الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
2265 - وعن أبي ذر ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " يقول الله تعالى : " من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ، وأزيد ، ومن جاء بالسيئة فجزاءه مثلها أو أغفر ، ومن تقرب مني شبرا ، تقربت منه ذراعا ، ومن تقرب مني ذراعا تقربت منه باعا ، ومن أتاني يمشي أتيته هرولة ، ومن لقيني بقراب الأرض خطيئة لا يشرك بي شيئا لقيته بمثلها مغفرة " ( رواه مسلم ) .

التالي السابق


2265 - ( وعن أبي ذر قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " يقول الله تعالى : " من جاء بالحسنة " أي : غير مبطلة ، ولذا لم يقل من فعل الحسنة ، والحسنة المعهودة هنا المرادة في قوله تعالى : من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها أي : بفرد من أفرادها أي فرد كان ( فله عشر أمثال ) : أي ثواب عشر حسنات أمثالها حذف المميز الموصوف ، وأقيم الصفة مقامه ، والحاصل أن له عشر مثوبات كل منها مثل تلك الحسنة في الكيفية ، وهذا أقل المضاعفة في غير الحرم بمقتضى الوعد ، ولذا قال : ( وأزيد ) : أي : لمن أريد الزيادة من أهل السعادة على عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف ، وإلى مائة ألف ، وإلى أضعاف كثيرة ( ومن جاء بالحسنة ) : أي : غير مكفرة وهي المعهودة كما سبق ( فجزاء سيئة مثلها ) أي : عدلا ( أو أغفر ) : فضلا .

قال الطيبي : اختص ذكر الجزاء بالثانية ، لأن ما يقابل العمل الصالح كله إفضال وإكرام من الله ، وما يقابل السيئة فهو عدل وقصاص ، فلا يكون مقصودا بالذات كالثواب ، فخص بالجزاء . وأما إعادة السيئة نكرة فلتنصيص معنى الوحدة المبهمة في السيئة المعرفة المطلقة وتقريرها ، وأما معنى الواو في ( وأزيد ) ، فلمطلق الجمع إن أريد بالزيادة الرؤية ، كقوله تعالى : للذين أحسنوا الحسنى وزيادة وإن أريد بها الأضعاف ، فالواو بمعنى أو التنويعية ، كما هي قوله : " أو أغفر " والأظهر ما قاله ابن حجر : من أن العشر والزيادة يمكن اجتماعهما ، بخلاف جزاء مثل السيئة ومغفرتها ، فإنه لا يمكن اجتماعهما ، فوجب ذكر " أو " الدال على أن الواقع أحدهما فقط ( ومن تقرب ) : أي : طلب القربة ( مني ) : أي : بالطاعة ( شبرا ) : أي : مقدارا قليلا . قال الطيبي : شبرا وذراعا وباعا في الشرط والجزاء منصوبان على الظرفية ، أي : من تقرب إلي مقدار شبر تقربت ) أي : الرحمة ( منه ذراعا ) قيل : أي : أوصلت رحمتي إليه مقدارا أزيد منه ، وقيل : المراد منه والله أعلم مجازاته وإثابته بأضعاف ما يتقرب به إلى الله تعالى ، وسمي الثواب تقربا على سبيل المقابلة والمشاكلة ، أو لأنه من أجله وبسببه ، وقيل : تقرب الباري سبحانه إليه بالهداية وشرح صدره لما تقرب به إليه ، وكان المعنى إذا قصد ذلك وعمله أعنته عليه وسهلته له .

قال الطيبي : هذا الحديث من أحاديث الصفات ، ويستحيل إرادة ظاهره ، فمعناه من تقرب إلي بطاعتي تقربت إليه برحمتي ( ومن تقرب مني ذراعا تقربت منه باعا ) : وهو قدر مد اليدين ، وما بينهما من البدن ، وعلى هذا كلما زاد العبد قربة من الله تعالى زاد الله رحمته به ، فذكر الذراع للتمثيل والتصوير لإفهامهم لمجازاة العبد فيما يتقرب به إلى ربه بمضاعفة لطفه وإحسانه ( ومن أتاني ) : حال كونه ( يمشي ) : أي : في طاعتي ( أتيته هرولة ) : وهي الإسراع في المشي دون العدو ، أي : صببت عليه الرحمة ، وقيل : أي : من تقرب مني بسهولة وصلت إليه رحمتي بسرعة . قال الطيبي : وهي حال أي : مهرولا ، أو مفعول مطلق ؛ لأن الهرولة نوع من الإتيان ، فهو كرجعت القهقرى ، لكن الحمل على الحال أولى ؛ لأن قرينة يمشي حال لا محالة . قال ابن حجر : وهذا كالشرح لما أفهمه إعطاء العشر ، والزيادة في مقابلة الحسنة من أن سعة تفضله على عباده بلغت الغاية التي ما وراءها غاية .

[ ص: 1544 ] قلت : كما يدل على سعة مغفرته المذكورة في قوله : " أو أغفر " قوله : " ومن لقيني بقراب الأرض " : بضم القاف ويكسر ، أي : بمثلها مأخوذ من القرب . وقال الطيبي : أي : بما يقرب ملأها من الصغائر والكبائر ( خطيئة ) : تمييز ( لا يشرك بي ) : حال من فاعل لقيني العائد إلى من ، ( شيئا ) : مفعول مطلق ، أو مفعول به أخذ من قوله تعالى : إن الله لا يغفر أن يشرك به ( لقيته بمثلها مغفرة ) : أي : إن أردت ذلك له لقوله تعالى : ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ونكتة حذفه في الحديث استغناء بعلمه منها ، ومبالغة في سعة باب الرجاء .

قال الطيبي : المقصود من الحديث دفع اليأس بكثرة الذنوب ، فلا ينبغي أن يغتر في الاستكثار من الخطايا ، قال ابن الملك : فإنه يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء ، ولا يعلم أنه من أيهم اهـ . أي : يغفر لمن يشاء على الذنب الكبير ، ويعذب من يشاء على الذنب الحقير ، أو يغفر لمن يشاء الذنوب الكثيرة ، ويعذب من يشاء على السيئة الصغيرة ، وهذا المقصود من آخر الحديث ، وأما أوله : ففيه الترغيب والتحثيث على المجاهدة في الطاعة والعبادة دفعا للفتور والتكاسل والقصور ، فالحديث معجون مركب نافع لأمراض قلوب السالكين ، ومحرك لشوق الطالبين ، ومقو لصدور المذنبين .

واعلم أنه قلما يوجد في الأحاديث حديث أرجى من هذا الحديث ، فإنه - صلى الله عليه وسلم - رتب قوله : " لقيته بمثلها مغفرة " على عدم الإشراك بالله فقط ، ولم يذكر الأعمال الصالحة ، لكن لا يجوز لأحد أن يغتر ويقول : إذا كان كذلك أكثر الخطيئة حتى يكثر الله المغفرة ، وإنما قال تعالى ذلك كيلا ييأس المذنبون من رحمته ، ولا شك أن لله مغفرة وعقوبة ، ومغفرته أكثر ، ولكن لا يعلم أحد أنه من المغفورين ، أو من المعاقبين لإبهام قوله تعالى : فريق في الجنة وفريق في السعير فإذا ينبغي أن يكون المؤمن بين الخوف والرجاء ، فإن الذي دل عليه الأحاديث المتواترة المعنى ، وصار كالمعلوم من الدين بالضرورة - ولذا كفر منكره أنه - لا بد من دخول جماعة من موحدي هذه الأمة النار ، ثم خروجهم عنها ، مع أن العبرة بحسن الخاتمة ، وهي حالة مبهمة ( رواه مسلم ) .

قال ابن حجر ، كما في النسخة المعتمدة : واغتر شارح بنسخة سقيمة وحدها مخالفة لذلك ، فاعترض بسببها على المصابيح بما ليس في محله اهـ . ولم يعرف الشارح ولا وجه للاعتراض فهو تجهيل مجهول عند أهل العلم غير مقبول ، إذ ليس تحته محصول .




الخدمات العلمية