الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
2309 - ( وعن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " قال موسى عليه السلام : يا رب علمني شيئا أذكرك به ، وأدعوك به . فقال : يا موسى قل : لا إله إلا الله . فقال ، يا رب كل عبادك يقول هذا ، إنما أريد شيئا تخصني به ، قال : يا موسى لو أن السماوات السبع وعامرهن غيري ، والأرضين السبع وضعن في كفة ، ولا إله إلا الله في كفة لمالت بهن لا إله إلا الله " . رواه في شرح السنة .

التالي السابق


2309 - وعن أبي سعيد الخدري ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( قال موسى - عليه الصلاة والسلام - يا رب علمني شيئا ) أي : من الأذكار ( أذكرك به ) : بالرفع خبر مبتدأ محذوف استئنافا أي : أنا أذكرك به ، كذا قيل ، ولا حاجة إلى ذلك بل هو صفة وليس جوابا للأمر بدليل قوله : ( أو أدعوك ) بحرف العطف ، وهو : " أو " على الأصح الأكثر ، وبالواو على الأقل ، وهو مرفوع بإثبات الواو بلا خلاف . قال الطيبي : ويجوز الجزم وعطف أدعوك بالجزم على منوال قوله : [ ولسنا بالجبال ولا الحديد ] . اهـ .

والأولى حمل نسخة الجزم على لغة حمل عليها قوله تعالى : إنه من يتقي ويصبر على قراءة إثبات الياء - وجزم ( يصبر ) اتفاقا ثم ( أو ) في الحديث ظاهره التنويع ، ويدل عليه رواية الواو ، ويحتمل أن يكون للشك أو التقدير شيئا من الذكر أو الدعاء ، فإن كل دعاء ذكر وكل ذكر دعاء ، ولأنه سؤال لطيف ، أو الدعاء بمعنى العبادة أي : أعبدك بذكره أو بمضمونه . ( فقال : يا موسى ، قل لا إله إلا الله ) : فإنه متضمن لكل ذكر ودعاء سواه مع زيادة دلالة على توحيد ذاته وتفريد صفاته .

قال الطيبي : فإن قلت : طلب موسى ما به يفوق على غيره من الذكر أو الدعاء ، فما مطابقة الجواب للسؤال ؟ قلت : كأنه قال : طلبت شيئا محالا إذ لا ذكر ولا دعاء أفضل من هذا . ( فقال : يا رب ، كل عبادك ) أي : [ ص: 1600 ] الموحدين ( يقول ) أفرد رعاية للفظ ( كل ) دون معناه ( هذا ) أي : هذا الكلام ، أو هذا الذكر ( إنما أريد شيئا تخصني ) أي : أنت ( به ) أي : بذلك الشيء من بين عموم عبادك ، فإنه من طبع الإنسان أن لا يفرح فرحا شديدا إلا إذا اختص بشيء دون غيره ، كما إذا كانت عنده جوهرة ليست موجودة عند غيره ، وكذا من الأسماء والدعوات والعلوم الغريبة والصنائع العجيبة ، مع أن من سنة الله تعالى التي بها جرت العادة ، وهي من رحمته الشاملة ورأفته الكاملة أن أعز الأشياء أكثرها وجودا ، كالعشب والملح والماء دون اللؤلؤ والياقوت والزعفران ، ومثل المصحف الشريف ، وهو أعز الكتب يوجد أكثر وأرخص من غيره ، وعلم الكيمياء ونحوه مما هو خيالات فاسدة ، وصاحبها من جهله يفرح به ما لا يفرح بعلم القرآن والسنة . والحجر الأسود الذي يمين الله في أرضه يصافح بها عباده ، وهو أفضل من مقام إبراهيم الذي دخل فيه قدمه - عليه الصلاة والسلام - والعوام الآن يفرحون بزيارة المقام أكثر من استلام الركن الأسعد . ومنها : الكلمة الطيبة ، وكلمة الشهادة التي هي أشرف الكلمات ، وأنفس العبادات ، وأفضل الأذكار ، وأكمل الحسنات ، وهي أكثر وجودا وأيسر حصولا ، والعوام يتركونها ويتبعون مواظبة الأسماء الغريبة ، والدعوات العجيبة التي غالبها لا أصل لها في الكتاب والسنة ، فكأن الله تعالى أجرى على لسان سيدنا الكليم ما يكون سببا للجواب من الرب العظيم لتظهر جلالة هذه الكلمة عند الخواص والعوام ، ويعتنون بها في كل زمان ومقام لتحصيل المقصود والمرام ، وما ذلك إلا لأنها قطب دائرة الأذكار ومركز نقطة الأسرار ، ولهذا ورد : لا إله إلا الله ليس لها حجاب دون الله حتى تخلص إليه ( قال يا موسى : لو أن السماوات السبع ) : قال الطيبي : حاصل الجواب أن ما طلبت من أمر مختص بك فائق على الأذكار كلها محال ، لأن هذه الكلمة ترجح على الكائنات كلها من السماوات وسكانها ، والأرضين وقطانها . اهـ .

والأظهر أن حاصل الجواب أن هذه الكلمة أفضل الذكر كما ورد في الحديث المتقدم ، وإنما خصوصية الخواص باعتبار فهم مبانيها ، وتحقيق مبانيها ، والتحقق بما فيها والتخلق بما يتعلق بها من القيام بحقها ، والإخلاص في ذكرها ، والمداومة عليها ، والمحبة والميل إليها ، والتلذذ والسرور بها . والمراقبة والحضور والمشاهدة بصاحبها ، وغير ذلك من بقية أحكامها ( وعامرهن ) : بالنصب عطف على السماوات ، قيل : عامر الشيء حافظه ومصلحه ومدبره الذي يمسكه من الخلل ، ولذلك سمي ساكن البلد والمقيم به عامره من عمرت المكان : إذا أقمت فيه ، والمراد المعنى الأعم الذي هو الأصل ليصح استثناؤه تعالى منه بقوله : ( غيري ) : قاله الطيبي . وقال غيره : أي ساكنهن والاستثناء منقطع ، أو ممسكهن والاستثناء متصل لقوله تعالى : إن الله يمسك السماوات والأرض أن تزولا وقيل : المراد هنا جنس من يعمرها من الملك وغيره ، والله تعالى عامرها خلقا وحفظا ، وقد دخل فيه من حيث يتوقف عليه صلاحها توقفهن على الساكن ، ولذا استثنى وقال : غيري أو يراد بالعامر حاضر ، والله تعالى حاضر فيهن علما واطلاعا ( والأرضين ) : بفتح الراء ويسكن ( السبع ) أي : الطباق ، وقيل : الأقاليم وهو ضعيف لقوله تعالى : الله الذي خلق سبع سماوات ومن الأرض مثلهن ولما ورد من الأخبار والآثار المصرحة بأنها طباق . ( وضعن ) : بصيغة المجهول ( في كفة ) : بكسر الكاف وتشديد الفاء من كفتي الميزان يطلق لكل مستدير ، ( ولا إله إلا الله ) أي : مفهوم هذه الكلمة أو ثوابها وضع ( في كفة ) : ويدل عليه حديث البطاقة ( لمالت بهن ) أي : لرجحت عليهم وغلبتهن ، لأن جميع ما سوى الله تعالى بالنظر إلى وجوده تعالى كالمعدوم ، إذ كل شيء هالك إلا وجهه ، والمعدوم لا يوازن الثابت الموجود ، وهذا معنى قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث البطاقة : " ولا يثقل مع اسم الله شيء " ( لا إله إلا الله ) : وهو من باب وضع الظاهر موضع الضمير ، ويمكن أن يكون للتعجب أو تكريرا للتلقين [ ص: 1601 ] ( رواه ) أي : البغوي ( في شرح السنة ) : أي بإسناده .

ورواه ابن حبان ، والنسائي ، عن أبي سعيد ، والبزار عن ابن عمر مرفوعا بلفظ : لو أن أهل السماوات والأرضين السبع في كفة ولا إله إلا الله في كفة مالت بهم ) أي : لرجحت وزادت عليهم ، وقيل : الباء للتعدية أي : أمالتهن ، وكان التفسير بالرجحان والزيادة تفسيرا باللازم ، وضمير ذوي العقول تشريفا لهم كما أن عكسه تغليبا لكثرتهن ، وهذا الحديث أصرح صريح على أن لا إله إلا الله أفضل الذكر ، إذ لا ثواب أعظم من ثوابها .




الخدمات العلمية