الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
19 - وعن أبي سعيد الخدري ، قال : خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أضحى أو فطر إلى المصلى ، فمر على النساء فقال : ( يا معشر النساء تصدقن ، فإني أريتكن أكثر أهل النار ) ، فقلن : وبم يا رسول الله ؟ قال ( تكثرن اللعن ، وتكفرن العشير ، ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب للب الرجل الحازم من إحداكن ) قلن : ما نقصان ديننا وعقلنا يا رسول الله ؟ قال : ( أليس شهادة المرأة مثل نصف شهادة الرجل ؟ ) قلن : بلى ، قال : ( فذلك من نقصان عقلها ) قال : أليس إذا حاضت لم تصل ولم تصم ؟ ) قلن : بلى . قال : ( فذلك من نقصان دينها ) . متفق عليه .

التالي السابق


19 - ( وعن أبي سعيد الخدري ) منسوب إلى خدرة ، بضم الخاء وسكون الدال المهملة ، حي من الأنصار . هو سعد بن مالك الأنصاري ، اشتهر بكنيته ، كان من الحفاظ المكثرين ، روى عنه جماعة من الصحابة والتابعين ، مات سنة أربع وستين ، ودفن بالبقيع وله أربع وثمانون سنة - رضي الله عنه - ( قال : خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أضحى ) بفتح الهمزة والتنوين ، واحده أضحاة ، لغة في الأضحية ، أي في عيد أضحى - على حذف المضاف ، بل غلب على عيد النحر ، فحينئذ مغن عن التقدير كالفطر ، وفي بعض النسخ بترك التنوين ، سمي بذلك لأنه يفعل وقت الضحى وهو ارتفاع النهار ( أو فطر ) شك من الراوي ( إلى المصلى ) أي المسجد الذي يصلى فيه صلاة العيد ، وهو الموجود إلى اليوم خارج السور في المدينة المشرفة ( فمر على النساء ) : مر يتعدى بعلى كالباء ، ويحتمل أنه قصدهن للوعظ أو : لما مر بهن وعظهن ( فقال : يا معشر النساء ) أي جماعتهن ، والخطاب عام غلبت الحاضرات على الغيب ( تصدقن ) أمر لهن أي أعطين الصدقة ( فإني أريتكن ) على طريق الكشف ، أو على سبيل الوحي ( أكثر أهل النار ) على صيغة المجهول من أري إذا أعلم ، وله ثلاثة مفاعيل ؛ أحدها : التاء القائمة مقام الفاعل ، والثاني : [ ص: 93 ] كن ، والثالث : أكثر ، أي أعلمت بأنكن أكثر دخولا في النار من الرجال ، والصدقة تقي منها . كل امرئ في ظل صدقته حتى يقضى بين الناس ، اتقوا النار ولو بشق تمرة ؛ ولأن علة كونهن أكثر أهل النار محبتهن للدنيا ، وبالتصدق يزول ، أو ينقص رذيلة البخل الناشئ عن محبتها المذمومة ، ولهذه النكتة ورد : ( اليد العليا خير من اليد السفلى ) . ( فقلن : وبم يا رسول الله ؟ ) أصله بما حذفت ألف ما الاستفهامية بدخول حرف الجر عليها تخفيفا ، والباء للسببية متعلقة بمقدر بعدها ، والواو إما للعطف على مقدر قبله ، والتقدير : فقلن كيف يكون ذلك ، وبأي شيء نكون أكثر أهل النار ؟ أو زائدة ليدل على أنه متصل بما قبله لا سؤال مستقل بنفسه منقطع عما قبله . ( قال : تكثرن اللعن ) أصله إبعاد الله تعالى العبد من رحمته بسخطه ، ومن الإنسان الدعاء بالسخط والإبعاد على نفسه أو غيره ، وفيه مصادرة لسعة رحمته التي سبقت غضبه ، ومن ثم اتفق العلماء على تحريمه لمعين ، ولو كافرا لم يعلم موته على الكفر يقينا ؛ إذ كيف يبعد من رحمة الله من لا يعرف خاصة أمره ، وإن كان كافرا في الحالة الراهنة ؛ لاحتمال أن يموت مسلما ؟ بخلاف من علم من الشارع موته كافرا كأبي جهل ، أو أنه سيموت كذلك كإبليس فإنه لا حرج في لعنه ، وبخلاف اللعن لا لمعين بل يوصف كلعن الله الواصلة وآكل الربا والكاذب ؛ لأنه ينصرف إلى الجنس ، ولعل وجه التقييد بالإكثار أن اللعن يجري على ألسنتهن لاعتيادهن من غير قصد ؛ لمعناه السابق ، فخفف الشارع عنهن ولم يتوعدهن بذلك إلا عند إكثاره ، ونظيره ما قاله بعض الأئمة : إن الغيبة صغيرة ، ووجهوه بأن الناس ابتلوا بها ، فلو كانت كبيرة على الإطلاق كما جرى عليه كثيرون ، بل حكي عليه الإجماع - للزم تفسيق الناس كلهم أو غالبهم ، وفي ذلك حرج أي حرج ، وقد يستعمل في الشتم والكلام القبيح يعني : عادتكن إكثار اللعن والشتم والإيذاء باللسان ( وتكفرن ) : بضم الفاء ( العشير ) أي المعاشر الملازم ، وهو الزوج هاهنا ، وكفرانه جحد نعمته وإنكارها ، أو سترها بترك شكرها . وفي الحديث : ( ومن لم يشكر الناس لم يشكر الله ) يعني شكرا كاملا فإنه شكر المسبب ولم يشكر السبب ، واستعمال الكفران في النعمة والكفر في الدين أكثر . ( ما رأيت من ناقصات عقل ودين ) " من " مزيدة للاستغراق ، صفة لمفعوله المحذوف أي : ما رأيت أحدا من ناقصات ، وقيل : يحتمل أن يكون بيانا لإحداكن على المبالغة أو بالعكس ، وقوله : ( أذهب ) : صفة لمحذوف أي أحدا ، وعلى الأول صفة أخرى له إن كان بمعنى أبصرت ، ومفعول ثان لرأيت إن كان بمعنى علمت ، والمفضل عليه مفروض مقدر ، وهو أفعل التفضيل من الإذهاب ؛ لمكان اللام في قوله : ( للب الرجل ) فمعناه : أكثر إذهابا للب ، وهذا جائز على رأي سيبويه كـ " هو أعطاهم للدراهم " ، ثم العقل غريزة يدرك بها المعنى ، ويمنع عن القبائح ، وهو نور الله في قلب المؤمن ، واللب العقل الخالص من شوب الهوى ( الحازم ) صفة الرجل أي الضابط أمره ، وفي ذكره مع ذكر اللب إشعار بأن فتنتهن عظيمة تذهب بعقول الحازمين ، فما ظنك بغيرهم ؟ ( من إحداكن ) متعلق بأذهب ، وإنما لم يقل : منكن ؛ لأن الواحدة إذا كانت على هذه الصفة الذميمة فكونهن عليها أولى من غير عكس ، وما أحسن قول جرير في وصف عيوبهن :

يصرعن ذا اللب حتى لا حراك به وهن أضعف خلق الله أركانا

( قلن : وما نقصان ديننا وعقلنا يا رسول الله ؟ ) مع أن ديننا ودين الرجل واحد ، وكلنا معدودون من ذوي العقول ، ولعلهن خالفن الترتيب السابق الموافق للاحق ؛ إشارة إلى الاهتمام بأمر الدين ليتداركن إن كان مما يمكنه التدارك ، أو إيماء إلى نقصان عقلهن حيث ما راعين كلام النبوة ، وما فهمن وجه الترتيب من أن نقصان العقل أمر جبلي مقدم في الوجود ، ونقصان الدين أمر حادث ، أو لأن الغالب إنما ينشأ نقصان الدين من نقصان العقل ، ثم هذا السؤال من حذاقة أولئك الحاضرات ، ومن ثمة مدحهن - صلى الله عليه وسلم - بقوله : ( نعم النساء نساء الأنصار ، لم يمنعهن الحياء أن يتفقهن في الدين ) ، وفي هذا وما قبله حث للمتعلم على مراجعة العالم فيما لم يظهر له معناه قال : ( أليس شهادة المرأة مثل نصف شهادة الرجل ) ؛ لقوله تعالى : ( فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ) [ ص: 94 ] ( قلن : بلى . قال : ( فذلك ) : إشارة إلى أن الحكم السابق والكاف لخطاب العام ، ويحتمل الكسر ؛ ولذا لم يقل : " ذلكن " مع كون الخطاب للنساء . وقال العسقلاني : بكسر الكاف خطاب للواحدة التي تولت الخطاب ، ويجوز فتحها على أنه خطاب للعام . ( من نقصان عقلها ) : ولذا قال تعالى : ( أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى ) ( قال ) : لعل إعادة " قال " ليدل على أنه قول مستقل راجع إلى نظيره السابق ، وليس من تتمة هذا القول القريب ، وهو موجود في أكثر النسخ ، وأما في أصل السيد جمال الدين ومن صحيح البخاري فغير موجود ، والله أعلم . ( أليس ) : اسمها ضمير الشأن ، وخبرها قوله : ( إذا حاضت لم تصل ولم تصم ؟ ) قلن : بلى . قال : ( فذلك ) أي كونها غير مصلية ولا صائمة ( من نقصان دينها ) يعني في الجملة ؛ لأنها حرمت من ثواب الصلاة فإنها لا تقضي ، ومن كمال ثواب الصوم حيث لم يقع في وقت الفضيلة مع مشاركة المؤمنين في الطاعة ، ولعل هذا وجه إيراده في هذا الباب ، والله أعلم بالصواب . ( متفق عليه ) : ورواه النسائي ، وابن ماجه .




الخدمات العلمية