له شاهد في الصحيحين ، وفي حديث ضعيف : يوم الجمعة عيدنا أهل الإسلام فيتحصل من مجموع الأحاديث أنه - صلى الله عليه وسلم - نهى تهوينا على أمته ، فإنه رحمة للعالمين ، ولما كلفوا بعبادات فيه خاف عليهم أن يضموا إليها الصوم فيعجزوا عنها بالكلية ، وهذه الحكمة في كون هذه الملة هي السمحاء الحنيفية ، فمنعهم عن إفراده بالصوم نظرا إلى أنه عيد لهم فيناسبه الأكل والشرب المنافي للعيد المقتضي للإعانة على الطاعة مع ما فيه من المخالفة للمخالفين كما سبق ، أو لذا قيل : العلة فيه أن لا يبالغ في تعظيمه كاليهود في السبت والنصارى في الأحد ، وقيل : لئلا يعتقد وجوبه فيكون حينئذ نظير النهي عن صوم يوم الشك ، حيث لا يكره إذا كان وافق يوما اعتاده ، أو ضم إليه يوما قبله أو بعده ، أو يكون في صوم يصومه أحدكم .

[ ص: 1419 ]



الخدمات العلمية