الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
204 - وعنه ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : " من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة . ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة . ومن ستر مسلما ستره الله في الدنيا والآخرة . والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه . ومن سلك طريقا يلتمس فيه علما سهل الله له به طريقا إلى الجنة . وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم ، إلا نزلت عليهم السكينة ، وغشيتهم الرحمة وحفتهم الملائكة ، وذكرهم الله فيمن عنده . ومن بطأ به عمله لم يسرع به نسبه " . رواه مسلم .

التالي السابق


204 - ( وعنه ) أي : عن أبي هريرة - رضي الله عنه - ( قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( من نفس ) : بالتشديد أي : فرج . قال الطيبي : كأنه فتح مداخل الأنفاس فهو مأخوذ من قولهم : أنت في نفس أي سعة كأن من كان في كربة سد عنه مداخل الأنفاس ، فإذا فرج عنه فتحت بمعنى من أزال وأذهب ( عن مؤمن ) : أي مؤمن ولو كان فاسقا مراعاة لإيمانه ( كربة ) أي : أي حزن وعناء وشدة ولو حقيرة ( من كرب الدنيا ) : الفانية المنقضية ، ومن : تبعيضية أو ابتدائية ( نفس الله عنه كربة ) أي : عظيمة ( من كرب يوم القيامة ) : أي : الباقية غير المتناهية فلا يرد أنه تعالى قال : من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ، فإنه أعم من أن يكون في الكمية أو الكيفية ، ولما كان الخلق كلهم عيال الله وتنفيس الكرب إحسان فجزاه الله جزاء وفاقا لقوله تعالى : هل جزاء الإحسان إلا الإحسان ( ومن يسر على معسر ) أي : سهل على فقير ، وهو يشمل المؤمن والكافر ، أي : من كان له دين على فقير فسهل عليه بإمهال أو بترك بعضه أو كله ( يسر الله عليه ) : بدل تيسيره على عبده مجازاة بجنسه ( في الدنيا والآخرة ) أي : في الدارين أو في أمورها . قال بعض العارفين : لا يخفى أن المعسر وصاحب الكربة هو المريد في وادي الغربة المحتاج إلى قطع العقبات النفسانية والمنازل الظلمانية والنورانية ، كما اشتهر عن الكتاني : إن بين العبد والحق ألف مقام من نور وظلمة ويتلقاه الوساوس والهواجس ، فعلى شيخه أن ينفس كربة الوساوس عنه بأمره بترك المبالاة بها والتأمل في الحجج العقلية والأدلة النقلية إن استأهله ، واستدامة الذكر والابتهال إلى المولى ، ويسهل عليه سواء الطريق ويذيقه حلاوة التحقيق حتى يسطع في قلبه أنوار القلوب ويطلع في سره شموس الوصول إلى المحبوب . ( ومن ستر مسلما ) أي : في قبيح يفعله فلا يفضحه أو كساه ثوبا ( ستره الله ) أي : عيوبه أو عورته ( في الدنيا والآخرة ) : كما تقدم . وفي شرح مسلم أي ستر بدنه بالإلباس ، أو عيوبه بعدم الغيبة له والذب عن معايبه ، وهذا على من ليس معروفا بالفساد ، وأما المعروف به فيستحب أن ترفع قصته إلى الوالي ولو رآه في معصية فينكرها بحسب القدرة ، وإن عجز يرفعها إلى الحاكم إذا لم يترتب عليه مفسدة . قال بعض المحققين : وفيه إشارة لمن وقف على شيء من مقامات أهل العرفان وكرامات ذوي الإيقان أن يحفظ سره ويكتم عن غيره أمره ، فإن كشف الأسرار على الأغيار يسد باب العناية ويوجب الحرمان والغواية .

من أطلعوه على سر فباح به لم يأمنوه على الأسرار ما عاشا ( والله في عون العبد ) : الواو للاستئناف ، وهو تذييل لكلام السابق ( ما كان ) أي : ما دام ( العبد ) : مشغولا ( في عون أخيه ) : أي : المسلم كما في نسخة . أي : في قضاء حاجته ، وفيه إشارة إلى فضيلة عون الأخ على أموره والمكافأة عليها بجنسها من العناية الإلهية ، سواء كان بقلبه أو بدنه أو بهما لدفع المضار أو جلب المسار إذ الكل عون ، ولما فرغ من الحث على الشفقة على خلق الله أتبعه بما ينبئ عن التعظيم لأمر الله ، لأن العلم وسيلة إلى العمل فقال : ( ومن سلك ) أي : دخل أو مشى ( طريقا ) أي : قريبا أو بعيدا . قيل : التنوين للتعميم ؛ إذ النكرة في الإثبات قد تفيد العموم أي : بسبب أي سبب كان من التعليم والتصنيف ومفارقة الوطن والإنفاق فيه ( يلتمس فيه ) : حال أو صفة ( علما ) : نكرة ليشمل كل نوع من أنواع علوم الدين قليلة أو كثيرة ، إذا كان بنية القربة والنفع والانتفاع ، وفيه استحباب الرحلة في طلب العلم ، وقد ذهب موسى إلى الخضر عليهما [ ص: 287 ] الصلاة والسلام وقال له : هل أتبعك على أن تعلمني مما علمت رشدا ورحل جابر بن عبد الله من مسيرة شهر إلى عبد الله بن قيس في حديث واحد . كذا نقله ابن الملك ( سهل الله له به ) أي : بذلك السلوك أو الطريق أو الالتماس أو العلم ( طريقا ) أي : موصلا ومنهيا ( إلى الجنة ) . مع قطع العقبات الشاقة دونها يوم القيامة ( وما اجتمع قوم ) أي : جمع ( في بيت ) أي : مجمع ( من بيوت الله ) : بكسر الباء وضمها ، واحترز به عن مساجد اليهود والنصارى ، فإنه " يكره الدخول فيها والعدول عن المساجد إلى بيوت الله ليشمل كل ما يبنى تقربا إلى الله تعالى من المساجد والمدارس والربط ، ( يتلون ) : حال من قوم لتخصيصه ( كتاب الله ) : أي : القرآن ، وليس المراد بالتلاوة مجرد إجراء الألفاظ على اللسان ، بل لا بد أن يقدر العبد أنه يقرأ على الله واقفا بين يديه وهو ناظر إليه ، بل يشهد بقلبه كأن ربه يخاطبه بل يستغرق بمشاهدة المتكلم غير ملتفت إلى غيره سامعا منه كما قال الإمام الصادق ، وقد سئل عن حالة لحقته في الصلاة حتى خر مغشيا عليه ، فلما سري عنه قال : ما زلت أردد الآية على قلبي حتى سمعتها من المتكلم بها ، فلم يثبت جسمي لمعاينة قدرته ، ثم يتفكر فيما يتعلق بذات الله وصفاته وأفعاله ويقتبس معرفة الجلال والعظمة وفيما يتعلق بإهلاك الأعداء ويقتبس معرفة العزة والاستغناء والقهر والإفناء ، وفيما يتعلق بأحوال الأنبياء والأحباء ، ويقتبس معرفة اللطف والفضل والنعماء ، وفي الآيات الدالة على التكليف والإرشاد ، ويقتبس معرفة اللطف والحكم ويعمل بمقتضاه ( ويتدارسونه بينهم ) : والتدارس قراءة بعضهم على بعض تصحيحا لألفاظه أو كشفا لمعانيه كذا قاله ابن الملك . ويمكن أن يكون المراد بالتدارس المدارسة المتعارفة بأن يقرأ بعضهم عشرا مثلا وبعضهم عشرا آخر ، وهكذا فيكون أخص من التلاوة أو مقابلا لها ، والأظهر أنه شامل لجميع ما يناط بالقرآن من التعليم والتعلم ( إلا نزلت عليهم السكينة ) : يجوز في مثل هذا التركيب كسر الهاء وضم الميم وهو الأكثر ، وضمهما وكسرهما . والسكينة : هي الوقار والخشية يعني الشيء الذي يحصل به سكون القلب والطمأنينة والوقار ونزول الأنوار . قيل : والمراد هنا صفاء القلب بنوره وذهاب الظلمة النفسانية وحصول الذوق والشوق ، وقيل : السكينة ملك يسكن قلب المؤمن ويؤمنه ويأمره بالخير ، وذكر الطيبي عن ابن مسعود : السكينة مغنم وتركها مغرم ( وغشيتهم الرحمة ) أي : أتتهم وعلتهم وغطتهم ( وحفتهم الملائكة ) أي : ملائكة الرحمة والبركة أحدقوا وأحاطوا بهم ، أو طافوا بهم وداروا حولهم إلى سماء الدنيا يستمعون القرآن ودراستهم ويحفظونهم من الآفات ويزورونهم ويصافحونهم ويؤمنون على دعائهم ، قيل : وبلسان الإشارة بيوت الله عبارة عما يذكر فيه الحق من النفس والقلب والروح والسر والخفي ، فذكر بيت النفس الطاعات ، وذكر بيت القلب التوحيد والمعرفة ، وذكر بيت الروح الشوق والمحبة ، وذكر بيت السر المراقبة والشهود ، وذكر بيت الخفي بذل الوجود وترك الموجود . وقوله : إلا نزلت إلخ - إشارة إلى ثمرات التلاوة وهي الأنس والحضور مع الله وتمثل الأنبياء والملائكة والأرواح المقدسة في صور لطيفة ، والصعود من حضيض البشرية إلى ذروة الملكوت [ ص: 288 ] الأعلى ، بل الفرح بالبقاء والدخول تحت الفناء والقرب من اللاهوت والتبرؤ من الناسوت ، وهذا مقام يضيق عن إعلانه نطاق النطق ولا يسع إظهاره في ظهور الحروف وإن قميصا خيط من نسج تسعة وعشرين حرفا من معانيه قاصر . قال الشيخ أبو سعيد الخراز : إذا أراد الله تعالى أن يوالي عبدا من عبيده فتح عليه باب ذكره ، فإن استلذ بالذكر فتح عليه باب القرب ، ثم رفعه إلى مجالس الأنس ، ثم أجلسه على كرسي التوحيد ، ثم رفع عنه الحجاب وأدخله دار الفردانية ، وكشف له حجاب الجلال والعظمة ، فإذا وقع بصره على الجلال والعظمة بقي بلا هو ، فحينئذ صار العبد زمنا فانيا في حفظ سبحاته وبرئ من دعاوى نفسه ( وذكرهم الله فيمن عنده ) : أي الملأ الأعلى والطبقة الأولى من الملائكة ، وذكره سبحانه للمباهاة بهم ، يقول : انظروا إلى عبيدي يذكروني ويقرءون كتابي ( ومن بطأ ) : بتشديد الطاء من التبطئة ضد التعجل كالإبطاء ، والبطء نقيض السرعة والباء في ( به ) : للتعدية أي : من أخره وجعله بطيئا عن بلوغ درجة السعادة ( عمله ) : السيئ في الآخرة أو تفريطه للعمل الصالح في الدنيا ( لم يسرع به نسبه ) . من الإسراع أي : لم يقدمه نسبه ، يعني : لم يجبر نقيصته لكونه نسيبا في قومه ، إذ لا يحصل التقرب إلى الله تعالى بالنسب بل بالأعمال الصالحة . قال تعالى : إن أكرمكم عند الله أتقاكم وشاهد ذلك أن أكثر علماء السلف والخلف لا أنساب لهم يتفاخر بها ، بل كثير من علماء السلف موال ، ومع ذلك هم سادات الأمة وينابيع الرحمة وذوو الأنساب العلية الذين ليسوا كذلك في مواطن جهلهم نسيا منسيا ، ولذا قال عليه الصلاة والسلام : " إن الله يرفع بهذا الدين أقواما ويضع به آخرين " ويؤيده ما ورد في الحديث من قوله عليه الصلاة والسلام : " يا صفية عمة محمد ، يا فاطمة بنت محمد ائتوني يوم القيامة بأعمالكم لا بأنسابكم فإني لا أغني عنكم من الله شيئا " وما نقل عن أبي يزيد قدس الله سره أن مريدا له تتبع خطاه من خلفه ، فأقبل عليه قائلا : والله والله لو سلخت جلد أبي يزيد ولبسته لم تنل مثقال خردل من مقاماته ما لم تعمل عمله وأنشد :

ما بال نفسك أن ترضى تدنسها وثوب جسمك مغسول من الدنس ترجو النجاة ولم تسلك مسالكها
إن السفينة لا تجري على اليبس

( رواه مسلم ) . قال النووي في الأربعين : بهذا اللفظ .




الخدمات العلمية