الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
2106 - وعنها قالت : السنة على المعتكف أن لا يعود مريضا ولا يشهد جنازة ولا يمس المرأة ولا يباشرها ولا يخرج لحاجة إلا لما لا بد منه ، ولا اعتكاف إلا بصوم ، ولا اعتكاف إلا في مسجد جامع ، رواه أبو داود .

التالي السابق


2106 - ( وعنها ) ، أي عن عائشة ( قالت : السنة ) قال ابن الملك : أي الدين والشرع اهـ والأظهر ، أي الطريقة اللازمة ( على المعتكف ) ولفظ الشمني : مضت السنة على المعتكف ، أي اعتكافا منذورا متتابعا ( أن لا يعود مريضا ) ، أي بالقصد والوقوف ( ولا يشهد جنازة ) ، أي خارج مسجده مطلقا ( ولا يمس المرأة ) ، أي جنسها بشهوة ( ولا يباشرها ) ، أي لا يجامعها ولو حكما ، قال الطيبي : المراد باللمس المجامعة وهي مبطلة للاعتكاف اتفاقا ، وأما المباشرة فيما دون الفرج قيل : تبطل ، وقيل : لا تبطل وبه قال مالك ، وقيل : إن أنزل يبطل وإلا فلا اهـ ومذهبنا التفصيل المذكور ( ولا يخرج لحاجة ) ، أي دنيوية وأخروية ( إلا لما لا بد منه ) ، أي إلا لحاجة لا فراق فيها ولا محيص من الخروج لها ، وهو البول والغائط ، إذ لا يتصور فعلهما في المسجد ، ولذا أجمعوا عليه بخلاف الأكل والشرب أو لأمر لا بد من ذلك الأمر وهو كناية عن قضاء الحاجة وما يتبعه من الاستنجاء والطهارة ( ولا اعتكاف ) قيل : أي لا اعتكاف كاملا أو فاضلا ، ذكره الطيبي ، وعندنا ، أي لا اعتكاف صحيح ( إلا بصوم ) قال ابن الملك : وبه قال أبو حنيفة ومالك اهـ ويؤيده أيضا أحاديث ذكرها ابن الهمام : منها ما أخرجه الدارقطني والبيهقي عن عائشة قالت : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " لا اعتكاف إلا بصوم " ومنها ما أخرجه البيهقي عن ابن عباس وابن عمر أنهما قالا : المعتكف يصوم ، وفي موطأ مالك أنه بلغه عن القاسم بن محمد ونافع مولى ابن عمر قالا : لا اعتكاف إلا بالصوم لقوله - تعالى - ثم أتموا الصيام إلى الليل ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد فذكر الله - تعالى - الاعتكاف مع الصيام ، قال يحيى : قال مالك : والأمر على ذلك عندنا أنه لا اعتكاف إلا بصيام ، قال الشمني : وأيضا لم يرد أنه - صلى الله عليه وسلم - اعتكف بلا صوم ، فإن قيل في الصحيحين أنه - صلى الله عليه وسلم - اعتكف العشر الأول من شوال أجيب بأنه ليس فيه دلالة على أنه كان صائما أو مفطرا اهـ والعشر يطلق على التسع ، كما يقال : صام عشر ذي الحجة وعشر الأخير من رمضان ، وقد يكون الشهر ناقصا فلا دلالة على أن يوم العيد من جملة العشر ، ويحرم صومه ( ولا اعتكاف إلا في مسجد جامع ) [ ص: 1451 ] أي يجمع الناس للجماعة ، قال الشمني : شرط الاعتكاف مسجد الجماعة وهو الذي له مؤذن وإمام ، ويصلى فيه الصلوات الخمس ، أو بعضها بجماعة ، وعن أبي حنيفة لا يصح الاعتكاف إلا في مسجد جامع يصلى فيه الصلوات الخمس بجماعة ، وهو قول أحمد ، قال ابن الهمام : وصححه بعض المشايخ اهـ وقال قاضيان ، وفي رواية : لا يصح الاعتكاف عنده إلا في الجامع اهـ وهو ظاهر الحديث ، وعن أبي يوسف ومحمد : الاعتكاف في كل مسجد ، وهو قول مالك والشافعي لإطلاق قوله - تعالى - وأنتم عاكفون في المساجد لأبي حنيفة ما روى الطبراني في معجمه عن إبراهيم النخعي أن حذيفة قال لابن مسعود : لا تعجب من قوم بين دارك ودار أبي موسى يزعمون أنهم معتكفون ؟ ! قال : لعلهم أصابوا وأخطأت ، أو حفظوا ونسيت ، قال : أما أنا فقد علمت أنه لا اعتكاف إلا في مسجد جماعة ، قال ابن الهمام : وأخرج البيهقي عن ابن عباس أن أبغض الأمور إلى الله - تعالى - البدع ، وأن من البدع الاعتكاف في المساجد التي في الدور ، وروى ابن أبي شيبة وعبد الرزاق في مصنفيهما عن علي قال : لا اعتكاف إلا في مسجد جماعة ، وتقدم مرفوعا عن عائشة - رضي الله عنها ، وروى ابن الجوزي عن حذيفة أنه قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " كل مسجد له إمام ومؤذن فالاعتكاف فيه يصح " وأغرب ابن حجر بقوله : وأجاب الشافعي ومن تبعه عن هذا الحديث بأن ذكر الجامع للأولوية خروجا من خلاف من أوجبه اهـ وأنت تعلم أن ورود الحديث لا يعلل بالخروج من عهدة الخلاف بالاتفاق ، ثم أفضل الاعتكاف ما يكون في المسجد الحرام ، ثم مسجد النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم المسجد الأقصى ، ثم مسجد الجامع ، قيل : إذا كان يصلي فيه بجماعة ، فإن لم يكن ففي مسجده أفضل لئلا يحتاج إلى الخروج ، ثم كل ما كان أهله أكثر ( رواه أبو داود ) قال الجزري : هذا الحديث رواه أبو داود من طريق عبد الرحمن بن إسحاق عن الزهري عن عروة عن عائشة ، وقال : وغير عبد الرحمن لا يقول قالت : السنة ، ورواه النسائي من طريق يونس وليس فيه السنة ، ومن طريق مالك أيضا بدون لفظ السنة ، وعبد الرحمن زاد لفظ السنة ، وهو ثقة ، والزيادة من الثقة مقبولة ، نقله ميرك عن التصحيح ، وقال ابن الهمام : وعبد الرحمن بن إسحاق وإن تكلم فيه بعضهم فقد أخرج له مسلم ووثقه ابن معين وأثنى عليه غيره ، قال ابن حجر : وقد قالوا من روى الشيخان أو أحدهما عنه لا ينظر للطاعنين فيه ، وإن كثروا اهـ فهو حجة عليه لأن من السنة من زيادته وزيادة الثقة مقبولة فثبت كونه من السنة ، وهو بمنزلة المرفوع ، وأما قول الشارح : إن أردت بكون هذه المذكورات من السنة إضافتها إليه - عليه السلام - فهي نصوص لا يجوز مخالفتها ، أو الفتيا بما عقلته من السنة ، فقد خالفها بعض الصحابة في بعض تلك الأمور ، والصحابة إذا اختلفوا في مسألة كان سبيلها النظر اهـ فهو غفلة من القاعدة المقررة في الأصول أن قول الصحابي السنة كذا في حكم المرفوع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم ، والله تعالى أعلم .




الخدمات العلمية